مقالات

على بحر مانشستر، يطفو الندم. "الندم في السينما"

الندم بوصلة أخلاقية عنيدة يوجعها الحَيَّدَ وتأبى الانحياز غير المقنع. قد يحضر الندم بسبب فرصة ضائعة، أو علاقة زائفة خضناها بكل تعاسة عمياء، أو كلمة تمنعت على البوح بسبب قيود جبرية فُرِضَتْ على اللسان، أو بوح وفعل لم يُكبت بسبب الإرادة الحرّة الثملة بزهو طلاقتها. وقد يحضر بسبب استسلام لقرار اُتخذ كالعطسة بلا مقاومة، أو قرار لم نتخذه. وأسوأ تجلياته ما حضر مرفوقًا بالذنب الأشبه بالتنازع بين الأنا والأنا العليا. 

هو ببساطة رغبة في أن نعود بالزمن إلى الوراء، متسلحين بالوعي الكافي الذي ندرك من خلاله الخطأ الذي وقعنا فيه، أو تصرُّف نسينا القيام به. ولا يعني بالشرط أن يكون قرارنا ناضجًا خالصًا، فقد يكون السلوك الطفولي أو الجنوني مثلًا متسقًا مع صحة الموقف أثناء محاولة تغيير مساراتنا القدرية، التي نظن أنها تسببت في تعاستنا وحرمتنا من سعادتنا. 

وأحد مشاهد النضج إبداءُ حرصِنا المنقوص والمبالغ به في الوقت نفسه، كأن نروي النبتة أكثر من حاجتها في لحظة سهو أبوية بغرض رعايتها، وكأن نطعم نار التدفئة من الحطب الوافر ثم ننسى أن نضع الحاجز أمام الموقد أثناء خروجنا من المنزل في إحدى الليالي الشتائية، متسببين بحرائق طالت أحبابنا، كما فعل السبّاك «لي تشاندلر» والذي أُلقبه بسوبر ماريو التعيس من فيلم «مانشستر على البحر» الذي قام بدوره «كيسي أفليك»، عندما تسبب في فناء ابنتيه بحماقة ثمالته التي ظل نادمًا عليها طوال حياته، ليمضي بقية حياته متخبطًا من حانة إلى أخرى مختلقًا المشاجرات آملًا أن يُسقِط عليه أحدُهم العقوبة المرجوة التي كان ينتظرها نظير فعلته. فأن نشعر بالحزن شيءٌ وأن يحضر الندم برفقته شيءٌ آخر تمامًا، فهو أقرب للخجل المضاعف مما اقترفناه، وعدم الكفاءة والشعور بالإثم الذي لا يُغفَر. ولا يزال مشهد شرح الحادثة للمحقق من أكثر المشاهد إحباطًا، فقد عانيت بسببه من انقسام داخلي محدد برمادية لا تفلت منها لا الإدانة ولا البراءة.. قال: 

«صعدت للأعلى لأتفقد الأطفال لأن الجو كان باردًا في الطابق العلوي، ولا يمكنني استخدام التدفئة المركزية لأنها تجفف الجيوب الأنفية التي تعاني منها زوجتي "راندي" وتُسبب لها صداعًا شديدًا، لذا نزلت إلى الطابق السفلي وأشعلت النار في الموقد، ثم وضعت بضعة قطع خشب كبيرة في النار لكي أدفئ المنزل عندما أخرج، وفي منتصف الطريق لم أستطع التذكر إن كنت وضعت الحاجز أمام الموقد أم لا.. ظننت أنه سيكون كل شيء بخير».

ليمضي بعدها إلى محاولة الانتحار كعقوبة مباشرة يظن بأنه يستحقها، مستلًا المسدس من جِراب المحقق أثناء إخلاء سبيله، بعدما اعتبرت الحكومة إهمالَهُ حادثةً عرضية لا تستحق العقاب الذي يظن بأنه يستحقه، ليرفض لاحقًا وصية أخيه الراحل في حمل مسؤولية تبني ابنه، خشية من تكرار الماضي، ومن أن يضيف إلى سلسلة إزهاقاته روحًا أخرى. 

الذنب يحضر في أسوأ تجلياته حين يموت أحدهم، سواءً كان عن قصد أو بالإهمال أو بالخطأ، كأن تدهس طفلاً أثناء قطعك للإشارة المرورية، وهذا ما حدث بصورة إنكارية مع «تراڤور» الذي قام بدوره بإتقان الممثل «كريستيان بيل» من فيلم «الميكانيكي». عاش «تراڤور» من بعد حادثة دهسه للطفل متنكرًا، ومتخفيًا في روتينية حياته الكافكاوية البارانوية التي أثّرت فيه لدرجة عدم نومه لعامٍ كامل، مما تسبب بخسارته لوزنه بشكل مبالغ، لدرجة شعورك كمُشاهد بسخرية أغلب التعليقات التي تناولت سخرية محيطه من هيئته، كقولهم: لو كان جسدك أنحل لما وُجِدْت، أو تبدو كإنسان تم تحميصه، وهل سمعت بفطيرة قرع العسل من قبل؟ 

وهذا الإنكار الواهم الذي كان يتحلى به «تراڤور» أقرب لما قاله «ويليام فوكنز» : «الماضي لا يموت أبدًا، فهو لم يمضِ حتى». فقد تَشَكّل هروبه من جريمته بهيئة أحداث أعاد العقل تقديمها بصورة كابوسية تتناسب مع بؤس الأرق المستمر والحالة الإعيائية التي وصل إليها، وكأن ضميره كان قوتَ جسده الذي كان أقرب لهزالة ضحايا معسكرات الاعتقال النازية. 

ولعل الندم أحيانًا يتقاطع مع مفارقة البراكين التي ترمز للدمار والحياة، فحالما تبرد الحمم البركانية التي التهمت القرى والبيوت، تبدأ بالتصلب ثم التكسر بعد فترة من الزمن، لتتحول إلى تربة خصبة وغنية بالمعادن. هذا هو ثمن الشعور بالذنب المقدم للبشرية، لا سيما المسبوق بوحشية صادمة، كوحشية الحروب مثلًا، والأخلاقيات التي تجلّت بتزامنية مع الكوارث التي تَسبب بها الإنسان، كقنبلة «أوبنهايمر» الذرية، الملقاة على هيروشيما وناجازاكي، والتي راح ضحيتها 214 ألف شخص، كفعل تندم عليه البشرية جمعاء، ويندم عليه مبتدعُها الذي رافقه الذنب حتى الممات رغم أنه لم يأمر باستخدامها، ومن أمَرَ بذلك هو رئيس الولايات المتحدة «ترومان» وقتها، إلا أن قُرّاء التاريخ برروا اختراعه لاحقًا كبادرة أوقفت الحرب؛ كانت الصرخة المدوية التي أخرست كافة الألسنة المتشاحنة.

‏وندم «أوبنهايمر» يُذكّرني بالرئيس البريطاني «تشرتشل» عندما صُدم من مشاهدة مقطع للطيران الملكي البريطاني الذي كان يقوده «آرثر هاريس» المعروف بـ«هاريس القاصف» والشهير بعبارته: «لقد زرعوا الريح والآن سيحصدون العواصف»، وهو يقصف مدينة «الرور» الألمانية. قال «تشرتشل»: «هل نحن حيوانات لنفعل هذا!» 

هذا الإدراك بالفعل الحيواني الوحشي لم يمنع 244 قاذفة قنابل «لانكاستر» من أن تلقي بكامل حمولتها في غضون 15 دقيقة.. لم يوقِف 200 ألف قنبلة عنقودية حارقة من أن تسقط من السماء لتدمر 60٪ من منازل المدنيين في مدينة هامبورغ، ثاني أكبر مدينة ألمانية في عملية غامورا.. لم يوقِف العاصفة النارية من حصد 43 ألف مدني. وبنفس هذه الازدواجية الغريبة أدار «تشرتشل» الحرب. وهنا العلاقة عكسية تتجلى على عكس الرئيس «ترومان» الذي كان بدور «هاريس» وكأن القصص تحتاج إلى لعبة شرطي جيد وشرطي سيئ، ضمير غائب مقابل ضمير حي، بصورة الأنا.. والأنا الأعلى! 

يبقى الندم شعورًا إنسانيًا يُحسّن من جودة حياة كل من يعيش على أديم هذه الأرض. يقول «جون دناهير»: «الندم ليس عديم الجدوى، إنما هو جزء أساس من الحياة الطيبة ومن المهم تقدير ما نأسف عليه ونتأمل فيه. ثمة خطورة بالتأكيد في الانغماس بلا داعٍ في مشاعر الندم الوجودية المبهمة، ولكن التعامل مع هذا الأمر لا يكون بنبذ تلك المشاعر وتجاهلها بل بالتأمل العميق فيها».. 

..والتأمل العميق في كل الأخطاء السابقة، حتى وإن كانت فردية، فإنها قد تقي الجمع من شر تكرارها. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1 من كتاب «باتمان وفلسفة الخوض في روح فارس الظلام»

أ. علي حمدون
May 19, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا