لقاءات و حوارات

المخرج «عساف الروسان» في ضيافة «ميم» حول فيلمه القصير «نمشي؟»‎

الفقدان أمرٌ جلل، خاصَّةً إذا ما أصابَ المرءُ في أحدِ والديه، إذَّاك يصبحُ الفاقدُ يتيمًا مهما بَلَغَ من العمر. وهذا يعني أنَّ اليُتم والشعورَ به ليسَ حصرًا على الأطفال وحدهم، بل إنَّه أمرٌ يرتبطُ بالطفولة في وجهٍ من أوجهها: وكأنَّ الفاقدَ يعود، عن غير قصدٍ منه، طفلًا. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ من فقدَ والده وهو أبٌ لطفلٍ يدخلُ في معتركٍ آخر. هل يظلُّ في تلك الطفولة من فقدانِ والده وعدم التجاوب مع الواقع اليومي، ممَّا قد يسبِّبُ حالةَ فقدانٍ لطفله أيضًا؟ أي هل يُميتُ نفسَه بوصفهِ أبًا إثرَ فقدانه هو لأبيه؟ أم يستنهض نفسه ويحيي أبوَّته في سبيل ألَّا يفقد الطفلُ أباه كما فقدَ جدَّهُ؟
كلُّ هذه الأسئلةُ وغيرها مُضمَرةٌ في ثنايا الفيلم القصير «نمشي؟» للمخرِج الأردني «عسّاف الروسان»، والذي عُرض من خلال فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته لهذا العام. تجربةٌ سينمائيَّةٌ تشتبكُ مع الشخصي وتنفتحُ على الآخر، تجربةٌ عن الفقدان والتعافي، عن الموت والطفولة.

لمَ قد يختار مخرجٌ أن تكون تجربته الأولى في الإخراج مشتبِكةً مع موضوعات شديدة التعقيد كالفقدان والموت والتخطِّي؟

بعدَ وفاة والدي وجدتُ نفسي في دوَّامةٍ من الأسئلة ومحاولاتٍ للفهم والتخطي، وإذ كنت جالسًا ذات يومٍ مع أحدِ الأصدقاء وأخبرتُه عن حلمٍ يطاردني بشكلٍ مستمرٍّ أرى فيه «سيارة نقلِ الموتى التي تحمل والدي مسرعةً وأنا خلفها»، بينما في الواقع كنت أجلسُ بجانبِ والدي الممدَّد داخلَ السيارة. أخبرني ذاك الصديق أنَّها تبدو كافتتاحيَّة فيلم؛ في حينها لم استسِغ مداخلتَه، لكنَّها بقيَت عالقةً في ذهني، خاصَّة وأنَّ الحلم ظلَّ يراودني ليلةً تلو أخرى. ولهذا السببِ قرَّرت كتابةَ ذاك المشهد، فلربما بكتابتي له أتخلَّص من ذلك الحلم. لكن هذا لم يحدث، لتبدأ رحلة الكتابة التي استمرت عامًا كاملًا ذهابًا وإيابًا، ما بين محاولة الفَهم لواقعِ الفقدان، والعودة إلى الأوراقِ لكتابةِ المشهد تلو الآخر، ومحاولة الإجابة عن السؤال الأهمِّ المرتبطِ بالقدرة على التخطِّي، وهو ما انعكس في عنوان الفيلم «نمشي؟».
لذلك لا أعتقدُ أنَّ اختيار الموضوع كان قرارًا اتَّخذته وأنا أتمتَّع برفاهيَّة الاختيار ما بينه وبين مواضيع أخرى، بقدر ما كان قدرًا محتومًا لا يدَ لي فيه، وكأنَّه هوَ الذي اختارني.

حدِّثنا عن تجرِبتِك مع هذا الفيلم، بما أنَّه تجرُبتك السينمائيَّة الأولى، وما الصعوبات والعقبات، وكيف كانت علاقتك مع الممثِّلين؛ خاصَّةً وأنَّ بعضهم من الأطفال؟

تجربتي مع فيلم «نمشي؟»‎ تتشابَه مع معظم المخرجين في أعمالهم الأولى. بدايةً هو أنَّ الفيلم مستقلٌّ ويفتقرُ إلى التمويل وواجهَ العديدَ من الصعوبات والرفض كمشروعٍ على الورق من ثلاث عشرةَ جهةٍ مختلفة، ممَّا أخَّرهُ لأكثرَ من عام. من ثمَّ استمرت عملية التحضير والإنتاج وما بعد الإنتاج لأحد عشر شهرًا. لكنَّ هذه الصعوبات، كما أسلفت، تتشابه مع العديدِ من البدايات، وأجدُ الأميز في هذه التجربة تخطِّي جميع التحدِّيات والتكاتُف من فريق العملِ والاستمرار معًا لفترة لا شكَّ أنَّها فترةٌ طويلةٌ بالنسبة للعمل على فيلمٍ قصير؛ بالإضافةِ إلى الدعمِ والسند من عائلاتنا وأصدقائِنا، وفي بعض الأحيان من غرباء مدُّوا لنا يدَ العون لإيمانِهم بالقصَّة ورغبتِهم في رؤيته يتحقَّق على الشاشة.
وهذا يقودني إلى دورِ الممثِّلين والعمل معهم، حيث كان من أكثر مراحلِ صناعةِ الفيلم متعةً بالنسبة لي عندما كان أحدُهم يأتي بتصوُّرٍ من تجربته الخاصة، سواء كانت التجربةُ مرتبطةً بأب، بأمٍّ أو بخال، وتتوالد أسئلةٌ حولَ أفعال الشخصيات أو ردودِ أفعالهم. هذه الإضافات أسهمت في إثراءِ العمل على المستوى العاطفي دون المساسِ ببساطة البناءِ لموضوعٍ معقَّد، حتَّى أنَّني أحيانًا كنتُ أشعرُ أنَّ التجربةَ نفسها نوعٌ من العلاج الجماعي لنا جميعنا، نحن العاملين بالفيلم، ممَّن فقدوا عزيزًا عليهم، وكأنَّنا نتصالحُ مع فكرةِ الفقدانِ عبرَ تخليدِ ذكراهم من خلال هذا العمل.
أمَّا العمل مع الأطفال (عون وبِشر) فلهُ خصوصيَّة سآتي عليها، فعلى الرغمِ من أنَّهما ذكيَّان، سريعا الحفظِ وجادُّان أمام الكاميرا، إلَّا أنَّني كنتُ متخوفًا من العمل معهما لأنَّهما ولداي. فبسبب طبيعةِ الفيلم والقصَّة كنتُ أرغب في سرِّي وبشدَّةٍ أن يشاركا في الفيلم بحثًا مني عن تجربةٍ سينمائيَّة تجمعنا معًا كأبٍ مع ابنيه. ومع ذلك فأنا لم أصارحهما بالأمر وعرضت عليهما الفكرة في البداية، وبعد موافقتِهما قمتُ بعملِ تجارب أداءٍ من واقع مسؤوليَّتي تجاه العمل، وهو ما شكَّل عليَّ ضغطًا داخليًا؛ حيثُ صرت أرتدي قبَّعتَين الآن: فأنا أمامهما مجرَّد أبٍ مسؤولٍ عنهما، أمَّا أمامَ فريقِ العملِ فأنا المخرجُ المسؤولُ عن العمل، وعندَ تصويرِ مشاهد تخصُّ واحدٌ من الطفلين تتصارعُ بداخلي مشاعرُ الأبوَّة والحماية المفرطةِ من جهة، والرغبة في الإعادة والتوجيه للحصول على أفضل أداءٍ ممكنٍ فنيًّا من جهةٍ أخرى. وبين القبعة الأولى والثانية وبين اللقطات، أراهما يمضيان وقتهما بمرحٍ وينشران البهجة، فأتذكَّر أنَّ عليَّ الابتسام والاسترخاء قليلًا.

في تغيير لنمطية استعمال الأبيض والأسود للفلاش بلاك، قمتَ وقلبتَ الآية واستعملته للحاضر، بينما مشاهد الفلاش باك كانت بالألوان؛ هل ثمة من فلسفة ما خلف هذا الاختيار الفني؟

نحن نرى العالم بالألوانِ وهذا هو الطبيعيُّ بالنسبة لنا، فإذا رأينا العالمَ فجأةً من حولنا بالأبيض والأسود سيصبحُ في منظورنا عالمًا ناقصًا وغير مكتمل، وهذا ما كنت أريدُ التعبيرَ عنه من خلال وجهةِ نظرِ الشخصيَّة الرئيسيَّة في الفيلم. فهو يرى العالم الآن بعد وفاةِ والده منقوصًا وغيرَ طبيعي، بينما تبقى الذكريات والفلاش باك بالألوان. ومن المسلَّمات أن يكون ملوَّنًا، لأنَّ والدَه موجودٌ فيه وهو الطبيعيُّ بالنسبةِ له.

قد يمثّل التعبير عن المآسي الشخصية بشكلٍ فنيٍّ ضربًا من الترويح عن النفس والتعافي، وقد يمثّل العكس تمامًا بما أنَّ الفنَّان يضطرُ لوضعِ يديهِ على أوجاعِه في سبيل تحويلها إلى عملٍ فني. النسبة لك، ما الذي مثَّله فيلمك الأول المُستقى من تجربةٍ ذاتيَّة، خلال العملِ وما بعد الإنتاج؟

لا أرى أن بالإمكان فصل الأمرين أو الاختيار بين أحدهما في عملِ الفنَّان بشكلٍ عام، فمثلًا في تجربتي مع فيلم «نمشي؟» انطلقَ المحرِّكُ الأوَّلُ لتحقيقِ العمل من قرار أنانيٍّ وشخصيٍّ كدافعٍ ومحفِّزٍ هدفه التعافي. أمَّا المحرِّكُ الثاني فلم ينحصر فقط في أوجاعي كفنان، بل تعدَّى ذلك إلى مشاعر أخرى، كالحزنِ والفرح والغضب وذكرياتي السعيدة والمؤلمة، جميعُ هذه العواطف مع بعضها شكَّلت الأساس للبناء العاطفي للشخصيَّة وللسرديَّة. أرى أنَّ هذين المحرِّكين ليسا حكرًا عليَّ كمخرجٍ وكاتبٍ للعمل، بل أرى أنَّهما أيضًا الأساس الذي استند عليه أبطال العمل لتجسيدِ ونقل أحاسيسهم عبر الشخصيات. لذا قد يبدأ العمل بالنسبةِ لي كمخرج (وأعتقدُ أيضًا أنَّ ذلك ينطبقُ على بقيَّة الفنَّانين المشاركين) من منطلقٍ أنانيٍّ في مراحل التحضير والتطوير والانتاج. ولكن فيما بعد وفي مراحلِ ما بعد الانتاج، وجدتُ نفسي كمخرجٍ أمام مسؤوليَّةٍ والتزامٍ أخلاقيٍّ وواجبٍ تجاه كلِّ من ساهم في إنجازِ الفيلم وإظهار المشاعر الصادقة التي التُقِطَت وسُجِّلَت على الكاميرا بأمانةٍ وإخلاص، آملاً أن يصل هذا الإحساس للمشاهِد.
ولقد لمستُ من ردود الفعل التي وصلتني أنَّ هذا بالفعل ما قد تحقَّقَ خلال عرض الفيلم في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ووصلَ الفيلم إلى جمهوره، واحترموه لأنَّه احترمهم عندما قدَّم لهم تجربةً سينمائيَّةً صادقة.

يُقال إنَّ الفنَّان لا يرضى عن عمله مهما بلغ من الإتقان، ولا يتجاوزُ رغبة تعديله إلا بالتجاهل إلى ما سواه. «نمشي؟» ليس بعيد العهد عنك، ولكن: هل بودِّك لو عدَّلت عليه أو بدَّلت فيه؟

هذا ليس مطروحًا على الإطلاق وسيبقى الفيلم كما هو دون أيِّ تعديلٍ أو تبديل، وهذا ليس عائدًا لاعتقادي بأنَّه بلغَ من الإتقان حدَّ الكمالِ أو قاربَ عليه؛ بل على العكس تمامًا، فأنا مدركٌ منذُ البدايةِ للتحديات والصعوبات التي واجهتْنا وكان لها تأثيرها على الفيلمِ بصيغته النهائيَّة، وبصفتي أيضًا مونتير الفيلم فقد قمت بعملِ وتجربةِ 27 نسخة من الفيلم «نمشي؟» قبل الوصولِ لهذِه النسخة الحاليَّة، وأستطيع الادِّعاءَ أنَّ هناك نسخًا كانت أكثر إتقانًا وإبهارًا وربما أيضًا أجمل بصريًا، إلَّا أنها ورغمَ ذلك لم تلامسني عاطفيًّا. لذلك تصالحتُ مع فكرة قبول المشاكل في النسخة الحاليَّةِ لصالحِ ما يُبرِز القصَّة ويخدم البناء العاطفيَّ بالدرجةِ الأولى. وقد لمست تقبُّلَ الجمهورِ للفيلم، وذلك لأنَّ الشخصيات لامستهم ووجدوا معها روابطَ مشتركة. ولا أنسى في نهاية العرض الأول كلمة  أحد الحضور - الذي أتوجَّه لهُ بكلِّ الحب والاحترام - عندما قال "الفيلم وصل!".

إلامَ تطمح أستاذ عساف كمخرج؟ وما الموضوعات الفنيَّة أو الخلفيَّات الفلسفيَّة التي تودُّ التعبير عنها في المستقبل؟

مع أنَّني ما زلتُ في طورِ تشكيل نفسي كمخرجٍ إلا أنَّني منحازٌ لسينما الشعر، وأطمح أن أستمرَّ في التعبير عن المشاعر الإنسانيَّة، أن أطوِّر تقنيَّاتي في هذا الأسلوب على الشاشة الكبيرة وإعادة تشكيلِ السرديَّات بدلًا من الاكتفاءِ بوصفها. تبقى المواضيع التي تستهويني هي تلك التي شكَّلت فهمي وتصوُّري عن ماهيَّة السينما المرتبطة بالمكان والعائلة والطفولة، لكنَّها أيضًا نابعةٌ من الذاكرة والتجارب الشخصية. حاليًا أعملُ على مشروعِ تطوير فيلمٍ روائيٍّ طويلٍ بعنوان «ابن الغريبة». من جانبٍ هو إعادة تشكيلٍ واقتباسٍ لمسرحية هاملت، لكنَّه أيضًا مستمَدٌّ من ذكريات طفولتي في القرية ويناقش المشاعر الإنسانيَّة تجاه العائلة والحب والتضحية والخذلان والانتقام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. سلطان محمد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا