في قلب فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لهذا العام، اجتاحت عاصفة هادئة من المشاعر الجمهور الذي شاهد فيلم «انصراف»، وهو فيلم قصير للمخرجة السعودية «جواهر العامري». الفيلم، الذي يتناول برهافة مشاعر الحزن وتمرد المراهقة. الفيلم حصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة الأفلام القصيرة، ليضيف بذلك إنجازاً جديداً إلى مسيرة العامري الصاعدة.
هذا الفوز يأتي بعد العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان هوليوود للأفلام القصيرة، حيث حصلت العامري على جائزة أفضل مخرجة، كما فازت بطلة الفيلم الشابة «رجاء» بجائزة أفضل ممثلة. هذا النجاح المزدوج في هوليوود كان مؤشراً مبكراً على قدرة الفيلم على التأثير عالمياً، وجاءت ردود الفعل في القاهرة لتعزز هذا الانطباع.
حكاية فقدان وتحرر
في جوهره، يحكي «انصراف» قصة الجادل (رجاء)، وهي مراهقة تتصارع مع حزنها العميق بعد وفاة صديقتها المقربة. يتصاعد السرد عندما تضطر الجادل للمشاركة في نشاط مدرسي مستفز يقودها إلى انفجار عاطفي مفاجئ. تصبح هذه اللحظة نقطة تحول شخصية وجماعية، حيث تحوّل الجادل حزنها غضبٍ يتبعه رفض.
أوضحت العامري في مقابلة عقب تسلم الجائزة: "قصة الفيلم مستوحاة من أحداثٍ حقيقية"، وأضافت: "لطالما أثار اهتمامي الطريقة التي يتعامل بها الشباب مع الحزن. أردت من خلال شخصية الجادل أن ألتقط تلك الرحلة العاطفية".
من خلال سيناريو بسيط في ظاهره، ينقل الفيلم مشاعر مركبة تمتزج فيها الخسارة بالرغبة في تجاوز الألم، متكئًا على أداء متقن من الممثلين وغوص عميق في تفاصيل المشاعر الإنسانية.
جواهر العامري: صوت سينمائي سعودي متجدد
لا يمكن الحديث عن انصراف دون تسليط الضوء على مخرجته «جواهر العامري»، التي هي واحدة من أبرز الأسماء في جيل جديد من صناع الأفلام السعوديين. تخرجت العامري من برنامج الفنون السينمائية بجامعة عفت، وأكملت دراستها في إطار مبادرة الشرق الأوسط للإعلام (MEMI)، حيث صقلت مهاراتها في السرد البصري ورسم الشخصيات.
«انصراف» ليس العمل الأول الذي يحمل توقيعها؛ فقد سبق لها المشاركة في الفيلم الطويل «بلوغ»، وهو تجربة فريدة جمعتها بأربع مخرجات سعوديات أخريات. الفيلم، الذي عرض لأول مرة في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2021، تناول قضايا المرأة السعودية من زوايا متعددة، وكان علامة فارقة في مسيرة العامري الفنية. كما أنتجت العامري الفيلم القصير «من يحرقن الليل» للمخرجة سارة مسفر، الذي لاقى نجاحاً لافتاً وحصد جوائز مهمة في مهرجانات دولية وإقليمية.
تصف العامري رحلتها السينمائية بقولها: "بالنسبة لي، السينما ليست أداة سرد وحسب، بل مساحة للتأمل والتعبير عن المشاعر التي لا نجد الكلمات لوصفها"، وتضيف: "أعمالي هي انعكاس لما أراه حولي، للقصص التي تمر دون أن يلتفت إليها أحد، لكنها تحمل في طياتها روحاً إنسانية".
تعاونت العامري في «انصراف» مع ممثلين سعوديين شباب، بقيادة «رجاء»، التي قدمت أداءً استثنائياً جسد تعقيدات شخصية الجادل. بحركاتها الصامتة ونظراتها العميقة، استطاعت رجاء أن تنقل مشاعر الغضب والارتباك والخسارة بشكل لافت.
بالإضافة إلى رجاء، تألق طاقم الممثلين في تقديم أدوارهم بصدق، مما جعل التفاعلات بين الشخصيات تبدو طبيعية وحقيقية. كذلك ساهم التصوير السينمائي والإضاءة في تعميق الحالة النفسية التي يعيشها الفيلم، إذ استخدمت العامري ألواناً ولقطات تعكس عزلة الجادل الداخلية ورغبتها في التحرر.
رسالة سينما ناشئة
فوز انصراف في مهرجان القاهرة يعكس التحول الكبير الذي تشهده السينما السعودية، حيث أصبحت الأفلام القصيرة منصات للتعبير عن قضايا اجتماعية وشخصية بروح صادقة وأسلوب عالمي. الفيلم، الذي أنتج بشراكة بين «فرونت رو» و«كات فيلمز» وبدعم من صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي، سيحظى بتوزيع عالمي، مما يفتح الباب أمام الجمهور الأوسع لاكتشاف القصص السعودية برؤية معاصرة.
من خلال «انصراف»، تثبت «جواهر العامري» أن السينما السعودية قادرة على تقديم أعمال تمتزج فيها الرؤية الفنية بالرسالة العاطفية. في فيلمها، لا تقدم مجرد قصة مراهقة تواجه الحزن، بل تُظهر كيف يمكن للحزن أن يكون دافعاً للتغيير، وكيف يمكن للشباب أن يجدوا أصواتهم في عالم يحاول إسكاتهم.
هذا الصوت السينمائي، الذي ينبض بالإحساس والقوة، يمثل جيلاً جديداً من المبدعين السعوديين الذين ينظرون إلى المستقبل بثقة، مع الحفاظ على جذورهم وقصصهم المحلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش