من الشباب إلى المشيب.. سمفونية الحياة في فيلم «شباب» 
معتوق محمد الحرز
Maha Sultan

«ما الذي أخّرَكَ عن الموت؟ تأخرُه!» 

قاسم حداد

 تمر علينا تساؤلات من حين لآخر عن مسيرتنا في الحياة ومآلاتها، مَن نحن وكيف أصبحنا وهل نحقق ما نصبو إليه؟ ونذهب بعيدًا في التساؤلات عن هذا الشباب، هل هو شباب الروح أم الجسد؟ صحتك أم شغفك؟ وما إلى ذلك من تساؤلات العصر. مثل المجتمع، تتناول أغلب أفلام الشيخوخة فكرة الوهن والمرض و النقص في المال والأصحاب وما إلى ذلك، ولكننا أمام عمل يتجاوز بعضًا من هذه الأفكار. وإن هذا ما يدفعني لأتحدث عن فيلم Youth – «شباب» (2015) من إخراج باولو سورينتينو

يدعونا «باولو سورينتينو» إلى مواجهة الأسئلة الوجودية التي تحدد شكل التجربة الإنسانية: من نحن في مواجهة ماضينا؟ كيف نبحر في مسيرة الزمن التي لا هوادة فيها؟ ما هو جوهر هويتنا؟ ما الذي يعطي أهمية للحياة أثناء مواجهة حتمية الشيخوخة والوفاة؟ من خلال سرد ​​آسر بصريًا ومكثف فلسفيًا، يتحدانا الفيلم للتفكير في هذه الأسئلة والبحث عن إجاباتنا الخاصة، مذكرًا إيانا بأن السعي وراء المعنى واكتشاف الذات هو رحلة تتجاوز حدود العمر والزمن. يشجعنا الفيلم أيضًا من خلال شخصياته المتنوعة وصوره الشعرية على التفكير في أهمية الذاكرة، ودور الفن في حياتنا، وصراعنا الجماعي مع مرور الزمن. لا يقدّم إجابات واضحة، إلا أنه بمثابة حافز لنا كأفراد للتأمل. 

في البدء، إن إعجابي بالفيلم يدعوني لأن أقول بأنه تحفة سينمائية ننظر من خلالها إلى رحلة الحياة، حيث يُصوِّر المخرج الموضوعات المتشابكة دائمًا ما بين الشيخوخة والشباب ويترك أثرًا خفيًا في قلب المُشاهد وروحه بكوميديا سوداء ودراما آسرة. يُصوَر الفيلم في موقع على مقربة من جبال الألب السويسرية، هناك، بعيدًا عن الصخب، ينقلنا إلى عالم هادئ، ومن شدة الهدوء يتملّكنا إحساسٌ أن الوقت نفسه قد توقف. في وسط هذه الحكاية الساحرة يوجد صديقان، امتدت صداقتهما مدى الحياة، «فريد بالينجر» (مايكل كين) و«ميك بويل» (هارفي كيتل)، جاءا إلى منتجع صحي فاخر في إجازة للتأمل في حياتهما وشغفهما ومرور الوقت الذي لا يرحم. يتألق «مايكل كين» بشخصية «فريد»، الملحن المتقاعد، ممثلًا أداءه بالحكمة والندم والشوق للموسيقى التي حددت وجوده ذات يوم كمايسترو فقط. وفي الطرف الآخر، يجسد «هارفي كيتل» شخصية مخرج الأفلام «ميك» وهو يتصارع مع روحه الإبداعية ومساعيه السينمائية غير المكتملة وبحثه عن نهاية عظيمة لمسيرته الفنية.

استجابات متناقضة للشيخوخة. في هذا الفيلم «فريد» راضٍ بالتخلي عن ماضيه، برفضه عرض الملكة أداء مقطوعته الشهيرة، الذي يدل على أنه يرغب في الهروب من ثقل تاريخه والعيش في هدوء الحاضر. يجسد هذا الموقف عن حضور فلسفة الحاضر أو الحاضر الأبدي إن صح التعبير، حيث يسعى الأفراد إلى فصل أنفسهم عن الأعباء والقلق الزائد الذي يتجسد في صورة ماضيهم ومستقبلهم، مع التركيز فقط على اللحظة الحالية، محاولين الوصول إلى السعادة أو الرضا. ولكن في المقابل، فإن «ميك» مصمم على إنشاء تحفة سينمائية أخيرة، فهو يتمسك بهويته الفنية، حتى في سن الشيخوخة، وسعيُه لتحقيق هذا المسعى النهائي يعكس رغبة الإنسان في ترك إرث دائم. يثير هذا التناقض بين «فريد» و «ميك» تساؤلات حول أهمية الماضي في تشكيل هوياتنا الحالية. هل نحن ملزمون بماضينا، أم يمكننا أن نختار إعادة تعريف أنفسنا في الوقت الحاضر؟ تتصارع مرة أخرى الشخصيات مع حقائق أجسادهم المتقدمة في السن، فيتم تذكيرنا بأن الشباب ليس مجرد حالة جسدية بل عقلية، وهنا تبرز أهمية الذاكرة  والتركيز على دورها في تشكيل هوية الفرد، فيتركنا الفيلم بتساؤل عما إذا كان من الممكن الحفاظ على هوية المرء مع تلاشي الذكريات وتدهور الجسد. 

بلطف، يتطرق الفيلم لفكرة أن الشباب والشيخوخة ليسا قوّتين متعارضتين ولكنهما مرحلتان مرتبطتان نوعًا ما، إذ يستعرض الفيلم أهمية أن نحتضن الحكمة والخبرة التي تأتي مع تقدم العمر من جهة، وأن نعتز بروح الشباب وشغفهم اللامحدود. في المنتجع، نلتقي بـ«جيمي تري» (بول دانو) وهو يقول بأنه هنا في إجازة من أجل التحضير لشخصية فيلم جديد يعمل عليه. نراه في الفيلم مراقبًا للشخصيات ومهتمًا بالتفاصيل، ينتهي به الأمر وهو يقول: «أنتم جميعًا، فتحتم عيني، وجعلتموني أرى أنه لا ينبغي لي أن أضيع وقتي في الخوف الذي لا معنى له». في الصورة الأعم، يشير هذا الاقتباس إلى أن تفاعلاتنا وعلاقاتنا يمكن أن تُشكّل نظرتنا للحياة وتُوجهَ خياراتنا فيها، وهذا ما حدث في الفيلم عبر التفاعل ما بين الجيلين. في مشهدٍ آخر نرى تفاعل «ميك» مع أحد أفراد طاقم عمله التي قررت استخدام التليسكوب، فيبدأ «ميك» في شرح بعضٍ من صور منظورنا للحياة من خلال هذا التليسكوب، إذ إن الجبال البعيدة تصبح قريبة ولكنه شبّه ذلك بالمستقبل، وعندما عكس التليسكوب موجهًا إياه نحو بقية الطاقم، وصفهم بالماضي لأنهم بعيدون مثله، وكأنه به يقول لها بأن تنطلق وألّا تفكرَ وتكونَ حبيسةَ الماضي البعيد.

إن الفيلم يضعنا في بعض المَشاهد أمام تساؤلات عن العائلة وعلاقة الأجيال ببعضها. أهي حِمل يُثقل الكاهل؟ أَهَمّ تلك المشاهد حوار ابنة المايسترو «لينا بالينجر» (راشيل وايز) وهي تحاكمه على الماضي، إذ لم يكن حاضرًا لهم؛ كان غائبًا ووهب حياته للموسيقى، وكان برأيها سيئًا مع والدتها. تسأله وهو في هذا العمر: «ألا تشعر بالذنب تجاه الطريقة التي تعاملت بها مع والدتي؟»، فيجيب بأنه «يشعر بالذنب تجاه كل شيء». هُنا ملمحٌ على مشكلاتٍ عائلية تم التطرق إليها في الفيلم، يُظهِر اعتراف «فريد» بالذنب ووصوله لوعي ذاتي واستعداده للاعتراف بأوجه قصوره، ولكنه متأخر.

يطلب الفيلم منا أن نجد الجمال في اللحظات البسيطة، وأن نُقدّر الحياة كالموسيقى التي تحيط بنا، وأن نتذوق عظمتها. إذًا فهي رحلة روحية تتركنا بإحساس عميق بالرهبة أحيانًا والامتنان في أحيانٍ أخرى. إنه يذكرنا بأننا جميعًا، مثل الشخصيات في الفيلم، لدينا سيمفونياتنا الخاصة لنؤلفها ولدينا قصصنا لنرويها، فحياتنا هذه ساحةُ حربنا الأولى، نخوضها ابتداءً من الماضي وبحثًا عن المستقبل وحريتنا في تكوينه.


اقرأ أيضاً
انطباعات

إريك رومير: سلسلة «الفصول الأربعة»

تتقلَّب أمزجة الناس بتبدل فصول السنة الأربعة. حبل خفي يشدُّ أقدامهم بقوة ناحية الأرض، والتي بدورها تحملهم معها في تلك الرحلة السنوية حول الشمس. طقوس تتبدل وشخوص تظهر وأخرى تنزوي.

Register

Register

Register

Register