تقسِّم أدبيَّاتُ النقدِ الأدبيِّ الغربيةُ الرواية إلى نوعين: روايةُ النوعِ الأدبي، والروايةُ الأدبية. والمقصودُ برواية النوع الأدبي هي تلك الروايات التجارية التي تُصنَّف بناءً على محتواها وطريقة بناء أحداثها، مثل روايات الرعب، الجريمة، والخيال العلمي… ومن الأمثلة عليها أعمالُ أحمد خالد توفيق وأحمد مراد، وفي السعوديَّة أعمالُ أسامة المسلم. هذا النوع يقابلهُ نوعُ الرواياتِ الأدبيَّة التي يمكنُ تعريفها بالسَّلب، أي أنَّها ليست روايةَ رعب ولا جريمة… ولا يمكن حصرها، غير أنَّه من الممكنِ التعرُّف إليها من خلالِ المفارقة مع تِلك الروايات.
إلا أنَّ هذا التحديد قد يوقِع المتلقِّي بالإيهام، لأنَّه ليس دقيقًا بتصوُّري، فكيفَ يمكن تصنيف روايةٍ مثل «اسم الوردة» لامبرتو ايكو بأنَّها روايةُ جريمةٍ وغموض، أو كيف نضعُ رواية «الأخوة كرامازوف» أو «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي مع روايات أجاثا كريستي في تصنيفٍ واحدٍ لأنَّها رواياتٌ تدورُ حول حوادثِ قتل. لذلك علينا أن نسلُك طريقًا آخر يمكننا من خلاله تحديدَ آليَّةٍ قد تساعدُنا على الفصلِ بين تلك الأعمالِ التي نسمِّيها تجاريَّةً أو شعبيَّةً وتلكَ التي نسميها "تجاوزًا" أدبًا رفيعًا. ولا أجد شيئًا مثل الحبكة!
أما روايات النوع "التجارية" فتُختزل جماليَّتها في الحبكةِ والتشويق، بل ويمكن القولُ إنَّها لا شيء سوى حبكةٍ وتشويق، والقارئ لا ينتظرُ من تلكَ الأعمال سوى ذلك الإنفعالِ اللذيذِ الذي يدفعه لاكتشاف ما الذي حدث، ومن هنا نفهم كيف يعملُ مصطلح "حرق الرواية"، فلو كشفَ القارئ مسارَ الحبكة ونقاطَ تحوُّلِها لما عادَ قادرًا على التفاعلِ مع تلقِّي الروايةِ بذلك الانفعال والتشويق ولا يبقى لها شيءٌ آخرُ في الرواية. إنَّ الحبكة وخلق التشويقِ هُما جوهر هذه الأعمال.
لا يعني هذا أنَّ روايات النوعِ الأدبيِّ يجبُ أن تفتقرَ إلى الحبكة أو التشويق، بل إنَّ الفرقَ يكمنُ في الدَور الذي تحتلُّه الحبكةُ في هذه الأعمال. ففي الأعمال الأدبية/الفنية تتداخلُ مجموعةٌ من العناصرِ المختلفةِ لتشكِّل جماليَّة النص: الأسلوب، الشخصيات، المشاهد وغيرها، ممَّا يتيحُ للقارئ متعةَ إعادةِ قراءةِ بعض هذه الأعمال حتى بعد أن يكون قد اكتشف كلَّ نقاطِ التحوُّلِ في حبكتها. هنا يبحثُ القارئ عن جماليَّةٍ أعمق لا تقتصرُ على الحبكة والتشويق فحسب.
إذا نظرنا إلى الحبكةِ بحسبِ البُنيةِ السردية للعمل الفني، يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
حبكةٌ خطيَّة: وفيها تُروى الأحداثُ بترتيبٍ منطقي، نبدأ من النقطة (أ) ثمَّ (ب) ثم (ج)... وهكذا بتسلسلٍ زمنيٍّ منضبطٍ وواضحٍ من البداية حتى النهاية.
حبكةٌ غير خطية: وفيها تُروى الأحداثُ بترتيبٍ يخلقُه الراوي، بحيثُ يمكنُ البدءُ من (ج) ثم العودة إلى (أ) ثم القفز بالزمن إلى (ب) …. وهكذا، إذ تُسرد الأحداث دون ترتيبٍ زمنيٍّ منطقي، يتحرَّك الساردُ إلى الأمامِ والخلفِ بحسب رؤيته الفنيَّة لهيكل العمل.
والحبكة، سواء كانت خطيَّةً أو غير خطيَّة، لا تختلف في بنيتها بل في شكلها، فهي منذ كتاب أرسطو «فن الشعر»، مرورًا بهرم غوستاف فريتاغ وصولًا إلى أفلام مارفل، لا تخرجُ عن أن تكون كالتالي: عرض - تصاعد - الذروة - النهاية. أما النوع الثالث من أنواع الحبكات، والذي تمتاز به بعض الأعمال التجريبيَّة والذي لو وُجِد في عملٍ أدبيٍّ فلن يحقِّق إلا مقروئيَّةً محدودةً ولن يتذوَّق العملَ إلا عددًا محدودًا من المهتمين، فهو ما يلي:
غياب/تدمير الحبكة: ولا يمكن وصف كيف تكون الحبكةُ في هذه الأعمال، إذ هي مُدمَّرة ولا حصر لطرقِ تدميرها. قد نبدأ في نقطة (أ) ثَّم (ج)، من بعدها نترك (أ) و (ج) ونبدأ من نقطة (أ) أخرى غير الأولى… وهكذا يمكن أن تكون مجموعةً من المشاهدِ المستقلَّة أو مشاهد وذكريات… تركيبات لا يمكن حصرها، والأحداث لا تقعُ بحسب متواليةٍ سببيَّة. ونميِّز هذه "الحبكة" بعدم وجود نقاطٍ يمكن تتبعها لتحديدِ حبكةٍ واحدة.
وإذا أردنا تقسيم هذه الحبكات الثلاث بحسب "تجاريتها" والتلقي والانتشار في ظروفٍ متعادلة، فإنَّ الغلبة للحبكةِ الخطيَّة بلا شك.
وكلُّ ما ذكرناه عن الحبكات الروائيَّة ينطبقُ تماماً على الأفلام والمسلسلات، فكلُّ الأفلام أو المسلسلات التجاريَّة الناجحةِ تعتمدُ في جوهرها على الحبكةِ والتشويق، إذ تتوافقُ في هذا مع روايات النوع الأدبي التي يسهُل تحويلها إلى أفلامٍ أو مسلسلات، كما يحدث الآن مع روايات السعودي أسامة المسلم.
نعود إلى فيلم «بيدرو بارامو» (2024) Pedro Páramo الذي أنتجته نتفليكس من إخراج المكسيكي رودريغو برييتو، وهو كما نعرف اقتباسٌ "حرفيٌّ هذه المرة" من روايةٍ تحملُ العنوان نفسه للمكسيكي خوان رولفو. يتتبَّع الفيلم في بنائه بناءَ الرواية، بل ويحرص على استخدامِ ذات الحوارات، ويُسمعنا بضعةَ أجزاءٍ من النصِّ عبر صوتِ الراوي في الفيلم.
يحاول الفيلم محاكاةَ الرواية بطريقةٍ قد تبدو غريبةً أحيانًا، حتى على مستوى الحبكة - وهي ما يهمني هنا - إذ غامرَ الفيلم واستخدم ذات البناء لحبكةِ الرواية غير الخطيَّة والمعقدة، والتي لا تتَّخذ مسارًا زمنيًا واضحًا في التنقُّلِ ما بين الأزمنة أو ما بين الشخصيات، ما يسبِّب ارتباكًا وحيرةً لدى المشاهد، وذلك على الرغم من أنَّ الفيلم يحاول التخفيف من هذا الارتباكِ بحِيلٍ صغيرةٍ على غرار ذكر اسم الشخصية التي ننتقل إليها بطريقةٍ عفويَّةٍ داخل المشهد، أو تثبيت الكادر على الشخصيَّة مع تغيير ملامحه في سنٍّ أكبرَ أو أصغر.
إذا افترضنا أنَّ الترتيبَ الزمنيَّ المنطقيَّ لحبكةِ الرواية أو الفيلم هو:
طفولة بيدرو ومقتل والده - علاقته بسوزانا وغيابها - صعود بيدرو وتمدُّد نفوذه - عودة سوزانا ووفاتِها - تدمير كومالا - مقتل بيدرو - رحلة خوان ابن بيدرو إلى كومالا بحثاً عن أبيه.
نجدُ أنَّ الرواية/الفيلم لم يبدأ بطفولةِ بيدرو، بل بدأ برحلة خوان إلى كومالا، ثمَّ يتخذ السردُ مسارًا غيرَ خطيٍّ ننتقلُ فيه زمنيًا إلى الخلف والأمام بوتيرةٍ مختلفة.
من خلال استكشاف حبكة «بيدرو بارامو» غير الخطيَّة، يمكن الاقتراب من فهمِ المغامرة التي تحاولها نتفليكس في تركِ الحبكة الخطيَّة مضمونةَ العوائد، والحفاظ على حبكةِ الرواية غير الخطية. أظنَّ أنَّ نتفليكس كانت تراهنُ على انتشار الرواية المُسبق وقرَّرت أن تكتفي بالعددِ الهائل من قرَّاء الرواية الذين لا شكَّ أنَّ لديهم تطلُّع كبيرٌ لمشاهدةِ الفيلم، وربما خشيت من إغضابهم لو تلاعبت في الحبكة وبنتها بناءً يضمن لها مشاهداتٍ أعلى لكنَّه يخالف بناءَ الرواية.
كان على نتفليكس أن تختارَ ما بين المشاهدين الجدد (غير قرَّاء الرواية) الذين ستناسبهم حبكةً خطيَّةً مباشرةً وسهلة، أو الاكتفاء بالمشاهدين المحتملين من قرَّاء الرواية الذين ستناسبهم حبكةً غيرَ خطيَّةٍ كما في الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش