فيلم عباس كيارستمي «24 إطاراً - 24 Frames (2017)»، الذي لم يشاهده كيارستمي نفسه لأنهّ توفي قبل صدوره. لازلتُ واقعًا تحت تأثير هذه التحفة البصرية النادرة، لا ممثلين فيها ولا شخوص، تجريب في الزمن السائل المحض وتأملٌ شكلانيٌّ استيتيقيٌّ خالصٌ.
شكلّ عرض فيلم «24 إطاراً - 24 Frames» الشاعري لعباس كيارستمي بعد وفاته عام 2016 عن 76 عاماً، وداعاً مؤثّرًاً للسينمائي الإيراني الأشهر. وقد كتب كيارستمي في ملاحظات مرافقة للعمل: "أتساءل دوما الى أيّ حدّ يسعى الفنّانون الى تمثيل الواقع. فالرسّامون والمصوّرون يلتقطًون صورة واحدة من دون أن يلتقطوا ما حصل قبلها وبعدها. في «24 إطاراً» قرّرت أن استخدم الصور التي التقطها في السنوات الأخيرة وأضفت اليها ما تصوّرت أنه حدث قبل هذه اللحظات الملتقطة أو بعدها".
غالبية «الأبطال» في الفيلم من الحيوانات، فيصوّر كيارستمي بقرة تستيقظ من قيلولة على شاطئ قبيل صعود المدّ، ويظُهر ظبية تصيبها طلقة صياد وعصفوراً يستريح على حطب أشجار ويقرّر الطيران أخيرا بعد قطع شجرتين تقعانً وراءه، وفي هذين الإطارين الأخيرين يظهر الإنًسان بطابعه المدمّر ويذكرّ بتأثر عباس كيارستمي بجمال العالم الهش، أما الإطار الأخير فمكرّس للسينما. ففي الواجهة شخص نائم على مكتبه وأمامه حاسوب فيما الصورة التي تتحرّك ببطء شديد تظُهر فيلما هوليووديا يتبادل فيه رجل وامرأة قبلة في النهاية، ومع بروز كلمة «النهًاية» على الشاشة تعلو أنغام أغنية «Love Never Dies» (الحب لا يموت ابداً) في رسالة أخيرة حَرِص السينمائي الإيراني على توجيهها.
فيلم «24 إطاراً» تجربة مشاهدة مختلفة تمامًا عن الفيلم التقليدي. لا توجد مؤامرة ولا شخصيات بشرية. كيارستمي، المخرج الذي أبدع في خلق أبطال مستمدّين من الواقع، والذي صار لهم عالم نفسٍ مملوءً مصداقية وإنسانية، يضع صوره الظلية البشرية -عند ظهورها- على قدم المساواة مع صور الحيوانات والنباتات وعناصر المناظر الطبيعية. يمكن للمرء أيضًا تفسير هذا الموقف باعتباره تعبيرًا عن فكرة أننا البشر لسنا سوى جزء من الكون الذي لا نهاية له، ولسنا بالضرورة مركزه. يبدو الفيلم أشبه بمجموعة من المقالات أو القصائد الفلسفية. كل إطار من الإطارات له قيمة جمالية في حد ذاته، لكنها تحكي الكثير أيضًا عن العلاقة بين المبدع والأشياء الفنية الناتجة عن خياله، وعن الطبيعة ومراقبتها. غالبًا ما يرُى العالم الموجود في الإطارات من خلال هندسة النافذة، وفي حالات قليلة، تفصل الشاشات أو النوافذ الشفافة ولكن المادية المشاهد عن الطبيعة خارجها. طبيعة، دعونا لا ننسى، أنها مصطنعة إلى حد كبير، وهي نتيجة تفكير المؤلف فيما يتعلق بسياق الصور الثابتة التي تمثل نقاط البداية لكل إطار.
فیلم تجريبي ممزوج بين التصوير الفوتوغرافي والرسم، يجيب على سؤال ماذا يحدث قبل وبعد أن تلتقط الصورة، ويرمز اسم الفيلم لعدد اللقطات المستخدمة في الثانية لتصويره، يطغي على الفيلم الطبيعة البسيطة والكثير الكثير من التأمل الخارجي الذي قد نحتاجه خصوصاً في الوضع الراهن.
يعد فيلم «24 إطاراً» واحدًا من تلك الأفلام التي يقُال في وقت لاحق، إنها شهادة لمخرج عظيم. هناك ما يكفي من الحجج لصالح هذا التصنيف، بما في ذلك الإطار أو المشهد الختامي الذي لدينا فيه على الشاشة صورة شاشة أخرى تتكشف فيها نهاية فيلم كلاسيكي، بما في ذلك "النهاية" السحرية.
ومع ذلك، على الرغم من أن عباس كيارستمي كان يبلغ من العمر 76 عامًا عندما قام بتصوير فيلم «24 إطاراً»، إلا أنني لا أعتقد أن نيته كانت إنشاء فيلم يكون كوصية له. يشعّ هذا الفيلم بالبحث والاستكشاف لطرق جديدة للتعبير الفني، وبعيدًا عن كونه "كلمات أخيرة مشهورة"، فإنه يبدو أشبه بفيلم في منتصف حياته المهنية لفنان يبحث باستمرار، وبالعودة إلى بعض الأدوات التي استخدمها قبل عقود عديدة، في بداية رحلته كفنان، يجمعها المخرج الإيراني مع أحدث تقنيات الرسوم المتحركة ومعالجة الصور الرقمية، لقد أبدع الفنان المتكامل والمتنوع كيارستمي في «24 إطاراً» عملًا فنيًا يتحدى التصنيف، شخصيًا، أعترف أنني لم أتمكن أبدًا من فهم الحدود بين التصوير السينمائي كفن وفن الفيديو بشكل كامل. يبدو أن «24 إطاراً» تنتمي إلى كليهما والعديد من المجالات الفنية الأخرى مشاهدتها هي تجربة روحية.
24 هو رقم سحري في السينما، كان معدل 24 إطارًا في الثانية هو المعيار القياسي لأجهزة العرض الكلاسيكية. اليوم مكون من 24 ساعة وفي الفيلم يعدّ الوقت أحد الموضوعات الرئيسية، بنى عباس كيارستمي عمله على شكل سلسلة من 24 سلسلة، مدة كل منها 4 دقائق ونصف، كانت الأشكال الكلاسيكية الثابتة أحد الهواجس الجمالية للمبدع الذي كان، من بين آخرين، مبدعًا للهايكو. يبدأ الإطار الأول من اللوحة الشهيرة لبيتر بروغل الأكبر، «الصيادون في الثلج». بمساعدة الرسوم المتحركة بالكمبيوتر، تستيقظ أجزاء من اللوحة واحدة تلو الأخرى. تنبض الموسيقى التصويرية أيضًا بالحياة وتضع اللوحة في سياقها الطبيعي والعصري. فما كان لقطة للحظة واحدة من الزمن يصبح لحظة في سلسلة من اللحظات مع مرور الزمن. ستكون الأنماط المشابهة موجودة في الإطارات التالية، لكن نقاط البداية هي الصور التي أنشأها المؤلف. في إصداراته الأولى، كان من المفترض أن يكون «24 إطاراً» عبارة عن سلسلة من التأملات حول الفن بدءً من اللوحات الشهيرة، كما هو الحال في الإطار الأول، ولكن لأسباب تتعلق بحقوق الطبع والنشر، اضطر كيارستمي إلى تغيير استراتيجيته واستخدم إبداعاته الخاصة من ألبومات التصوير الفوتوغرافي الثابت وهو المجال الفني الذي مارسه في بداية مشواره الفني.
يريد معظم الناس مقارنة هذا الفيلم بالفن البصري غير السردي، وهذا ليس ما رأيته، في الحقيقة، لقد ذكرّني هذا أكثر بـ «قصيدة باستر سكروغز الغنائية - The Ballad of Buster Scruggs (2018)»، وهي مجموعة أخرى من القصص القصيرة التي تبدو وكأنها حبكت بدقة ولكنها مثل الوهم الذي يختفي عندما تحاول أن تصنع منها معنى حرفيًا، يعد الاثنان أفضل استحضار للعصر الذي كانت فيه مجموعات القصص القصيرة مهمة للأشخاص العاديين والعكس صحيح، لا يوجد بشر تقريبًا، لكن الفيلم مليء بلحظات الشخصية التي تمت ملاحظتها بشكل مثالي والتي تم تنسيقها بدقة موضوعية.
يعرض هذا الفيلم العديد من المشاهد -العديد منها تحتوي على حيوانات أو ثلج أو ماء- تم تصويرها ببساطة على أنها قصص قائمة بذاتها، لا حوار إلا الموسيقى، ولا ناس إلا العابرين، من سمات مزج كيارستمي المتكرر بين البساطة والتعقيد، بالإضافة إلى موضوعه المشترك المتمثل في الحياة والموت. مثل أكيراكوروساوا وستانلي كوبريك وألفريد هيتشكوك، كان مخرجًا أحدث ثورة في السينما.
يجب على المشاهد الذي يجرؤ على رؤية «24 إطاراً» أن يعرف (وإذا لم يعرف، فسيكتشف بعد الإطارات الأولى) أن هذا ليس فيلمًا ترفيهيًا عاديًا. وستأتي المكافأة من جمال الفكر السينمائي وعمقه وجرأة الاستكشاف الفني للمؤلف الذي يشهد عليه. تجربة فنية لا تنسى هذا الفيلم لن يكون للجميع، غياب السرد واللقطات الفردية يختبر مدى انتباهك. ولكن إذا كنت تريد أن ترى ما يمكن أن يكون عليه الفيلم في أفضل حالاته، فهذا هو الفيلم المناسب لك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش