شهد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين عروضًا لأفلامٍ روائية جاء بعضها بصفته التجربة الأولى لعدد من المخرجين مثل فيلم «مالو» و«ألماس خام» وبعضها الآخر أتى بعد تجربة سابقة مثل فيلم «ثقوب» للمخرج عبد المحسن الضبعان الذي سبقه فيلم «آخر زيارة» (2019). تنوعت العروض ما بين أفلامٍ تضمنتها «المسابقة الرسمية»، وأخرى عُرضت خارجها في قسم «آفاق» و«أسبوع النقاد». وقد تباين تفاعل الجمهور مع الأفلام وتنوع استقباله لها، ما بين الإعجاب الكبير والإحباط التام. نستعرض في هذا المقال تفاصيلَ خمسة أفلام منها عُرضت للجمهور العام، وكيف كان استقباله لها.
1 - «مالو»: قصيدة في رثاء من رحلوا
عُرض الفيلم البرازيلي «مالو - Malu» للمخرج «بيدرو فريري» في قاعة المسرح الكبير بالأوبرا وهو من الأفلام القليلة، التي تنافس في المسابقة الرئيسية على جائزة «الهرم الذهبي»، التي أجمع الجمهور على حضورها. ويرجع ذلك ربما للإشادة الكبيرة التي حظي بها الفيلم سابقا حين عرضه في مهرجان «صاندانس - Sundande» السينمائي العريق.
ويرصد المخرج في الفيلم حكاية أمه «مالو» التي تظهر -من الوهلة الأولى- بصفتها امرأة محبة لفن المسرح، مؤمنة بالعمل الإنساني، متطرفة في مشاعرها وأفكارها وجريئة حتى النفس الأخير. نرى مالو وهي عالقة بين جيلين، بين ابنتها من جهة وأمها من جهة أخرى. ورغم عدم رضا أي منهما عنها، تواصل هي إثبات إخلاصها لما تحب. كما نرى «مالو» في صراعات خارج عائلتها أيضا، صراعات مع المجتمع بسبب طريقة عيشها إلى جانب صراعات أخرى مع رجال الدين.
ومن خلال طريقة رصد «فريري» لأمه، والتي يدينها بالطبع في مواضع عديدة - فهو لا يهتم بإظهارها كأم مثالية- إلا أننا لا يمكن إلا أن نحب تلك السيدة. فبرغم طيشها واندفاعها وصوتها العالي إلا أنها في النهاية ليست إلا إنسانة محبة وعطوفة، مخطئة كعادة الإنسان. وهنا لا نجد إلا أن ننظر للحياة كما تراها مالو، المُحبة بضراوة لتلك الحياة. ومع اقتراب نهاية الفيلم نراه يبتعد قليلا عن مالو، ليصبح فيلما عن الفقدان والأسى، في صورة بديعة وناعمة. ولذلك فهو من الأفلام القليلة جدا التي اتفق الجمهور على محبتها.
2- «ألماس خام»: في ذم عصر الاستعراض
عُرض الفيلم الفرنسي «ألماس خام - Wild diamond» للمخرجة «أجاثا ريدينجر» في قاعة المسرح الصغير بالأوبرا وهو من الأفلام التي تنافس في مسابقة «أسبوع النقاد». تحمس الجمهور لعرض الفيلم وتدافع الكثيرون لأجل الحضور، لأن الفيلم سبق أن كان مرشحا للسعفة الذهبية في مهرجان «كان».
ترصد أجاثا في فيلمها أزمة الفتاة «ليان». وهي مراهقة تسعى للشهرة، نعرف ذلك من خلال حديثها مع أصدقائها، ومحاولاتها المتكررة للتصنع، وسعيها للحصول على فرصة للتمثيل أو رغبتها في أن تكون «موديلا» لأحد البراندات المشهورة. ترصد أجاثا في فيلمها نوعين من الصراع، الأول هو صراع «نفسي» بين ليان ورغبتها اللانهائية في الوصول إلى الشهرة والحصول على الأضواء، والآخر «خارجي» متمثل في صراعها مع أمها ومجتمعها المحيط.
وفي فيلمها توجه أجاثا -من خلال ما تمر به المراهقة ليان من ضغوطات – نقدها للعصر الحالي وثقافته. فهي ثقافة تدعم التصنع، تشترط أمورًا قاسية مثل «الوشم» الذي اختارت ليان نحته على جسدها فقط لأجل أن تُقدم على فعلٍ مثير؛ فرغم كونه غير مبرر أو مفهوم إطلاقا، إلا أنه ببساطة سيُعجب الجمهور. وهنا تشير أجاثا لتلك القسوة المفروضة عنوة، والمسيطرة على العصر الحالي، فحتى وإن نجحت ليان في نهاية الأمر في الوصول لما تحب فذلك مقترن بالمعاناة، وبما تخلت عنه، وهو طبيعتها، في مقابل الوصول لتلك الرغبة.
لم يعجب الجمهور كثيرا بالفيلم، بعضهم، لكثرة المشاهد العارية فيه، والبعض الآخر، بسبب المط الزائد للأحداث فغادروا الصالة. وهناك من لم يتفاعل كثيرا مع أزمة «ليان» باعتبارها مشكلة شخصية، لا تمت لمجتمعنا بصلة. وبسبب كل ذلك لم يلق الفيلم الاحتفاء الذي كان متوقعا له في البداية.
3 – «دخل الربيع يضحك»: نقد مجتمعي بأسلوب جديد!
عرض الفيلم المصري «دخل الربيع يضحك» للمخرجة «نهى عادل» في قاعة المسرح الكبير بالأوبرا وهو الفيلم المصري الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية لجائزة «الهرم الذهبي»، وبالطبع، كان ذلك كفيلاً لامتلاء قاعة العرض كلها بالجمهور.
يرصد الفيلم أربعة مواقف أو قصص. الأولى، عن رجل عجوز يذهب مع ابنه لزيارة جارته العجوز وابنتها لتكتشف الابنة في النهاية أن سبب الزيارة هو رغبة العجوز في الزواج من أمها. الثانية، عن تجمعٍ لسيداتٍ في حفل عيد ميلاد إحداهن، الذي ينتقل من كونه احتفالاً، في البدء، إلى عراكٍ واحتدامٍ في الأخير، الثالثة، عن سيدة تفقد إحدى مجوهراتها في صالون نسائي فتشك في إحدى الموجودات، والرابعة، عن حفل زواج ينقلب إلى شجار عنيف.
الثيمة المشتركة التي جمعت بين كل هذه المواقف هي «سوء الفهم». وسوء الفهم الذي تشير إليه «نهى عادل» هنا مستند في الأساس على عدم وفاق قائم من البداية بين أطراف كثيرة. ونتيجة الاحتقان والنفاق المتزايد تسقط قنبلة مدوية في النهاية لتفضح كل الأطراف. وهو نقد مجتمعي شديد اللهجة ليس للسيدات فقط، وغير مقتصر على طبقة بعينها بل هو موجه لمجتمعٍ كامل. ويأتي اسم الفيلم- المقتبس من رباعيةٍ لصلاح جاهين - مؤكدًا على ذلك. فما الذي سيجعل الشخص حزينا رغم وصول الربيع! وهو فصل مرتبط في التراث بالفرح والسعادة. إن ما يجعل الشخص حزينا رغم الفرح هو ما تؤطر له نهى هنا في فيلمها.
رغم أن الفيلم يقدم قالبا سرديا جديدا لم نعتد عليه في السينما المصرية، إلا أن أزمته تكمن في ما يثيره من حيرة. فهو تقنيا يقترب أكثر من الفيلم التسجيلي، تسمه اللقطات المتوسطة التي تعلو الكتف وطريقة الحوار المتداخلة بين الشخصيات، والتي تصل إلى حد الإزعاج حيث تضيع نصف جمل الحوار، إلى جانب طريقة القطع. كما أنه يبدو مركبا من أربعة أفلام قصيرة أو «سكيتشات»، مبتعدا عن تقنيات السينما وأدواتها، حتى ضمن سياقه، فهو يصيب بالملل وتصبح الأحداث فيه متوقعة ونمطية ابتداءً من القصة الثالثة. وقد تزامن ذلك مع استياءٍ كبير للجمهور تجاه ما حدث في كواليس ما قبل العرض، حيث تعذّر على الكثير من حاملي التذاكر الدخول للقاعة لأن مقاعد كثيرة حُجزت مسبقا لأصدقاء صناع الفيلم. وبسبب التوافد الكبير الذي عقبه عدم سماح بالدخول الطبيعي، تأخر عرض الفيلم نصف ساعة كاملة إلى جانب ربع ساعة أخرى خصصت لتحية صناع الفيلم، فأثار ذلك استياءً واسعا أعاد إلى الأذهان ما حدث في مهرجان القاهرة وقت عرض فيلم « 19 ب» للمخرج أحمد عبد الله، حيث نشبت أزمة كبيرة حينها بسبب سوء التنظيم، أثناء عرض الفيلم المصري تحديدا.
4 - «ثقوب» : أزمة هوية وتفكك في المجتمع السعودي!
عُرض الفيلم السعودي «ثقوب» للمخرج «عبد المحسن الضبعان» في قاعة المسرح الصغير بالأوبرا وهو من الأفلام المشاركة ضمن مسابقة «آفاق» للسينما العربية.
يرصد عبد المحسن الضبعان في فيلمه أزمة «راكان» وهو رجل خرج من السجن لتوه، إثر مشكلة دينية حدثت في الماضي. يبدأ الضبعان في تشريح مأساة راكان، وأزماته ومشكلاته النفسية والمادية – بين الماضي والحاضر - ومن ثم ينتقل إلى الخارج، حيث تتضح علاقته بمن حوله، وخاصة علاقته بأخيه «تركي» الذي يعيش في مدينة بعيدة عنه وعلاقته بأمه «فاطمة»، التي تُسبب حادثتها اجتماعًا للأخوين من جديد.
ويشير اسم الفيلم «ثقوب» إلى الأزمة الرئيسية، فالثقوب التي يجدها راكان في بيته ما هي إلا رمزٌ للثقوب الماثلة في حياته الخاصة. الــ«ثقب» يعني عطبا، ومشكلة يجب إصلاحها وهي إشارة متكررة على مدار الفيلم تُنبه راكان إلى وجود مشكلة حقيقية مع نفسه ومع كل من يحيط به.
الفكرة التي يبدأ منها الفيلم طرحه، هي فكرة جيدة وجريئة في الأساس، خاصة لسينما بدأت في التماس الطريق كالسينما السعودية التي أتت مُبشّرة بأفلام مميزة مثل«مندوب الليل» و«ناقة» ولكن وبسبب التوقعات العالية التي أتت نتيجة مستوى الأفلام المذكورة، بدا فيلم ثقوب دون مستوى النجاح المتوقع.
فالمشكلة فيه كانت التمديد الزائد للأحداث، ومحاولة قول الكثير في قصة واحدة، إلى جانب التأكيد على الرمزية. فرغم أن الحوار في السينما قد يكون كافيا، والصورة نفسها تقول الكثير، إلا أن الضبعان قد وقع في فخ التأكيد المستمر على ما يريد قوله. لم يلق الفيلم احتفاءً كبيرا في صالة العرض، وكان محبطا لآخرين حيث غادروا قبل انتهائه.
5 – في الكاميرا : الصراع الأبدي بين الإنسان وذاته
عُرض الفيلم البريطاني « In camera » للمخرج من أصل باكستاني «نقاش خالد» في المسرح الصغير بالأوبرا ضمن فعاليات أفلام خارج المسابقة الرسمية، وتحمس الكثير من الجمهور لمشاهدة الفيلم خاصة وأن بطلا من أبطال الفيلم هو الممثل «أمير المصري». يحكي الفيلم قصة الممثل الشاب «أدين» الذي يسعى للحصول على دور كبير في فيلم أو مسلسل. نجد أن أدين شاب مسالم ووديع تماما لكنه في الحقيقة ليس ممثلا جيدا وهذا ما يحول بينه وبين الحصول على دور حقيقي.
الصراع في الفيلم هو صراع نفسي بالدرجة الأولى فأصدقاء سكن أدين بين الموديل «أمير المصري» والطبيب ليسوا إلا انعكاسا لصراع أدين الداخلي. فالموديل هو الشخص الذي يجب أن يكون على شاكلته أدين لكي ينجح، وهو متصنع تماما، بينما الطبيب هو الصراع الناشيء بين أدين ومحاولته في أن ينجح، بينما يكون حقيقيا، في مقابل يقينه أن نموذج «الموديل» هو اللازم للنجاح. وعليه، يسلم أدين نفسه في النهاية للنموذج الشرير الذي يستولي عليه بشكل كامل لينتهي بصفته نسخة طبق الأصل منه، وتبدأ دورة جديدة في النهاية يكون ضحيتها ممثل جديد.
لم يعجب الجمهور بالفيلم كثيرا، حيث المشكلة الأولى والعائق الرئيسي في الفيلم كان افتقاره إلى الترجمة حتى الانجليزية منها. وعليه تنامى سخط كبير لدى كثيرين غادروا القاعة مع أول نصف ساعة من الفيلم. بينما غادر البعض قبل النهاية بسبب تشتت الفيلم، الذي كان واضحا في مواضع كثيرة، خاصة في العلاقة التي تربط الطبيب بالممثل الشاب والفتى الموديل. فالعلاقة بين هذا الثلاثي لم تكن قوية كفاية وذلك ما حال دون تحقيق تفاعل مع الشخصيات.
ويُحسب لــ«نقاش» ذكاؤه كمخرج وفكرته الجيدة التي للأسف لم تصغ كتابيا بشكل جيد كما بدأت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش