افتتح مهرجان القاهرة السينمائي دورته الخامسة والأربعين بالفيلم الفلسطيني «أحلام عابرة» للمخرج رشيد مشهراوي. يرصد مشهراوي في فيلمه رحلة الطفل سامي لإيجاد «حمامة» أعطاها له خاله كمال بعد هروبها من عنده. نرى سامي يستمع لرواية حلاق الحي بأن الحمام إذا طار ولم يعد فهو يرجع إلى صاحبه الأصلي، ومن هنا يقرر سامي ذو الاثني عشر عاماً الذهاب لخاله كمال في بيت لحم لإحضار الحمامة التي ارتبط بها ارتباطا وثيقا.
في المشهد الأول من الفيلم نرى كمال، يحدثه زملائه في العمل، يخبرونه بتمكن «الزهايمر» منه، بينما يبدو كمال متصالحا مع ذلك، في المشهد التالي نرى «أم سامي» وهي أخت كمال، تحذر سامي من التعامل مع خاله، وتوصيه بالابتعاد عنه، كل تلك مؤشرات توحي بكون كمال رجل غير مسؤول.
يقرر سامي البدء بالرحلة ولكن خوض الرحلة -التي تتمثل في الذهاب لبيت لحم وحيداً- يبدو شيئا مستحيلا بالنسبة لعمره. يستعين سامي بصديقه مارون الذي يطلب منه سجائراً وطعاماً ليمضي معه في رحلته. ومع أول محطة يتراجع مارون ليجد سامي نفسه وحيدا تماما مع قفص الحمامة الفارغ، ولكن ذلك لا يثنيه عن المضي في رحلته.
يواجه سامي العقبة الأولى في رحلته وهي تعجب سائق الباص -الذي يقل الركاب إلى بيت لحم- من سِنّه. يسأله السائق عن عمره، فيبدو سامي مصراً على الذهاب، وأمام إصراره لا يجد السائق إلا أن يستجيب لرغبته. وحين يدخلون إلى بيت لحم ويقفون أمام حاجزٍ على مشارف المدينة يُطلب منهم الرجوع. يرفض سامي الأمر، فينزل من السيارة بشجاعة ليواجه الضباط، ومن المشهد يبدو سامي مندفعاً، غير آبه بأي شيء سوى الوصول للحمامة.
المقابلة الأولى بين كمال وسامي توحي بألفة بينهما، توضح ببساطة أن كمال ليس بالرجل السيء الذي ظنناه في البداية، بل هو ألطف من كل شخصيات الحكاية لاستماعه لرغبة سامي باسترجاع الحمامة ثم وعيه بأهميتها له، كما نتأكد من «نضج» سامي حسب وصف كمال، الذي يقول: «سامي هو أكبر أصدقائي، أنضجهم وأصغرهم سنا».
يخبر كمال سامي بأن الحمامة لم ترجع إليه فهو ليس صاحبها الحقيقي، وعليه يسأل صاحبَ المحل الذي أعطاه الحمامة، والذي يصدم رده سامي فهو يقول أنه لم يحب الحمام أصلا. تبدو تلك هي الصدمة الأولى لسامي الذي ظن بأن الجميع سيحب الحمام بطبيعته. وبعد إلحاح من كمال، يخبرهم صاحب المحل بأن الحمامة ترجع لألبيرت وهو تاجر تحف يقطن في سوق بالقدس، وعليه يلح سامي على كمال بالذهاب لاسترجاع الحمامة، ويخبره بأنه لن يطيق المكوث ليلة أخرى بدون استرجاعها. مُراضاةً لسامي، يقرر كمال الذهاب لألبيرت في القدس لسؤاله عن الحمامة، كما تقرر ابنة كمال «مريم» مرافقتهما في تلك الرحلة.
المشهد التالي، هو وقوفهم لأجل التفتيش قبل دخولهم إلى القدس. وفي هذا المشهد، يتجه رشيد إلى السخرية أكثر من ميله إلى النبرة الانهزامية أو المستضعفة. ويتجلى نفس نهج إيليا سليمان؛ فالمشهد الذي يمسك فيه الضابط بطعام الحمام ويسأل سامي عن طبيعة الطعام، ليخبره سامي بأنه لا يحوي متفجرات، يشبه إلى حد كبير المشهد من فيلم «الزمن الباقي»، حينما يمسك إيليا بهاتف ليتحدث به، وكلما تحرك تلاحقه فوهة الدبابة لشعورها بالخطر. المشهد ببساطة يوحي بمدى هوس العدو وخوفه من أقل الأشياء، حتى العادي منها، وإن كان بسيطا تماما كطعام الحمام، كما يؤكد رشيد على ذات الفكرة فيما بعد، عند نسيان سامي للقفص في ساحة الانتظار، فيتم تفجير القفص وتصنيفه كـ«جسم غريب». وهذه إشارة إلى تفاهة العدو وخوفه الفطري، ليقينه بأنه ليس على حق.
بعد ذلك، وحين الوصول إلى القدس، وقبل مقابلة آلبيرت الذي عرفنا بأنه صاحب الـ«حمامة»، يقابل كمال صديقا قديما وهو «سالم»، يسأله سالم عن سبب وجوده، فيخبره كمال بأنهم أتوا لاسترجاع الحمامة الخاصة بـ سامي. يصف سالم الأمر بالتافه ويصف ذلك بالروقان والفراغ، هنا يصبح الأمر متكررا، إذ يبدو أن لا أحد يؤمن بقيمة الحمامة بالنسبة لسامي سوى خاله كمال.
أخيرا يقابل كمال وسامي ألبيرت، ليفاجئوا بأن آلبيرت لا يختلف عن الباقين، إذ يحاول خداع سامي بإحضاره حمامة أخرى له.
يعرف سامي أن تلك الحمامة هي حمامة أخرى بمجرد رؤيتها، ويرفض أخذها من ألبيرت الذي يخبره بأنها مجرد حمامة كغيرها. يسأله كمال عن السبب، فيخبره سامي بأنه ربط برجل الحمامة خاتماً وحاول أن يستخدمها كحمامة زاجلة توصل الرسائل لأبيه المحكوم عليه بالسجن.
يكسر المشهد «نمطية الرمز» فالحمامة وإن اقتصرت دوما على كونها مجرد رمز للحرية والسلام فهي هنا متجاوزة للرمز -وبذكاء كبير- من خلال استخدامها في سياق «درامي- مادي» هنا، فيصبح مفهومًا لماذا ارتبط سامي بتلك الحمامة تحديدا وسعى لاستردادها، وذلك بسبب حنينه لأبيه الذي تم اعتقاله بينما كان في السادسة من عمره.
يجيء دور المحطة الأخيرة حينما يخبر كمال آلبيرت بأن صاحبة الحمامة هي السيدة أم وليد التي تقطن بحيفا، ورغم يأسٍ واضح من كمال إلا أن سامي يصر على الذهاب لحيفا والتأكد من وجود الحمامة عند أم وليد.
وبعد الوصول ليلا لحيفا إلى عنوان أم وليد، يفاجئ كمال بأن أم وليد لم تعد تقطن بالبيت بل يسكنه مواطنون روس. وهنا، يؤطر الفيلم لفكرة أسس لها من البداية تماما، فنجد بجوار سامي وقبل أن يبدأ رحلته ويركب الميكروباص المتوجه إلى بيت لحم، بائع أطباق يروج لها بأنها لا تكسر وفور أن يرمي الطبق يتعرض للكسر. كما يظهر فيما بعد بائع عطور يدعي بأن عطوره أوريجنال - أصلية، ولكن مع أول اختبار يقول بأنها ليست أصلية تماما. الأمر يتكرر مع آلبرت أيضا الذي نراه يبيع تماثيل للمسيح ويدعي بأنها تحتوي على الفضة كعنصر أساسي في نحتها، ليبيع القطعة بمائة دولار لسائحة أجنبية ولكن ببساطة نعرف بأن تلك التماثيل لا تحتوي على الفضة. الفكرة التي يؤسس لها مشهراوي من البداية ومن ثم يرجع ليؤكد عليها هي «الزيف»؛ لا شيء أصيل، فذلك النوع من السيولة المهيمنة على واقع كواقع سامي تجعل من مفهوم «صاحب الحق» ضائعا، ومحاولة الوصول لذلك الأصل تبدو شيئا مستحيلا، وعليه ينتهي الأمر بكمال وسامي دون أن يجدا الحمامة. كما يفاجئ سامي عند سؤاله لكمال عن سبب غضب أمه منه، ليخبره كمال بأنه كان السبب في اعتقال والده قبل ست سنوات، وأن ألم أم سامي وبعدها عنه كان بسبب ظنها -وظن الجميع- أن كمال نسي الذهاب في موعد محدد لأخذ أبو سامي من أحد الأماكن فاعتقلته شرطة الاحتلال قبل وصول كمال.
في تلك اللحظة نعلم بالتحديد لماذا تحامل الجميع على كمال واستمروا في وصف ذاكرته بالضعيفة، كيقين منهم بأنه نسي أبو سامي في ذلك اليوم، لكن كمال يجيب ببساطة بأنه لم ينس، بل نفذت بطارية السيارة قبل أن يصل في الموعد، لتكشف له ابنته مريم عن كونها السبب في ذلك بسبب تشغيلها الراديو.
هنا يبدو كمال متصالحا تماما مع فكرة وصمه بالنسيان، متصالحا جدا مع قوانين عالمه ليصل به الأمر إلى اقتناعٍ كاملٍ بأنه ينسى فعليا كما يصفونه، وهو نوع من الشعور بالذنب يهيمن على كمال ويجعله مستسلما ولا يملك أي رغبة في الدفاع عن نفسه أو تبرير ما حدث. وكما نرى أيضا فإن كمال هو الوحيد في عالم الكبار الذي يؤمن بضرورة وأهمية الحمامة لسامي وما تعنيه قيمتها له وهو شيء ليس له وجود في عالم الكبار المهتمين بالقضايا الكبرى وشئون الحياة.
ينتهي الفيلم بعودة سامي إلى أمه بينما تحدث مصالحة أخيرة بين كمال وأخته، فيبدو الأمر كله كحلم عابر خفيف لم يحقق نتيجة في استرجاع الحمامة، وكأن الأمر هو محاولة للتأكيد أن حتى الشيء العادي، الذي يتم تصويره كهدف كبير جدا، يستحيل تحقيقه في هذا الواقع. وهو ما يجعل سامي نفسه متصالحا تماما مع الأمر في الأخير، سامي الواعي تماما بحدود عالمه، الذي يتم سؤاله على مدار الفيلم: «ماذا تتمنى أن تصبح عندما تكبر؟»، ليجيب ويؤكد: «لا أعلم».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش