برونو غانز: بين تخوم الخير والشر
المؤلف: أوين جليبرمان ترجمة: رشا كمال
Maha Sultan

قد لا يعلَم الكثيرون بهذا الأمر، ولكِن عندما حصل الممثل السويسري الرَّائع برونو غانز – الذي تُوفَّي عن عمر ناهز السابعة والسبعين – على الدور الذي أطلق شهرته – دور أدولف هتلر – في فيلم “السُّقوط” (Downfall)، كان واحِدًا من أكثر الخيارات التّمثيليّة المُتناقضة في الأفلام الحديثة. يُمثِّل غانز هتلر في أيامِه الأخيرة مِن الحرب العالمية الثّانية، عندما حُوصر الفوهرر في قبوِه المحصّن تحت الأرض – والأكثر من ذلك، تحت وَطأَة اِنهيار أحلامه الشِّريرة – مثّل هتلر في أقصى حالاته الغاضبة. كان تشخيصًا غاضبًا، غريبًا، أُوبراليًا وهادِئًا؛ كان تمثيلًا شرسًا بحقِّ. وتسبَّب الفيلم في إطلاق آلاف المزحات عن هتلر على الشَّبكة العنكبوتيّة.

وحتى تلك اللحظة، لم تكن لتلك النزعة العدوانية المُتقلِبة أي علاقة بشخصية برونو غانز! لقد كان ماكرًا ومتأملًا، متشائمًا لكنه مثير للشفقة، متسلطًا داخليًا، ودائمًا ما يكون هادئًا جدًا. في عينيه ألْق يُمكن أن يشّع بأي شيء، من المراوغة المرِحة إلى أعنفِ قلقٍ وجودي. في بعض الأحيان كانت تنضح شخصيته عن نسخة أوروبية من السِمات التي نربُطها بالممثل ويليام دافو؛ متردد ولكنه لا يزال شديد الابتهاج، صاحب نزعة دنيوية للخير. في آخر فيلم شاهدته له – “المنزل الذي بناه جاك” (The House That Jack Built)، من إخراج لارس فون تراير – قام غانز بدور أشبه بالملاك الحارس الغيبي الذي يقود رحلة علاج قاتل مُتسلسل، وإن كان هذا يبدو غير معقول – حسنًا، فإنه فيلم لِفون تراير. إن المدهش في أداء غانز أنه مثّل الدور، ونحن صدقناه تمامًا؛ لعِب الشخصية كتنْويعة مُغايرة للأدوارِ التي تخصَّص فيها: روح هائِم يَعلم كُنْه كل شيء عن الجانِب المظلم، ولكن يبقى على الجانب الخيّر بشقِّ الأنفس.

كانت تلك القُدرة الاستثنائيِّة على التبحُّر في الأخلاق من زوايا مُتقابلة هي التي جعلت نُسخته لهتلر ساحِرة للغاية. بِحلول الوقتِ الذي صدر فيه فيلم “السقوط” في عام 2005، حاول كثير من الممثّلين العظماء أداء دور هتلر، لكن ربما قد يكون غانز هو أول من تمكِّن  تمامًا من تجسيده روحيًا وجسدِيًا ومزاجيًا وحتّى إيمائيًا. حلّق بِالدَّور من صُورة الطَّاغية الساحِر الذي يصر على أسنانه كما رأينا وسمعنا هتلر في خُطَبه المسجَّلة، إلا أنه في “السقوط”، كان هذا الديكتاتور يقتات على  مُخِّدر أوهامه، يَدُه المقبوضة ترتجف من ورائِه، عقله مُقتنِع بأن القوات الألمانية – رغم أنها بدت خاسِرة – ستنطلق نحو النَّصر في أَي لحظة. قدَّم غانز صورة مزعجة عن الجانب المتحضِّر من هتلر – الابتسامة البريئة التي تُشبه ابتسامة الأطفال، التَّودد المصطنع المدروس حول النِساء والأطفال – لكنَّه هوى بِه بعد ذلك إلى الدِّرك الأسفل من الغضب ليتمخَّض عن دراسة حقيقية حول الشّر والارتياب المتضخِّم في نظرته تِجاه العَالم. عبّر غانز بأسلوب مسرحي عن كيفية قيام هتلر ببناء غضبه كمجال للقوى من حولِه، وإقصاء أي شيء لا يرغب في رؤيته بعيدًا. كان أداءً ملحمِيًا، ولكن بأسلوبه غير المعهود كان هو برونو غانز خالصًا: صورة للإنسانية حيث لا تتوقِّعها.

ظلّ أداؤه على هذا المنوال ولو بهدوء لعدَّة عقود، أمّا أداؤه الفَذ في الدور الآخر الذي لفت إليه أكبر قدر من الاهتمام، كان الملاك المُحلق الرقيق مفطور القلب في “أجنِحة الرَّغبة” (Wings of Desire). أنا لسْت واحدًا من هؤلاء النِّاس الذين يعتقدون أن فيلم فيندرز لِعام 1987، الذي يبدُو كقصيدة سيمفونيَّة لبرلين، هو واحد من تلك الرَّوائع – أجده بالأحرى فارغًا عن كونه خلاَّب، ولطيف على الأغلب – لكنَّه لا يزال هو الفيلم الذي أعُود إليه لَأحدق ببساطة إلى تمثِيل غانز.

في دور داميئيل – أحد المَلكين اللذين يطوفان حول برلين البائسة المصممة بالأبيض والأسود وهما يسترقان السمع إلى أفكار البشر ويوجهانهم أحيانًا إلى العالم الآخر – اكتسى غانز، بمعطفه الأسود الطويل، بأحد أكثر مظاهر الشفقة التي رأيتها تعقيدًا. لدى الشَّخصية الكثير لتبوح بِه، لكن جوهر ما يقوم به غانز هو الاقتراب من حافَّة التمثيل في الأفلام الصَّامتة. كَقوَى خيِّرة، وحضُور، لا يوجد ما يُضاهِيه! وثمَّة لحظات – مثل تلك التي يُعامِل فيها أحد الرجال بِرفق في القطار الأرضِي – يتحول فيها الفيلم ليُصبح معنىً للرِّقة كما في أغنية إليانور ريغبي؛ هذا بسبب غانز الذي يجعلنا نُصدِّق بأنه قد يهيم عشقًا بفنانة الأرجوحة الفرنسية – الدور الذي قدّمتهُ “سولفيج دومارتين” – بما يكفي ليرغب بعدها في التّخلي عن أجنحته والانضمام للجنس البشريِّ.

كان برونو غانز لِوقت طويل الشَّاب في منتصف العمر الذي نراه على مُلصقات الأفلام والذي يمثل القلق الأوروبيّ، حيث يتوارى في ثنايا الشَّرق الأوسط المُمزق من الحرب في فيلم “دائِرة الخداع” (Circle of Deceit) للمخرج فولكر شلوندورف، أو الجوّ الكابوسيِّ الخانق في “نوسفيراتو” لفيرنر هيرزوج. اِكتسبت ملامِحه ندوبًا من معارك دنيوية لم يخسرها قط، وأصبح شَعْره المتراجع عَلامتَه المميَّزة لِشخص دائِم التَّفكير، ربما أكثر مِن اللاَّزم. رأيته لأول مرَّة عندما لعِب دور عَالِم الحاسوب الذي تحوّل إلى سيد الشطرنج العصبيِّ في الفيلم التلفزيوني الألماني “أبيض وأسود مثل النهار والليل” (Black and White, Like Day and Night) عام 1978 للمخرج فولفجانج بيترسن. ويمكن دائمًا الاعتماد على غانز في رفع وتيرة الأحداث بمهارة قديمة مصقُولة في أفلام هوليوود مثل “أولاد البرازيل” (The Boys of Brazil)، أو لاحقًا في “المرشح المنشوري” (The Manchurian Candidate) و”القارئ” (The Reader). ولكن بالنسبة إلى كثير منَّا، الدور الذي تجلَّى فيه غانز، وظلَّ أعظم أدواره، هو دور صانِع إطارات الصُّور المريض في فيلم “الصديق الأمريكي” (The American Friend) لفيندرز.     

قدَّم المخرج الشهير هيتشكوك أفلامًا عن «رِجال عاديُّين في ظُروف استثنائيَّة». وعادة ما تدور أفلام النوار (film noirs) العظيمة حول الأشخاص المبتذلين السُّذج، مثل موظف التَّأمين فريد ماكموري في فيلم “تعويض مزدوج” (Double Indemnity)، الذي وقع في حبائِل شِباك الرذيلة والقتل، ولكن هل كان هُناك قاتل أكثر عادية، وغير لافِت للانتباه بشكل كبير، وأكثر شبهًا بِنَا، من شخصِية غانز (جوناثان زيمرمان)؟

“الصديق الأمريكي” مأخوذ عن رواية “ألعاب ريبلي” لِلكاتبة باتريشيا هايسميث، والآليَّة المتكاملة التي يتورَّط من خِلالها زيمرمان – رجل العائلة الذي يُصارع مرض سرطان الدّم – لقتل عُضوينِ من العصابات ربما يكون وقعُها عليك ضعيفًا بعض الشيء – في الحقيقة، تمَّ اِستخدام مَرضِه كوسيلة للابتزاز. ولكنك تتوقف عن التَّساؤل عما يحدُث في اللحظة التي يلتقط فيها هذا الشخص النكِرة البائس المسدسَ ويبدأ في تعقُّب عضو العصابة الأمريكي عبر الأروقة والسَّلالم المتحركة لمحطّة مترو باريس. إنه يُشبه كل فيلم إثارة رأيته من قبل، لكنَّه واقعي وحقيقيٌّ بشكل مُذهِل. وما يُلِم شتَات هذا الفيلم الاستثنائيَّ ذي التأثير المُنوم، والذي لا يبدو فيلمًا، هو تمثيل غانز: الخوف والارتياب في نظرات عُيونه الواسعة الدَّاكنة – لقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره فقط عند تصوير الفيلم – وانعدام الأمان واليأس الذي يُوجِّه كل حركة غير محترفة من تحرُّكاته.     

وبعدما يُنفِّذ عملية القتل متذمرًا ويُؤمر بِارتكاب واحِدة أُخرى، يحدُث أمر جدير بالملاحظة: الجرائم التي يرتكبها، رغم أنَّه لا يُصبح أكثر احترافيّة فيها، تبدأ في إشعال جذوة الرُّوح الميتة بداخله. هل تُفلح الأمور؟ ليس تمامًا.

في النِّهاية، يحملك الفيلم على أجنِحة أداء برونو غانز إلى مكان حزين، هادِئ ومُفعم بالحيويَّة. لقد كان مُمثلا نادرًا؛ حتى وإن كان مُقيدًا بالأرض، فإنه كان يجد السبيل ليحلِّق عاليًا.   


اقرأ أيضاً
مقالات

الرمز في مواجهة السلطة: هل تقوضت سلطة الرقيب؟ 

يكشف تاريخ التابو مسيرة صناعة الأفلام، المنتَجة محليًا أو المستوردة، من الأندرجراوند إلى سينمات العالم، ومن المنبوذ إلى الأكثر رواجًا على المستوى التجاري. ولكن ثمة تاريخ آخر من المواجهة بين

ترجمات

ميكاس يلتقي بازوليني: حوار حول موجة الأندرجراوند

في نهاية الخمسينيّات من القرن العشرين ظهرت في أمريكا مجموعة من صنّاع الأفلام التجريبيّة بالضدّ من السينما الهوليووديّة وأفلام الاستوديوهات الكبيرة، سمّيت تلك الموجة من الأفلام بسينما الأندرجراوند وكان من

Register

Register

Register

Register