لقاءات و حوارات

السينمائيُّ والمنتج «بكر الدحيم» في ضيافة «ميم»

لا يختلفُ اثنان على صِغَر سنِّ الصناعةِ السينمائيَّةِ في المملكة العربية السعودية، وكذلك لن يختلفا على الدعم وإتاحة الفرص المتوافرة حاليًّا، والتي تجعل من بدايتنا المتأخِّرة تاريخيًّا في هذا المجال عَرَضًا زائلًا عمَّا قريب، خاصَّةً إذا ما استُغِلَّت هذه الفرص عبر مواهِبنا الوطنيَّة الفذَّة. وسطَ هذه الأجواء، والحراك المحموم والشغوف، تنقلبُ الصناعة السينمائيَّة إلى أرضٍ شديدةِ الخصوبة؛ وأشدُّ ما نحتاج إليه فيها هو أن يكونَ لدينا - إن جازَ القول - زُرَّاع ماهِرون يعرفونَ كيفيَّة استغلالِ هذه الأرض الخصبة وينتجون لنا، ولتاريخنا وللأجيالِ القادمة، أطيب الثمارِ السينمائيَّة. هؤلاء الزُّراعُ هم المنتجون. 
اليوم، نستضيف سينمائيًّا ومنتجًا شابًّا يساهمُ في مسيرة السينما السعودية ويتقاسمُ معها فكرة أنَّهما ما يزالان في عمر الشباب. بل إن الطرافة التي لا تفوَّت في الأمر هي أنَّ صِغَرَ السنِّ هذا يتشاركُ فيه ثلاثة أفرادٍ مرتبطين بحوارنا مع المنتج المُستضافِ هنا. الأول هو الأستاذ «بكر الدحيم» وهو المنتج. والثاني هو المُخرج الفريد «خالد زيدان» صاحب فيلم «ميرا ميرا ميرا». والثالثة هي مخرجة عمل «وين الإمام؟» الشابة «أبرار قاري». هذه الطاقات الشابَّة تفجَّرت خلال هذا العام بفيلمين يشتركُ بينهما عنصرُ الإنتاج من خلال «الدحيم» وشركته «ڤو - Vues» للإنتاج السينمائي. يتبيَّن لنا من ذلك مستوى اليفاعة والحماس الفنيِّ الذي يسعى نحوَ آفاقٍ جديدة، ممَّا يمنحُ المتابعين شعورًا كبيرًا بالأمل - على الرغم من البداياتِ غير المستقرة - في مستقبلٍ سينمائيٍّ يواكب تطلُّعات هذا البلد الذي قدم الدعم لشبابه منذ البداية وأعطى لهم الفرصةَ للتعبيرِ عن أنفسهم.
الفرصُ والدعم، الطاقةُ الشابَّة والطموح، الحراكُ الشغوف والتجريب، كلُّها تفاصيلُ مهمَّة إلَّا أنَّها لا تكفي ما لم تتوفَّر رؤيةٌ فنيَّةٌ مغايرةٌ ومتجدِّدة، وأيضًا روحٌ مغامرةٌ تسعى لإيجادِ صورٍ مبتكَرَةٍ وتعبيراتٍ أصيلةٍ في الفنِّ السينمائي. وهذا ما نزعم أنَّنا رأيناه في تجربة «الدحيم» الإنتاجية خلال هذا العام من خلال فعاليات مهرجان البحر الأحمر، حيث عُرَِض الفيلمان القصيران «ميرا ميرا ميرا» و«وين الإمام؟».

حدثنا عن بداياتك في المجال السينمائي. ولمَ اخترت أن تكون منتجًا بالتحديد دونًا عن أيِّ المناصبِ في صناعة الأفلام؟

بداياتي لم تكن  واضحةَ المعالمِ سينمائيًا في فتوَّتي، ولكن بمرورِ السنوات باتت أكثر اتضاحًا. لطالما كان لديَّ اهتمامٌ بالفنونِ على اختلافها. بدايةُ اهتماماتي الفنيَّة كانت مع الرسمِ حيثُ كنت طالبًا كثيرَ الحركة، والطريقةُ الوحيدةُ لاشغالي هي إرسالي مع مدرِّس مادَّة الفنية لتزيين جدرانِ المدرسةِ بالرسوماتِ وتلوينها. وفي مرحلةِ المراهقة بدأتُ أكتشفُ لديَّ هواية التصوير الفوتوغرافي، ومن بعدِها تصوير الفيديو الذي كان مدخلًا لي إلى عالمِ التصويرِ السينمائي. وبعد فترةٍ طويلةٍ قضيتها في متابعة دراستي الجامعيَّة متخصِّصًا في هندسةِ الحاسب الآلي في الولايات المتحدة، تعرَّضتُ لحادثٍ مروري في مطلع عام ٢٠١٤، وهو الحادثُ الذي جعلني طريحَ الفراش لعدة أشهر. وعندما تعافيت، قرَّرت أنْ أوْلي شغفي اهتماميَ الأكبر، فالشغف يأتي أولًا والحياة لن نعيشها سوى مرَّةٍ واحدة. من هنا انطلقتُ في تجربتي السينمائيَّة الاحترافيَّة والتعليميَّة، ومن ثمَّ الإنتقال إلى فرنسا حيث السينما المستقلة في أعلى مراحلِ نضجها. وعلى الصعيد الأكاديمي، تخرَّجتُ متخصَّصًا بشكلٍ أساسيٍّ في التصوير السينمائي، وبشكلٍ فرعيٍّ في الإخراج. وقتها لم يكن الإنتاج جزءًا من خطتي، بل وجدتُ أنَّ المهندس بداخلي ما زال حيًا، وفي كلِّ مشاريعي كمصوِّرٍ سينمائيٍّ يقوم بإيجاد أفضل الحلولِ الانتاجية. مع الوقت بدأت تزدادُ مهامي لدرجة أنَّني وصلتُ في كثيرٍ من المشاريعِ إلى القيام بالدورين معًا، ومع نموِّ حجم المشاريعِ قرَّرت التفرُّغ للإنتاج، وذلك للشحِّ الواضحِ في عددِ منتجي الأفلام.

ما الذي تعنيه كلمة «ڤو Vues»، بوصفها كلمةً وشركةَ إنتاج؟

ڤو في اللغة الفرنسية تعني "مَناظر" أو "مَشاهد". وفي سياق صناعة الأفلام، تعبِّر كلمة "ڤو" عن المَشاهِد أو الرُؤى السينمائية.
و «ڤو» هي منشأةٌ رائدةٌ في عالمِ السينما. انطلقت من قلبِ الرياض النابض، متخصِّصةً في مجالِ الاستشارات حيثُ تمثِّل الجزءَ الأكبرَ من أعمالها، وفي مجالِ الإنتاج السينمائيِّ بالعملِ على أفلامٍ نوعيَّة. نحن نؤمن بأنَّ كلَّ فيلمٍ هو عملٌ فنيٌّ متميِّزٌ يستحقُّ العناية والتطويرَ بأسلوبٍ يتناسبُ مع خصوصيَّته. وبالتالي نعملُ عن قربٍ مع شركائنا لفهمِ رؤيتهم وتحويلها إلى واقع، ونفتخر بكوننا جزءًا من صناعة السينما في المملكة العربية السعودية، ونتعهد بأن نكون داعمين وممكِّنين لكلِّ من يسهمُ في ازدهار هذه الصناعة في وطننا.

على الرغم من الفارق الفني، إلا أنَّ فيلمي «ميرا» و«الإمام» يشتركان في النَّفَسِ المختلف فنيًّا وطموح الذهاب إلى أبعد مما قدمت الأفلام السعودية القصيرة. هذا شيءٌ مبشّر بحدِّ ذاته، لكنَّه قد يكون مخيفًا لبعض المنتجين؛ خاصَّةً وأن خيار الفيلم التجاري الأبسط والأسرع إلى الجمهور دائمَ الوجود. أخبرنا، لمَ اخترت هذين الفيلمين بالتحديد؟ 

يُعتبرُ الاعتقادُ بأنَّ الفيلمَ التجاريَّ هو الطريقةُ الأسهلُ والأسرعُ للوصول إلى الجمهور فكرةً شائعة، ولكن ليس لدى جميع المشاهدين نفس الذائقة. إنَّ وعي الجمهورِ وتجاربَه السينمائيَّة قد تغيَّرت بشكلٍ كبيرٍ مقارنةً بالماضي، كما أنَّ نظام التوزيع والتسويق القديم لم يعد فعَّالًا كما كان.
لذا نشهد مؤخَّرًا ازدهارًا ملحوظًا للأفلام الفنية وأفلام المهرجانات على الساحة السينمائيَّة المحليَّة والعالمية. كما يظهر بجلاءٍ تواجد أعمالٍ تتمتَّعُ بجودةٍ فنيَّةٍ رفيعةٍ تستهدف الجمهور العام، وليس كما كان معتادًا من بعض صنَّاع الأفلام المستقلَّة الذين كانوا يروجون لأسلوبٍ نخبوي. هذا التحوُّل ساهمَ إلى حدٍّ بعيدٍ في تعزيزِ التسويق لهذا النوع من السينما.
في سياق إنتاج فيلم "وين الإمام؟"، كانت هناك اعتباراتٌ متعدِّدةٌ وراء اتخاذ القرار، وأبرزُها وجودُ مشروعٍ لفيلمٍ طويلٍ قيد التطوير مع المخرجة المبدعة أبرار قاري. ضمن هذه الرؤية التطويريَّة، كانت أبرار تعمل على عدَّة أفلامٍ قصيرةٍ لتأهيل نفسها لصناعةِ فيلمها الطويل الأول. ولتزامنِ ذلك مع احتياجات دراستها في مرحلة الماجستير، فقد أضفنا الفيلم إلى قائمة انتاجاتنا كخطوةٍ تدعم هذه المتطلبات، مع إدراكنا أنَّه ينتمي إلى فئة الأفلام الطلَّابيَّة.
أما بخصوص فيلم "ميرا، ميرا، ميرا" فقد جاء قراري عقبَ مشاهدة فيلم "عثمان" والتناغمِ بين الكاتب عبد العزيز العيسى والمخرج خالد زيدان ومستوى جودة الإنتاج، رغم العوائق التي واجهت الفيلم من شحِّ الموارد والميزانيَّة، إلا أنَّ الجودة في المُخرَجات تغلَّبَت على كلِّ ذلك، وهو بلا ريبٍ دليلٌ على جودةِ التي قدَّمها خالد زيدان في إخراجِ هذا الفيلم بأفضلِ شكلٍ ممكن. ومن هنا حدثَ تواصلٌ بيني وبين خالد وتطوَّرت العلاقة، ودائمًا ما تمحورَ حديثنا عن رفعِ جودةِ الإنتاجات المحليَّة، تحديدًا في الفيلم القصيرِ حيث لا شكَّ أنَّها ستنعكسُ على كامل الصناعة. من هنا انطلقنا في رحلة "ميرا، ميرا، ميرا" بهدفٍ واحد، ألا وهو صناعةُ مرجعٍ لجميع صنَّاع الأفلام محليًا من كافَّة النواحي، سواء إنتاجيًَا، إخراجيًّا أو تسويقيًّا.

حدثنا عن المنتجين في الصناعة السينمائيَّة السعوديَّة، وعنك أيضًا كمنتج: كيف ترى المستوى في العموم، ما التحديات والعقبات، وكيف ترى مستقبل المنتج السعودي؟

مع بداياتِ الحقبةِ الجديدة لإنتاجِ الأفلام في السعودية، لم يكن مفهومُ المنتج ودوره في الأفلام واضحَيْن، وذلك بسببِ أنَّ أغلب الخبراتِ كانت تأتي من مجال صناعةِ الإعلانات المزدهر. فالمنتجين في الإعلانات هم أقرب إلى المنتج المنفِّذ أو مدير الإنتاج في الأفلام، واللذَين تقتصرُ أدوارُهما على تنفيذِ مشروعٍ رُصِدَت له ميزانيَّةٌ محدَّدةٌ واعتُمدَتْ لأجله فكرةٌ وأهدافٌ تخدم المنتجَ وليسَ القصة.
مع الوقت بدأت تتَّضح المعالمُ وينضجُ السوقُ بوجودِ تجارب إنتاجيَّةٍ بخلفيَّةٍ سينمائيَّة، على غرار المنتج معتز الجفري و المنتج عبدالله عرابي حيث ساهمت تجربتهما في تعزيز الوعي بأهميَّةِ دور المنتج الذي يمتدُّ من مراحل التطوير الأولى إلى البحثِ عن التمويل، ممَّا يسهِمُ بشكلٍ فعَّالٍ في تسريعِ تنفيذِ الفيلم كعنصرٍ أساسيٍّ وليس مجرَّدَ منفِّذ.
أرى مستقبلًا مبهرًا للمنتج السعودي بكل بساطة لأننا نمهد الطريق أكثر وأكثر بكل هذه التجارب و نخلق الوعي الذي سيسهم برفع جودة الإنتاج. لأن البنة التحتية تنضج أكثر وأكثر وسيكون التركيز في الفترة القادمة على رفع الجودة و ليس بناء الأساسات.

من الواضح، في تتر الفيلم النهائي من «ميرا»، أنَّك قد أدخلت التجربة السينمائيَّة إلى مناطق جديدةً من ناحية التمويل، كالمطاعم مثلًا. هذه خطوةٌ ذكيَّةٌ في خلق شبكة علاقاتٍ بين مجالات مختلفة تستفيد فيها كل الأطراف. حدثنا عن هذه المغامرة الإنتاجية.

قبل البدءِ بتجربة "ميرا، ميرا، ميرا" ، وُضِعَت خطة استراتيجية شاملة لإنتاج فيلم يهدف لأن يكون مرجعًا لصناعةِ الأفلامِ القصيرة في المملكة..
جزءٌ أساسيٌّ من هذه الخطَّة كان مستلهَمًا من رؤية 2030، والتي يعدُّ أحد أبرز أهدافها هو مساهمةُ القطاع الخاص في مثل هذه المشاريع وعدمِ الإعتماد الكليِّ على الدعم الحكومي. بناءً على ذلك سعينا كجهةٍ استشاريَّةٍ إلى تحليلِ العديد من الجهات وتطلُّعاتها وأهدافها، وكيف يمكنُ أن تكونَ  جزءًا من "ميرا، ميرا، ميرا". كان التروِّي وعدم الاستعجال من العواملِ الرئيسيَّةِ التي ساهمت في نجاحِ هذه الاستراتيجيَّة، حيث أنَّها تضمَّنت الحصولَ على دعمٍ على شكلِ "جوائز خدمات" من مهرجان أفلامِ السعودية، إذ حصلَ الفيلم على ٣ جوائز (قمرة للإنتاج، سبيكتر لما بعد الإنتاج وايكيو للمعدات والفريق)، وهي الجوائز التي ساهمت في تغطيةِ أكلافِ الأقسام الأساسيَّة للفيلم. ثمَّ بعد ذلك جرى توسيع العلاقة مع قمرة إلى أن تكون إنتاجًا مشتركًا، حيث ستساهم بسدِّ جزءٍ من العجز النقدي، بالإضافة إلى فريقها. كما حصلَ الفيلم على دعمٍ جزئيٍّ من إثراء ودعمِ ترويجٍ غير مباشرٍ من شركةِ سلة.
أظهرَ روَّاد الأعمال السعوديين حماسًا كبيرًا لدعم هذا الحراك، ولكن لم يكن المسارُ واضحًا لدخولهم، وبمجرَّد ما وُضِّحت الأمورُ لهم لم تتوقَّف شركات المأكولات والمشروبات عن تموينِ الفيلم بشكلٍ كاملٍ والتنافسِ بسخاء لأجل ذلك. كما أنَّ شركات الفندقة والعطور والمعدَّات واللوجستيات كانت شريكةً مهمَّةً ساهمت في إنجاحِ هذه التجربة السينمائيَّة الفريدة.

نبارك لك ترشيح فيلم «ميرا، ميرا، ميرا» ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كليرمونت فِرَّان الدولي بنسخته السابعة والأربعين، المهرجان الأهم للأفلام القصيرة، وإنَّها لخطوةٌ كبيرةٌ ومستحقة. حدثنا عن شعورك، وإلى أيِّ مدى تطمح أن يصل فيلما «ميرا» و«الإمام»؟

أشكر لكم مشاعركم الطيبة، ولطالما كانت ميم جزءًا مهمًا في تسليط الضوء على الأفلام المحلية.
أشعر بسعادةٍ وفخرٍ عظيمين بتمثيل المملكة العربية السعودية في مهرجان يُعتبرُ من الأهم على مستوى العالم. كما أنَّني أتذكَّر العهد الذي قطعناه أنا وخالد خلال حضورنا للمهرجان عام ٢٠٢٣، وهو أنَّنا سنعود بالفيلم القادم للمشاركة بالمسابقة الرسمية، وقد تحقَّق هذا العهد.
نحنُ في ڤو نعملُ على وضع خطَّةٍ توزيعيَّةٍ مستقلَّةٍ لكلِّ فيلمٍ تتناسبُ مع نوعيَّته. وبما أنَّ فيلم "وين الإمام؟" في منتصف رحلته، فإنَّنا نأملُ  أن يواصلَ ترشيحاته ومشاركاته في المهرجانات. وفيما يتعلَّق بفيلم "ميرا، ميرا، ميرا" فهو لا يزال في مراحله الأولى، وبتوفيق من الله، هناك خطَّةٌ للحصول على عرضين أوليَّين إضافيَّين في أمريكا وآسيا.

ما هي مشاريعكم  المستقبلية، هل ستواصلون العمل على الأفلامِ القصيرةِ أم ستنتقلونَ إلى الروائيَّة الطويلة ؟   

للأفلام القصيرة مكانةٌ كبيرةٌ في قلبي ولن أتوقف عن إنتاجها، ولكن لا بدَّ من أخذ فترة توقُّف منها للتركيز على الفيلم الطويل القادم "جثمان أخضر"، من كتابة وإخراج خالد زيدان، والذي سيكون امتدادًا لهذه التجربة الإنتاجية الفريدة التي نسعى إلى تطويرها لتطبيقها في هذا الفيلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. سلطان محمد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا