كما تستفتح القصيدة الجاهلية موضوعاتها، طرق رضوان الكاشف فيلمه بالمرور على الأطلال، حيث يطرق من عاد إلى الجذور بحثًا عن نفسه، أبواب الشهود على الزمان يسألهم، أين الجميع؟
في قرية ريفية تحيط جبال الملح فيها نخيلها، يزرع الرجال ما يكفيهم لقوت يومهم وسط أُسر تحبهم، لا يخلو بينهم في أعمارهم الضحك والبكاء، تحين عليهم وعود الانفتاح الاقتصادي ببشائرها بين ترغيب وترهيب، وأن الأرض التي يعيشون فيها بوار أمام الذهب الذي ينتظرهم خلف الحدود، هذه الوعود ترغمهم على الرحيل، وتضرب أوتارًا حساسة في وجدانهم كل وما يؤثر به، حتى تظن أنها حركة منظمة أكثر منها غبار كوني يتحرك بعشوائية.
وسط هذا الإقبال المرغم، ينبري بينهم شاب أعزب يتوق لزراعة نخلتهم الباسقة، ليسقي من نبيذها جده، ويعود عزه الذي كان، وسيادته التي يتحاكى في آثارها الخلف. يأبى هذا الشاب أن يكون جزءًا من سفر الخروج هذا، ويشاهد الجميع قد رحلوا موكلين في عنقه أمانة وثيقة، يرعى بها جميع من بقي، حيث النساء والأطفال، ويصبح «النجعَ» «نجع النساء»، يهاب ذو المروءة أن يطأه، ويرى الخسيس فيه مطمعًا، وبين ذاك وذا يسير أحمد الشاب الذي بقيت النساء في أمانته، في رحلة لإثبات رجولته لهما معًا، وفي كل مرة يعود جريحًا كجده تمامًا، والذي لم تعد لفرائصه أي همة، ولم يعد له عزم يخور معه غرماؤه، لحظات تتصارع فيها رجولة الشخصيات مع الزمان، رجل يختار الغربة وفي الحقيقة هو ليس في خيرة من أمره، ورجل يريد أن يصارع جميع الرجال ليثبت أنه جدير بأن يأمنه الجميع على نسائهم، ورجل يريد أن يعاند عمره ليبقى القوي الجبار، لحظات كشف منها رضوان ما تثقله الذكورية السامة علينا جميعًا بوصفنا رجالاً، ورغم ذلك يأبى تركيبنا النفسي الانعتاق منها، ونرى في هلاكها النجاة.
نستكشف أيضًا مع رضوان مشهد الإنجاب البكري الذي أعطاه الله للقرية في أيام الغياب الأولى، وما يصحبها من احتفالات تتناثر فيها الضحكات والدموع، ورقص على إيقاع الدفوف التي عصت المجيء بادئ الأمر تورعًا، وقدمت مرغمة بقوة النماذج النسائية الحاكمة في المجتمعات الريفية، وفي عز الاحتفال تزف النساء أولادها مع هذا المولود الجديد نحو الرجولة بختان جماعي يصمهم بالشرقية، ويتوسمون منه خطى الأجداد في وهب ما يملكونه فداء للعادة والتقليد، والدماء في ذلك مخضبة والخشم يسيل مع الأطفال الذين يولدون مرة أخرى بالصرخات نفسها.
وبين ما تثقله المنظومة الأبوية على الرجال من المجتمع، نرى النساء وقد حملن النصيب الأكبر من العاتق النفسي والوجداني من آثار هذه المنظومة، إذ تصارع النساء ليلَ نهار آثار فقد أزواجهن، إذ يكاشفنا رضوان بالجنس هنا بوصفه تفاعلاً بيولوجيًا لا مفر منه، وبأن ما نجاهد فيه أنفسنا لِجَمحه لهو جهاد عظيم أمام خصم شرس، فكيف يصارع الإنسان نفسه وما يتفجر عنها؟ وكيف نعقل تصرفاتنا بمحاذير تجابهها؟ الحرام يأبى، والعيب يأبى، والوفاء يأبى، ولكن الحرمان نار مضرمة تقتل النفس كل ليلة، أشعار وأغانٍ جسدت هذا الحرمان بين الدموع التي تبلل أوراق الرسائل المبعوثة للرجال المغتربين من نسائهم الأكثر غربة، فلا غربة أشد على المرء من غربته في داره.
وما إن تنزلق المرأة إلى الخطأ عن عصمتها، حتى تستحق مجتمعيًا الموت أو الخزي الذي يلازمها في كل لحظات حياتها حتى تلاقي المصير الآخر، فيكاشفنا مجددًا رضوان بمصير من أحبّت زوجها وطاردها بذلك الذنب حينما أخطأت في شوقها إليه، و لم يرَ أقرانُها ممن تمسكوا بمحاذيرهم في وجه رغباتهم إلا الموت لها منجى عن ذنبها، وذلك حينما أضرموا في الحطب النار كي تحرق نفسها وقدمت لهم بذلك طائعة، وبمصير الأخرى التي زهدت بكل شيء بفعل الخزي بعد أن دفعها عقلها اللاواعي أن تراود أحمد عن نفسه، حتى كشفت العبدة السيدة فعلتها ونهرتها، وجعلتها في مواجهة مع نفسها بجميع مشاعر الخزي، وكأنهما مساران للمرأة لا ثالث لهما، إما نار الموت، وإما مقبرة الخزي.
ووسط ما تعيشه القرية من اغتراب وصراع نفسي بين أدوارها ومحرماتها، يبيض البلح ويصبح انتباذه مسألة وقت، وعلاج جد أحمد قريب، وفرحة أهل القرية بذلك كله صاخبة، فقد تجمعوا جميعًا أسفل النخلة حتى أمطر عليهم أحمد بجميع ما أثمرته النخلة الباسقة من بلح، ورقصوا وغنوا عرفانًا وصلاة لهذه النعمة، وبها سار الجميع للجد، الذي شرب منها هنيئًا مريئًا، ومنها شُفي الشفاء الأخير، حيث أخذ دابته وسار في رحلة طويلة لا تنطوي فيها المسافات أبدًا.
وعودة إلى بداية الفيلم حيث الطارق يطوف البيوت سائلاً عن أهل الديار.. تخرج له فتاة يطاردها حتى يصلا قبوًا هربت إليه كل من الفتاة والعبدة المسنة عن رعب الشمس، فأي رعب قد تضفيه الشمس لمن اصطبغ لونه بها؟ يعود الرجال بعد طول انتظار فيرون نفوسًا محطمة تشابه الحطام الذي في داخلهم، ولا يكون من زينة الشباب إلا البكاء على مَن أحرقت نفسها في انتظاره، ولا من العم المهاب إلا البكاء على ما واجهه في هذه الغربة أثناء ما تحممه زوجته وكأنه طفل صغير، وثالث يرى في أطباع زوجته التغيير وكأنه لا يعرفها، بين هؤلاء يتوسع أحمد في قصة حبه، ويخطبه من عمه المهاب الذي يجيبه بالقبول، وأثناء هواجسه عمّن ماتت محروقة، يكشف أن أحمد ليس متمسكًا حقًا بمواثيق الشرف الغليظة مع ابنته، وعليه يرى أنه قد أغار على جميع نساء القرية، ولا أمان منه إلا بإسقاطه من أعلى النخلة، نخلة السماء الباسقة التي تُظِلّ القرية عن رعب الشمس، وهكذا كان رغم محاولة النساء الحثيثة لإيقافهم، ويسير أحمد بعد السقوط مع جده في رحلتهما الطويلة في انتظار أن يصلهما الجميع.
لتكون بذلك ملحمة رضوان الكاشف عن قرية فقدت ما يأويها، وذابت في الكهوف وانزوت عن الأنظار في وجه الرعب الذي يكشفه العراء، ملحمة مكتملة الملامح بأسلوب مختلف وخاص وفريد وأصيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش