ويجيء يوم على الناس تُرفع فيه آيات القرآن من الصدور والألسُن والصحف فلا يبقى له من ذكر، وإذا ما كان في منزل المرء نسخة من المصحف الشريف فإن تناساها اغبرّت خاويةً وإن فتحها لم يجد إلا أوراقًا بيضاء، ولعله يُفزع كما فُزع «صمدو» بطل الفيلم وهو في سكرته غريق لا يتعلق بقشة، بل يستنجد بالمصحف، فإذا ما فتحه وجده ينطوي على ورق أبيض خال من الآيات الكريمة، وتلك من أشراط الساعة كما هو معلوم، غير أن الشمس لم تُشرق من مغربها بعد، وما زال القرآن الكريم بين أيدينا محفوظًا ومذكورًا في الصدور ومُقتبسًا في بداية الفيلم: سورة العصر ونحن في «أحلام العصر».
أما «العصر» كما ورد في قَسَم الآية الكريمة فقد رجح العلماء والمفسرون أن معناها الدهر، ولغةً فالعصر هو الجزء أو الكل من الزمن. ونقول، في كلامنا اليوم، العصرَ أي وقت ما بعد منتصف النهار إلى نهايته. ومنها جاء كلام الناس عن «أحلام العصر» فالنوم في هذا الوقت يسبب الكوابيس ويستيقظ منه النائم وهو في ضيق وانزعاج شديدين. ولذلك أسبابه العلميّة. إلا أننا إن عدنا إلى تأويل العالم -والسينما خصوصًا- بوصفها حلمًا كبيرًا، وأحلامًا بداخل أحلام كما علّمنا «آلن بو»، فإن ما نعانيه من «أحلام العصر» ليس له أسباب واضحة ولا تفاسير.
إذن، فنحن أمام عمل يرمي من بدايته بظلال للمعاني. هذا وما نزال عند عتبته وحسب، عند العنوان. يشير هذا إلى ذكاء فذّ في الكتابة بحيث رُبط بالقول الدارج «أحلام العصر» أكثر من حقل: فإن وددت المعنى على أنه كابوس وحسب، جاز لك ذلك، وإن أردته -في حقل ثان- أحلامًا وطموحًا للعصر الراهن، فما ابتعدت عن المعنى، ولو شئت أن ترمي بظل كبير لمفهوم الحلم بوصفه الوجود والعصر على أنه الدهر كاملاً -في حقل ثالث- ففي ذلك وجه. هذه هي قوّة الفن، الفيلم، أنه وإن ضاق في حدود إطارات بعينها فإنه يوسّع الرؤية.. ولكلٍّ رؤيته حتى لو كان صفيقًا مثلي ويتلاعب بكلام «النّفري».
يحكي الفيلم قصّة نجمين -نجم ونجمة- قصة «صمدو» لاعب كرة القدم المعتزل والنجم الآفل، وقصة «أحلام» ابنته ونجمة السوشال ميديا. وبينما تريد الابنة التنجيم أكثر في سموات السوشال ميديا بالتعاقد مع أكبر وكلاء أعمال للمشاهير من أجل امتلاك الفيلا الموعودة والاستقرار المادي، يرى الأب في هذا فرصة لإعادة نجوميته والانتقام لسمعته. القصة، في لبنتها الأولى، تبدو غايةً في البساطة، ولمّاحةً في الوقت نفسه. ويكمن ذلك بالضبط في التقاط الفرق بين النجومية ما قبل ثلاثين عامًا، تقريبًا، والنجومية اليوم. وإذا ما كانت نجومية زمان تُفضي في أسوأ أحوالها إلى النسيان فإن نجومية اليوم قد توقع في مهالك لا يُحمد عقباها كما حدث لـ«أحلام» و«صمدو»، وبالمثل فإن بساطة القصة في بدايتها تنتهي بتعقيدات متشابكة.
نعرف الطبقية، بكل تأكيد. إنها من مسلّمات الدنيا -ولك أن تقول بأن هذا ابتلاء من الله أو بلية من الرأسمالية، أنت ونظرتك أو طبقتك!- إلا أن حالة السوشال ميديا قد أفرزت طبقة جديدة وعجيبة، ولنتوافق على تسميتها بـ«الطبقة المزيَّفة» أو «الواجهة»، تسميةً جدليةً لا أكثر، وهي تلك الطبقة التي لا هي بالطبقة العليا التي تملك المال امتلاكًا حرًّا وبالتي تمتلك النفوذ، ولا هي بالطبقة المتوسطة الساعية إلى رزقها، يومًا بيوم، ولا بالطبقة المدقعة في الفقر والتي لا حيلة لها غير الشحاذة، بل هي طبقة تملك من كل طبقة من الطبقات الثلاث خصلةً أو أكثر: فهي بالفعل تملك المال، إلا أنه مال غير حر (بمعنى أنهم مموَّلون من جهة أخرى تأخذهم كواجهة) وبالتالي فإن نفوذهم معدوم أو يكاد، بالمعنى السلطوي؛ ولهم من الطبقة المتوسطة السعي يومًا بيوم في سبيل المحافظة على لمعان النجومية (استمرارية الوجود على السوشال ميديا)؛ وأخذوا خصلة طبقة «الحكاكة» الوحيدةَ: الشحاذة (انظر في معنى المال الحر، أعلاه). إذن، في حالة لم تعجبنا أي من التسميتين السابقتين نستطيع تسميتها براحة بال: الطبقة المسخ!
«آلاء» (فاطمة البنوي) و«حكيم» (حكيم جمعة) أشهر «كابل» (couple) في المنطقة ووكيلا الأعمال مثّلا خيرَ تمثيلٍ هذه الطبقة، ورأينا فيهما خصالَ الطبقة إياها الثلاثَ: المال والنفوذ في يد «الشيخ» الذي يديرهم من الخلف، وهما كل يوم في شغل من أجل المحافظة على «الترند» بحشد أكبر عدد ممكن من النجوم، ويتضح لنا في النهاية أنهما ليسا أكثر من شحّاذَين لرضى «الشيخ» وماله. لو تأملنا في هذه الحالة فسوف نرى أنها تبدأ وتنتهي بـ«الشيخ»، أو بسلطة المال بمفهوم أوسع، وكأنهما محصوران في حلقة مفرغة. مع مرور أحداث الفيلم، تتكشف لنا الخبايا، ونكتشف أن خلف هذه «الواجهة» يوجد «الشيخ» وهو التاجر الفاسد الذي يستخدمهما للتمويه، في سبيل غسيل الأموال. إذن، فالـ«الشيخ» كما ذُكر في الأمثال، قديمًا، «يذرُّ الرماد في العيون» بهؤلاء المشاهير، أو بلغة حديثة «يكشَحُ فلاشات النجوم على العيون».
إن قلنا عن «آلاء» (البنوي) و«حكيم» (جمعة) أنهما مثّلا خيرَ تمثيلٍ فإننا نقصد بذلك كلا المعنيين، تمثيلاً للصورة والرمز، وكذلك فنيًّا. لقد قام أغلب الفنانين، تمثيليًّا، بأدوراهم على أتم وجه. ولن أنكر أنني، على صعيد شخصي، كنت متخوّفًا كثيرًا من أداء دور «صمدو» (صهيب قدس) إلا أن الرجل قد أبدع في الأداء وأظهر موهبة متميزة خصوصًا في الجانب الدرامي. لقد كان التوازن بين الكوميدي والدرامي في رسم الشخصية وأدائها محسوبًا بدقة. المفاجأة، للجميع على ما يبدو من ردود الفعل حول الفيلم، كانت البطلة «أحلام» (نجم)؛ وإذا كان حديثنا عن النجومية بمعناها السلبي هنا، فإن «نجم» قد نجّمت بالفعل، إنما بالمعنى الجيد للكلمة. من جهة أخرى فإن شخصية «جمبري» (إسماعيل الحسن) والتي كان من المفترض أن تخفف حدة توتر البطلة وتضفي كوميديا خفيفة على المواقف، لم تكن بالموفّقة، للأسف الشديد، لا أداءً ولا كتابةً، ولو استُغنِي عنها بالتمام، لما ضر ذلك. إن سمة القبول الشخصي للمثل هي ما تشفع له وحسب، أما أداءً فلقد صار يكرر نفسه في غالبية أدواره، وهذا مؤسف في حق هكذا موهبة جميلة. ذات الكلام ينطبق على الشخصية التي قام بدورها «عبد العزيز الشهري» من ناحية الأداء لا الكتابة، أما ما قام به «براء عالم» في دوره فهو يظل في منطقة وسطى، عادية وباهتة، كأغلب ما قدّم من أدوار، وذلك يدعو للتساؤل إن كان الشغف وحده يكفي بالفعل لصنع ممثل حقيقي؟
ما من مبالغة في القول بأن السينما المحلية في هذه الفترة تحديدًا من تاريخها تحتاج أشد الاحتياج إلى أصوات مختلفة وجريئة إخراجيًّا، أصوات تقتحم بثلاث ساعات وبنبرتها الشخصية، بالمزيج ما بين «الأنميشن» و«اللايف آكشن» وبعدستها التي لا تحاول تزلّف الجمهور على الطالع والنازل (أول ربع ساعة من الفيلم + مشهد السُّكر والغرق الطويل لبطل الفيلم، مثلًا). وبما أن المخرج «فارس قدس» كان واحدًا من الكتّاب الثلاثة (فارس وصهيب قدس، وعمر باهبري) فإنه يؤشر على إمكانية وجود سينما مؤلف سعودية جادة في المستقبل القريب، وهذه هي السينما التي تعتمد عليها الثقافات في تاريخها أمام الآخرين. إن «أحلام العصر» تحقيق لجزء من أحلام سينما حقيقية تناقش وتهجو وتمرح وتغامر بصريًّا، تحقيق لسينما تنافس السينمات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. للاستزادة: انظر «معجم الأحلام» لذات المؤلف، على ميم.
2. الحكاكة: في اللهجة المحلية هي الطبقة المحروقة من الأكل في قعر القِدر، وتكون لذيذةَ الطعم. الطبقة الدنيا من المجتمعات هم كذلك أيضًا، محروقون ولذيذون: «ملح الأرض».