مقالات

«عصر يوم قائظ»: حكاية آل باتشينو المتأرجح على بندوله

يتحدث آل باتشينو في إحدى مقابلاته التليفزيونية مع لاري كينغ، مذيع شبكة «سي إن إن» الأشهر، عن حكايته مع إدمان الكحول، فيبدأ ساخرًا بأنه «لم [يتوقف] يومًا عن الشرب» ثم يتحدث عن أن «أفضل جزء في التمثيل هو الشرب بعد الانتهاء منه» ثم يسترسل آل بالحديث عن أحد الأدوار الهامة في مسيرته الفنية، والتي كاد أن يرفضها، بسبب إدمانه على شرب الكحول، إذ إنه وبعد الانتهاء من تصوير الجزء الثاني من سلسلة «العراب» كان يشعر بالتعب والإرهاق بسبب ضغوطات مرحلة التصوير، فلم يتوقف عن شرب الكحول لفترة طويلة من الزمن، وعندما وصله عرض المشاركة في فيلم «عصر يوم قائظ» (1975) رفضه بحجة أنه لا يريد أن يقوم بأداء دور في فيلم قائم على عملية سطو على بنك واستخدام المسدسات والبنادق في عمل آكشن قد لا يليق به بعد نجاح الجزء الأول والثاني من «العراب».
اعتذر آل باتشينو عن أداء الدور، وبدأ طاقم العمل البحث عن بدلاء له، إلا أن أحد أصدقائه طلب منه شيئًا واحدًا فقط: «توقَّف عن الشرب لأيام قليلة، ثم اقرأ نص الفيلم، وقرر بعدها»، فاستجاب على مضض لاقتراح صاحبه، وقرر التوقف عن شرب الكحول لأيام، ثم عاد لقراءة النص، وافتُتن به، وقرر أداء دور «سوني» في ذاك الفيلم والذي يُعدّ من أبرز الأدوار التي قدمها طوال مسيرته الفنية.
أُنتج الفيلم عام 1975 وهو من إخراج سيدني لوميت، وشارك في بطولته -إضافة إلى آل باتشينو- كل من جون كازالي بدور سال، وبينيلوب ألين بدور سيلفيا، إضافة إلى سولي بويار وكارول كين ووكريس ساراندون وآخرين، ويتناول الفيلم قصة إحدى أشهر عمليات السطو المسلح في نيويورك، والتي نفذها جون فويتوفيتش في الثاني والعشرين من أغسطس عام 1972، وانتهت إلى فشل ذريع، إذ قُتل شريك فويتوفيتش في العملية، وحُكم على جون بالسجن لمدة عشرين عامًا قضى منها خمس سنوات خلف القضبان قبل الإفراج عنه.
تضاربت الروايات حول دوافع عملية السطو، إذ كانت القصة الرائجة أن جون فويتوفيتش كان متزوجًا بامرأة وله طفلان، ثم طلقها وقرر الارتباط برجل هو إرنست آرون، أو لاحقًا إليزابيث إيدن، وكان هدف عملية السطو تمويل عملية تغيير جنس آرون، إلا أن تقارير لاحقة تضع هذا ضمن قائمة أخرى من الدوافع لعملية السطو التي لم يكتب لها النجاح رغم التخطيط لها بإتقان، إلا أن الفيلم ركّز على الجانب المرتبط بالمثلية من القصة وتحول عملية السطو إلى عملية احتجاج اجتماعي.
يبدأ الفيلم بتصوير بؤس مدينة نيويورك في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، فالشوارع مليئة بالقمامة، والأبنية متهالكة، والبشر فقراء، والعاطلون عن العمل يتسكعون دون هدف في الطرقات، ودون تمهيد أو مقدمات تبدأ عملية السطو على نحو مباشر. يقتحم ثلاثة مسلحين أحد البنوك، ويوجهون بنادقهم إلى العملاء والموظفين، فيدفعون الرهائن إلى إحدى زوايا البنك، ويفتشون عمن يحمل مفاتيح الخزانة، إلا أن العملية تبدأ بإخفاق صغير، إذ يتردد مباشرة أحد المشاركين في عملية السطو، ويقرر الفرار منذ اللحظة الأولى للعملية، وهنا تُدار عملية السطو من سوني، بدعم صديقه سال والذي يبدو موقفه حاسمًا تجاه عملية السطو، فهو مستعد لتحويلها إلى حمام دم، وإن كانت حواراته في الفيلم محدودة، إذ أدار سوني (آل باتشينو) المشهد بصورة تكاد تكون مطلقة.
بمرور الوقت، وبعد فشل محاولة القيام بعملية سطو سريعة وخاطفة، ومحاصرة قوات الشرطة للبنك، وتحول عملية السطو إلى عملية احتجاز رهائن، والمكالمات الهاتفية المستمرة للتفاوض، واجتماع وسائل الإعلام المختلفة لتغطية الحدث، تتحول عملية السطو إلى حركة احتجاجية عامة في نيويورك، فخلال التغطية الإعلامية تشير القنوات إلى موضوع المثلية وتمويل عملية تغيير الجنس بهدف حشد الرأي العام ضد عملية السطو، إلا أن هذه المحاولة تبوء بالفشل إذ إنها تحشد المجموعات الداعمة للمثلية والمثليين واليساريين لتأييد عملية السطو، وتتجمع الجماهير حول البنك مشجعة ومتعاطفة مع سوني ورفيقه، ويتسمّر البشر في المطاعم والمقاهي والبارات أمام شاشات التلفاز لمتابعة التفاصيل، وكأن سوني ورفيقه تحوَّلا إلى بطلين من خلال انتقاداتهما للرأسمالية الأمريكية، وحديثهما عن الفقر المدقع الذي يعيشانه، وفقدان الأمل بحياة أفضل، الذي دفعهما إلى ارتكاب عملية السطو، والتي تنتهي بفشل ذريع يتَجَسَّد في مقتل سال والقبض على سوني.
يُعدّ دور سوني (آل باتشينو) من الأدوار المعقدة والمثيرة للاهتمام، فالفيلم يجمع بين الآكشن وعملية السطو من جهة، والتصاعد الدرامي في المفاوضات والحوارات المتعلقة بالوضع الاقتصادي في نيويورك في تلك الحقبة من جهة أخرى، وتميز أداء آل باتشينو بالسير ما بين الاستعراضية أمام الجماهير المؤيدة لعملية السطو والمنتظرة للنتائج خارج البنك، والارتباك في إدارة العملية داخل البنك، إضافة إلى القلق والخوف المرتبط بالشكوك حول نجاح العملية ككل، ورفض الاستسلام، والتفاعل المستمر بين الخاطفين والرهائن، وبناء علاقة إنسانية مع الآخرين في ظل تلك اللحظات العصيبة، إذ استطاع الفيلم تصوير محاولات بناء الثقة بين طرفين يستحيل أن يثقا ببعضهما، كما تفشل محاولة تحطيم عزيمة سوني عبر توسلات والدته التي جاءت إلى موقع عملية السطو، أو تواصل زوجته معه وتذكريها له بأطفالهما، وكأن تلك العملية التي بدأت بتخاذل أحد منفذيها، ليس لها إلا أن تنتهي بالنجاح أو الموت.
رُشح الفيلم لِسِت جوائز أوسكار: آل باتشينو لجائزة أفضل ممثل، وكريس ساراندون لجائزة أفضل ممثل مساعد، إضافة إلى جوائز أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تحرير وأفضل نص، وهي الجائزة الوحيدة التي نالها الفيلم في النهاية. ويمكن اعتبار الفيلم، والذي قدمه آل باتشينو في بداياته السينمائية، من أدواره المميزة، والتي قادته لاحقًا لأداء أدوار رئيسة في أفلام دراما الجرائم والعصابات مثل فيلم «الوجه ذو الندبة» (1983) وفيلم «طريق كارليتو» (1993) وغيرهما من الأفلام التي أداها آل باتشينو خلال مسيرته السينمائية الممتدة لأكثر من خمسة عقود وحفلت بالتنوع ولم تنل إلا جائزة أوسكار واحدة عن الفيلم الشهير «عطر امرأة» (1992).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. بدر الراشد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا