منذ مطلع الألفية الجديدة، تصدّرَ البطل «المجرم» أدوار البطولة في عديدٍ من المسلسلات الأمريكية، حيث يميل صناع المسلسلات التلفزيونية إلى تقديم البطل بوصفه ضحيةَ ظروفٍ قاسية كالنضال من أجل العائلة مثلًا، كي يصبح انخراطه في عالم الجريمة مشروعًا أخلاقيًا، إنما عند حدود معينة يفقد هذه المشروعية1، إلا أن مسلسل «هانيبال» عن وحوش بشرية وليسوا مجرد مجرمين عاديين، حيث يركّز على صراع أعمق، لا من الناحية الأخلاقية، فهو لا يكترث لذلك، بل بين الخير والشر الذي يتفوق دومًا في تركيبة الشخصية. وكأنما كل شخصية تخبئ داخلها جانبًا مظلمًا تنجذب لها بعد سلسلة من الأحداث. ومهما يكن، لا يتوانى «براين فولر»، كاتب ومنتج المسلسل، أن يمنح «ميكلسن» جاذبية خاصة على الرغم من غياب تلك المشروعية الأخلاقية التي نتعاطف على أساسها معه على غرار بقية أشرار السينما، وإضفاء طابع إنسانوي في تنقله بين أدوار الطبيب النفسي، فهو الرائع، والشرير، والسخيف، والجريح، وجميعها أنماط الطب النفسي في السينما، وفقَ «سكوب يونغ»2.
عادةً، عندما تتحول الكتب إلى أفلام، والأفلام إلى مسلسلات، تقل فرص النجاح، عدا مسلسل «هانيبال»، الذي أنتجته شبكة «إن بي سي»، سيحقق عملًا رائعًا ومدهشًا وفوضويًا. قُدمت رواية «توماس هاريس»، وفيلم «صمت الحملان» (1991) الذي أخلص للرواية، بتكييفات جديدة لـ«براين فولر». يهتم «هانيبال» (مادس ميكلسن) بالشخصيات أيضًا بقدْرٍ يوازي اهتمامه بمسرح الجريمة، فنراه يصنع بجثث ضحاياه لوحات فنية منفّرة وملفتة في وقت واحد: رجل معلق على شجرة تم استبدال أعضائه بالزهور، آلة كمان مغروسة في حلق أحدهم حتى يتمكن القاتل من العزف بضحيته، دون فكاك. نجد الحمض النووي لـ«ديفيد لينش» و«ديفيد كروننبرغ» و«مايكل مان» و«ستانلي كوبريك» في تفاصيل هذا العمل.
وعلى عكس «السير أنتوني هوبكنز» بدوره الشهير الذي أوصل آكلي لحوم البشر إلى قاعة الأوسكار، يختبئ «ميكلسن» داخل بدلة فخمة ووجه حاد وجامد، تكشف أوجُه الإضاءة والتصوير المتميز، بحيث يثير الرعب والفزع من دون إسالة قطرة دم. بالطبع، لا يعود كل الفضل إلى «ميكلسن»، إذ تقدم كل شخصيات المسلسل في إطار عالمها الخاص مشاهدَ مدهشةً في مساراتها بين الخير والشر.
في الموسم الأول، يتوقف «هانبيال» عن القتل، حيث يفتتح عيادة نفسية خاصة لاستقبال المرضى. يتعرف «هانيبال» إلى «ويل جراهام» (هيو دانسي)، خبير بالسلوك الإجرامي، مدرس أكاديمي وعميل فيدرالي، يعاني من اضطرابات عقلية منحته بصيرة واضحة تمكنه من قراءة سلوكيات المجرمين ودوافعهم. يملك «ويل» حساسية مفرطة يستطيع أن يفهم بها سلوكيات المجرمين، وذلك من خلال إعادة تصوير الجريمة في ذهنه، ويرتجف كلما تقمّص رداتِ فعلِ الضحايا قبل القتل. لهذا، يتم تعيين الدكتور «هانيبال» طبيبه النفسي، للحفاظ على صحته العقلية، ومن هنا تبدأ علاقتهما الكارثية ومحاولاتهما المستمرة لافتراس كلٍّ منهما الآخر على امتداد ثلاثة مواسم.
وبعد عامين من ممارسة «هانيبال» نشاطه الطبي الجديد، يظهر مجرم منتحلاً نمط جرائمه المريعة التي منحت صاحبها لقب «سفاح تشيسابيك»، فيشعر «هانيبال» برغبة في إعادة هويته التي سُلبت منه. تتزايد حالة عدم استقراره عاطفيًا، حين يتجاوز علاقة «المعالج والمريض» بتكوين صداقة مع «ويل»، ويتورط في علاقة مع فتاة -«أبيغيل» (كيسي روهل)- مما يضطره إلى التستر عن جرائمها ويقنع «ويل» بذلك. ولكن بعد مدة محددة، يخرج الأمر عن السيطرة، فيقوم «هانبيال» بخطوة استباقية حيث يقتل الفتاة ويلفّق جريمتها إلى «ويل»، فتتأكد عودة الوحش.
يبني «هانبيال» جدارًا منيعًا حول نفسه، فهو يفرض نفوذه كطبيب نفسي على المرضى وكقاتل على الضحايا. ولكن وحده «ويل» من ينفذ إلى عالمه المحكم، نفسيًا وليس فيزيائيًا. إنه يقتفي أثرَ قاتلٍ ماهر لا يخلّف وراءه أيَّ خيط أو دليل. إنه يترك الآثار التي يريدها، لا التي تفوته. وكيما يفضح حقيقته، يحتاج «ويل» إلى إقناع المحقق ورئيس شعبة الإجرام «جاك» (لورنس فيشبورن) بالقبض عليه، لكنه سيتعين على «ويل» أن يتحول إلى شخص آخر في ركضه المجنون خلف «هانيبال».
يجد «ويل» أول رفض من الدكتورة «لانا» (كارولين دافيرناس)، التي أصبحت في علاقة غرامية مع «هانيبال»، حيث يخبرها أنها فقط ترى الجانب الأفضل فيه، وهو ما يبدو أن «هانيبال» يفعله بتنقله بين أنماط الطب النفسي في السينما، إلا أنها تدرك خطورته لاحقًا، وسيتعين عليها أن تقوم بالمثل في رحلة البحث وإن فقدت ذاتها. أثناء بحث «ويل» المحموم عن «هانيبال»، ينجذب إليه بشكل ما، فلا أحد يجاري عبقريته مثله، وهو ما سبق وأن أخبره به «هانيبال» بأنه سيجده شخصية مشوقة. ولكن من أجل الإيقاع به، يقبل «ويل» بعلاجه من قِبَل «هانيبال»، إذ يعتقد أنه محصن من الداخل بشكل محكم باعتبار أنه يعرف كل ثغرات الطب النفسي.
إن أهم ثيمة في مسلسل «هانيبال» تدور حول إمكانية التوحش في رحلة البحث عن الوحش، حيث نجد بناءً متصاعدًا وتحولاتٍ مستمرةً في شخصيات المسلسل. ففي الموسم الأخير، إحدى أكثر الحلقات إثارة، تتغير زاوية التصوير التي كانت تخص «هانيبال» لتشمل «ويل» وهو يتلذذ بأكل أول قضمة من ضحيته، حيث تعرض الكاميرا مشهدًا للتناظر البصري بين «هانيبال» و«ويل». وعلى الرغم من جميع محاولات قتل بعضهما، سرعان ما يعودان إلى بعضهما، كونهما يتماثلان بالعمق، بل وينقذان بعضهما، فرغم أن «جاك» أمر باغتيال «هانيبال» من السجن، عاد «هانيبال» لاستقباله كصديق، وبعد أن رد دينه «جاك» بإنقاذ «هانيبال» من غريمه صاحب مزرعة الخنازير الذي أراد موته، حيث أوكل مهمة القتل لـ«جاك» لينتقم لنفسه، إلا أنه قام بتحريره وتعاون معه، ولكن «هانيبال» شق بطن «جاك»، وسينقذ «جاك» حياة «هانيبال» مرة أخرى من الشرطة. إنه يتلذذ برؤية الشر وبعدها يوبخ نفسه على تلك اللذة. إن بحث «جاك» المحموم عن الوحش، وما يظل يخبر به نفسه والشرطة، تحول إلى هوس لمعرفه ذاته، إذ بات يكتشف حدود شخصيته بوجود الآخر، ليتحول إلى ما قاله «نيتشه»: «احذر وأنت تحارب الوحوش أن تصبح وحشًا مثلهم».
الأفظع من ذلك، أن «هانيبال» لا يكتسب وحشيته من قتل الناس وطبخهم وأكلهم فقط، إنما من إطلاق الوحش في أعماق الضحايا، أو صنعه بالتوجيه النفسي غير الأخلاقي، حيث يستفز غرائزهم للقتل، ومن ثم تتحول الضحية إلى وحش آخر، لتصنع ضحاياها ووحوشها، فبعد إنقاذ «أبيغيل» في الموسم الأول، يخبرها «هانيبال» بأنه لم ينقذها إلا ليرى حدود شخصيتها، حيث تقوم بقتل أحد الضحايا، ومن ثم يقتلها هو نفسه لاحقًا.
وفي الموسم الثالث، تظهر «شيوه» (تاو أوكاموتو)، التي أوهمها «هانبيال» منذ سنوات طويلة بأنه لم يقتل أخاها، حيث ألصق تهمة القتل بشخص آخر، لذلك قامت بحبس القاتل سنوات غير قليلة ولم تسمح لـ«هانيبال» بقتله، إلا أن «هانيبال» ظل دومًا يشعر بالفضول إزاء استعدادها للقتل. ولكن بعد سنين سيطلق «ويل» سراحه بالسر ليحقق رغبة «هانيبال» التي اكتسبها في رحلته خلف الوحش، حيث كان يعلم بأن سجينها سيختبئ للانتقام منها، وأنها ستضطر إلى قتله في النهاية. يفعل «ويل» ما عجز عنه «هانبيال»، بأن يدفع «شيوه» إلى القتل؛ لقد صار هو أيضًا يستمتع بدفع الآخرين إلى «حدود شخصياتهم». ظلت شخصية «شيوه» أعوامًا كثيرة دون حراك منذ أن قابلت «هانيبال»، أشبه بحيوان محنط، مثل شيء متعطل؛ لم تكن عنيفة إلا حينما يستوجب الأمر ذلك، ولكن كل ذلك تغير، وستتحول إلى وحش جديد يطارد «ويل» مرة بدفعه من القطار ومرة بإطلاق رصاصة في كتفه. وسنرى «ويل» يمارس دوره كوحش كاسر بتعليق الجثة على نمط جرائم «هانبيال» التي تبالغ في فنيتها «تكريمًا لضحيته».
في أحد الحوارات الغامضة، تُحذّر «بيديليا» (جيليان أندرسون) «هانيبال» من نمطه بأنه بات معروفًا، من دون أن نعرف ما إذا كانت طبيبتُه النفسية رهينةً أم مشاركة، ولكن في الموسم الثالث، يقتل «هانيبال» أحد ضيوفه أمامها على مائدة العشاء بتمثال لـ«أرسطو»، فيسألها: «هل تريدين المراقبة أم المشاركة؟». ترد والدموع تتساقط على وجهها: «مراقبة»، فيخبرها أن المراقبة أيضًا شكل من أشكال المشاركة، فيسألها بعد قتله: «هل توقعتِ ذلك؟»، فترد: «نعم»، لينتهي المسلسل، بعد قتل «التنين الأحمر العظيم» على أيدي «ويل» و«هانيبال»، بمشهد التوحد الحميمي والانتحار الجماعي من أعلى الصخر إلى البحر، وقبل النهاية، تظهر «بيديليا» في مشهد أخير وهي تقيم مائدة «هانيبال» الشهيرة كترميز لميلاد وحش جديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.والتر وايت في «بريكنغ باد»، كريستينا هيندركس في «غود غيرلز»، جيسون بيتمان ولورا ليني في «أوزارك» ، وجيمس غاندولفيني في «سوبرانو»
2.السينما وعلم النفس: علاقة لا تنتهي، سكيب يونغ، ٢٠١٥، كلمات عربية للترجمة والنشر مصر.