مقالات

بعد أربعين سنة من "مطاردته" «أوديسا الفضاء» بتحفته «بليد رانر»

في العام 1983 وبعد عقد ونصف العقد من ظهور فيلم «2001 أوديسا الفضاء» لستانلي كوبريك المأخوذ من قصة قصيرة عنوانها «الخفر» لآرثر سي. كلارك، أحس مخرج الأفلام الدعائية البريطاني ريدلي سكوت أن الوقت بات مناسبًا له كي يخبط خبطة سينمائية تضعه في المقدمة مع كوبريك، وكان ذلك من خلال اقتباسه واحدةً من أعظم روايات الخيال العلمي في تاريخ النوع، «بليد رانر» للأميركي الكبير فيليب كي. ديك. صحيح أن فيلم «بليد رانر» حقق نجاحًا نقديًا وجماهيريًا كبيرًا، لكن ذلك النجاح وضعه تاليًا في المكانة لكوبريك ولكن من بعيد بالتأكيد، فالتجربة قالت لسكوت يومها أنه من الجيد أن يكون لمخرج من طينته طموح الدنو من كوبريك. ولكن لا يمكن أن يكون كوبريك جديدًا كل من أراد ذلك. مهما يكن، سنوات قليلة بعد ذلك ورحل كوبريك، مخلفًا ثلاث عشرة تحفة سينمائية لا تُضاهى، حتى وإن ظل سكوت يتطلع إلى مضاهاتها. وكان في يقينه أن المضاهاة ستكون يومًا من خلال فيلم لم يحققه صاحب «أوديسا الفضاء» قط، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها في سبيل ذلك، وهي جهود يختصرها اليوم مجلد متعدد اللغات صدر في نحو ألف صفحة، يضم الوثائق المتعلقة بمشروع نظر إليه المؤرخون بوصفه واحدًا من أعظم ثلاثة أفلام شبحية (وهو مصطلح يشير في عالم الإنتاج السينمائي إلى أفلام حملها أصحابها وحلموا بها لكنهم لم يحققوها لأسباب شديدة التنوع) في تاريخ السينما.

من المعتقد على أية حال أن ريدلي سكوت خاض محاولات، بل حتى مفاوضات، بغيةَ الاستحواذ على مشروع «نابليون» الكوبريكي الذي كان صاحب «باري ليندون» و«برتقالة آلية» قد جمع في سبيله نحو خمسة عشر ألف صورة وجمع له ألوف الوثائق وحبّر عشرات الألوف من الملاحظات والصفحات، لكنه رحل دون أن ينجزه ويراه على الشاشة. أما بالنسبة إلى سكوت فإنه، إذ عجز عن وضع يده على ذلك المشروع الذي كان يعتقد أنه سيضعه حقًا هذه المرة في مصاف ذلك السيد السينمائي الكبير، صاغ لنفسه نابليونه الخاص الذي اشتغل عليه بدوره سنواتٍ طويلة، فكانت النتيجة أن الفيلم الذي عُرض أواسط عام 2023، بدلاً من أن يمنح سكوت مكانة تقارَن بمكانة كوبريك، وسع الهوة بينهما قائلاً لسكوت: لا يمكن أن يكون كوبريك جديدًا كلُ مَن أراد ذلك، ولو كان صاحب «بليد رانر». كل ما تمكن سكوت من تحقيقه في «نابليون» كان إضافة اسمه إلى أسماء مئات السينمائيين الذين حققوا منذ فجر ولادة السينما نحو ألف فيلم يدور حول الجنرال الكورسيكي الفرنسي القصير الذي حكم اثني عشر عامًا، تاركًا إرثًا تاريخيًا لا يُضاهَى، وأعمالاً فنية في شتى صنوف الفن، خلدته أو سخرت منه، وحلمًا بالعظمة يداعب المخيلات. 

فهل قلنا ألف فيلم؟ أجل.. ففي النهاية، بالأفلام السبعمائة الروائية التي دار معظمها حول شخصية بونابرت، إلى جانب ثلاثمائة أفلام أخرى تتوزع بين وثائقية وتلفزيونية وحتى أفلام تحريك، يمكننا أن نقول إن شخصية نابليون بونابرت هي واحدة من أكثر الشخصيات التاريخية ظهورًا على الشاشات على الإطلاق. والطريف اللافت هنا هو أن «الفيلم» الذي لم يحققه كوبريك يبقى أعظمها وأبهظها كلفة حتى بالنسبة إلى القارئ الذي لن يجد أمامه للتعرف إليه وسيلةً أفضل من اقتناء نسخة مجلدة وأنيقة من كتاب الألف صفحة الذي يحمل اليوم مشروع كوبريك، والذي أصدرته «منشورات تاشن» الألمانية ليباع مقابل 50 يورو للنسخة الواحدة.

إذًا، منذ بدايات السينما وتحديدًا في العام 1897 التالي لعروض الصورة المتحركة الأولى على يد الأخوين الفرنسيين لوميير في قاعة المقهى الهندي في «الجادات الكبرى» الباريسية، وحتى قبل أن يقدِم الأخوان على تحقيق شريط تاريخي أول لهما يدور حول لقاء نابليون ببابا روما، كان ثمة فيلم مبكر جدًا للفرنسي جورج هاتو يدور حول نابليون في الجندية. ومنذ ذلك الحين لم تتخلَّ السينما الفرنسية، وغير الفرنسية، عن نابليون ولو عامًا واحدًا. غير أن الفيلم الأول الذي يستأهل هنا الإشارة إليه سوف يحققه لوي فوياد في العام 1909 بعنوان «ملمح طيبة في شخصية نابليون الأول»، ليتلوه -بعد شريط روسي حول مغامرة نابليون في روسيا- فيلم عنوانه «نابليون في جزيرة سانت هيلانه» من إخراج ماريو كازيريني (1911) وهو الموضوع نفسه الذي سيحمل آخر أحلام الفرنسي باتريس شيرو، سيد المسرح والأوبرا، قبل رحيله بعد عقود من قيامه بدور الإمبراطور في فيلم يوسف شاهين «وداعًا بونابرت» (1985) الذي يمكن اعتباره واحدًا من أفضل الأفلام التي حُقِّقت حول نابليون في تاريخ الفن السابع ومساهمة جدية عربية وحيدة للدنو من القائد الفرنسي وحملته المصرية، وكان إنتاجًا مصريًا – فرنسيًا مشتركًا على أية حال صُوّر في مصر. ولنذكر هنا أن التسعين عامًا الفاصلة بين الفيلم النابليوني الأول وفيلم شاهين، حتى وإن كانت قد شهدت مئات الأفلام التي أشرنا إليها، لم تحمل سوى قليل من الأفلام النابليونية التي أتت مقنعة تاريخيًا ومرموقة فنيًا، أي على مستوى شخصيةِ، بل حتى تركيبيةِ شخصيةِ ذلك الوجه التاريخي، فلو تصفحنا اللوائح المعنية سنجد أنفسنا في نهاية الأمر أمام ما لا يزيد عن سبعين أو ثمانين فيلمًا يليقون بسمعة «الإمبراطور» ومكانته التاريخية، وكان يمكنه أن يكون راضيًا عنها أو حتى مغتاظًا منها ومما تحمله من معانٍ لو كان لا يزال بيننا.

ولعل الأكثر أهمية من بين تلك الأفلام فيلم الفرنسي آبيل غانس «نابليون» الذي حققه هذا بنوع مبتكر من شاشة عرض مؤلَّفة من ثلاث شاشات تبث عليها ثلاث آلات عرض صورًا متزامنة. كان ذلك في عام 1927، أي قبل عامين من ظهور السينما الناطقة، ما سيستدعي عودةً تقنيةً إلى الفيلم نفسه لإضافة الصوت إليه مرات عديدة لاحقًا، دون أن يفوتنا أن غانس قد استعان -منذ العروض الأولى للفيلم صامتًا- بأوركسترا ضخمة نشرت موسيقى خاصة في أرجاء الصالات التي كانت تعرضه.

والحقيقة أن فيلم غانس فتح الطريق واسعًا أمام عشرات الشرائط التي راحت تغوص في الموضوع نفسه وقد أضحى الإمبراطور شخصية سينمائية مرغوبة بقوة، حينًا من خلال معاركه التي راح معظمها يشكل موضوع الفيلم بمفرده كما حال معركة أوسترليتز التي حقق عنها غانس نفسه فيلمه النابليوني التالي، كما معركة واترلو التي سيحقق عنها الروسي الكبير سيرغي بوندارتشوك فيلمًا خاصًا بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلمه الأول «الحرب والسلام» في اقتباس رائع من رواية ليو تولستوي، والذي تشغل فيه معارك بونابرت في روسيا حيزًا أساسيًا وقد اعتُبرت من أعظم المعارك السينمائية حتى ذلك الحين (1967)، كما أن بعضها يطاول علاقة الإمبراطور بجوزفين وغرامياته النسائية، فيما تناول عدد آخر منها محاولته استعادة السلطة بعد فراره من سجنه الأول... إلخ. بل ثمة واحد من الأفلام «النابليونية» الطريفة، وكان ذاك الذي حققه ساشا غيتري في عام 1948 بعنوان «الشيطان الأعرج»، كما أنه ثمة أفلام عديدة تتحدث عن الإمبراطور من خلال هذا أو ذاك من جواسيسه، بل إن السينما لم تنسَ في طريقها تناوُلَ علاقة بلاط نابليون بالمصرفيين من آل روتشيلد! الحقيقة أن كل أنواع الموضوعات كانت متاحة للدنوّ السينمائي من تلك الشخصية التاريخية، ويقينًا أنه ليس في مقدورنا هنا تعداد الأفلام والموضوعات التي دنت من تلك الشخصية، بما في ذلك حتى الأفلام التي أُخذت من نصوص أدبية تاريخية يُفترض أن نابليون يمر بها مرور الكرام، لكن حضوره ضُخّم سينمائيًا بشكل بدا غالبًا مفتعلاً. ومع ذلك لا بد أن نعود هنا إلى حقيقة تتعلق بـ....الأحلام: الأحلام التي كثيرًا ما حملها سينمائيون كانوا يعرفون يقينًا أن مشروعًا عن نابليون يحققونه كفيلٌ بإيصالهم إلى قمة المجد. 

وطبعًا كان ستانلي كوبريك -ويبقى- سيد هؤلاء، ليبقى مشروعه، كما أشرنا، أعظم المشروعات الشبحية التي خلّدها عدم تحققها بقدر ما كان يمكن لتحققها أن يفعل. ويمكننا أن نفترض -وتحديدًا على ضوء أداء الفرنسي باتريس شيرو لدوره في «بونابرت» يوسف شاهين، ولكن أيضًا على ضوء تحقيقه الفعلي لفيلمه «الملكة مارغو» المأخوذ من رواية ألكسندر دوما، من بطولة إيزابيل أدجاني (سعفة «كان» الذهبية مع مفتتح القرن الحادي والعشرين)- كيف كان يمكن لحلمه بفيلم، لم يحققه، عن الفترة التي قضاها بطله سجينًا، أن يضيف إلى السينما النابليونية. وهو ما يمكننا أن نقوله على أية حال عن حلمين سينمائيَين كبيرين آخرين من المؤسف أنهما لم يتحققا: حلم حمله شارلي شابلن بأن يحقق ويؤدي نابليونًا على طريقته الخاصة، فمات دون أن يحققه، وحلم يبدو أكثر طموحًا على أية حال، حمله ولا يزال يحمله بيتر جاكسون مخرج سلسلة أفلام «سادة الخواتم» والذي قد يفاجئنا بتحقيقه يومًا.. إنما عبر عمل لا يكون مصيره مصير فيلم ريدلي سكوت الذي ردع كثيرين عن خوض مثل تلك التجارب ومنهم من يريد أن يقتدي بـ...ستانلي كوبريك، بكل جدية!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. إبراهيم العريس
June 5, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا