مقالات

يوكيو ميشيما: ما يجعل من الموت موتًا

"يوكيو ميشيما" (1925-1970م) يُعّرف في المقام الأول روائيًا.  كتب خمسًا وثلاثين رواية، وخمسًا وعشرين مسرحية، ومئتي قصة قصيرة، وثمانية مجلدات من المقالات. وبالإضافة إلى منجزه الأدبيّ والمسرحيّ، أخرج وشارك في عدد قليل من الأفلام القصيرة، كما مثّل في مسرحيات، وفقًا لكاتب سيرته الذاتية الصحفي "هنري ستوكس".

من أجل فهم هذه السيرة اللامعة والمضطربة، سنتناول حياته وتمثلاتها في أعماله، فحياة المؤلفين -إذا ما استُعملت بحصافة- تفيدنا بالشيء العظيم حول أعمالهم وحول الطريقة التي يحسن قراءتها بها، حتى نقترب أكثر ما يمكن من الجانب الذي تركوه من أنفسهم فيها.

الفن والواقع.. علاقة الظل والضوء

وُلد ميشيما في مدينة طوكيو، ونشأ طفلاً صغيرًا تحت رعاية جدّته، التي تولت الوصاية عليه بحكم الأمر الواقع، مفرطةً في الحماية والاستبداد، ونادرًا ما كانت تسمح له بالخروج. ينحدر ميشيما من طبقة أرستقراطية نافذة في طوكيو. أثناء الحرب العالمية الثانية، التحق بالخدمة العسكرية ولكنه فشل في التأهل جسديًا. درس القانون في جامعة طوكيو وعمل في وزارة المالية، وبعد الحرب هجر وظيفته من أجل الكتابة. روايته الأولى "اعترافات قناع" هي جزء من سيرته الذاتية التي تصف بذكاء أسلوبي استثنائي مثليَّ الجنس الذي يخفي تفضيلاته الجنسية عن المجتمع من حوله. نالت روايته استحسان كثيرين، وعلى الفور بدأ يكرس طاقاته الكاملة للكتابة. مع وصول أخبار الحرب إلى طوكيو، يفكر "كوتشان" -بطل الاعترافات- في مصير اليابان، حيث تركز اعترافاته على الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية ومهّدت لها، ثم فترة الحرب، وتبعات الانهيار وما تلاه.

تركز معظم الدراسات التي تتناول حياة ميشيما وأعماله على رباعيته الخالدة، وذلك بسبب الخصوصية الذاتية التي تمتاز بها؛ فرباعية "بحر الخصوبة" هي ملحمة نَذَر ميشيما نفسه للموت بعد إنجازها. رواياته الأربع المنفصلة -"ثلج الربيع"، "الجياد الهاربة"، "معبد الفجر"، و"سقوط الملاك"- تدور أحداثها في اليابان وتغطي الفترة من نحو عام 1912 حتى الستينيات. كل رواية من الأربع تصور تناسخًا مختلفًا لنفس الكائن: أرستقراطي شاب في العام 1912، متعصب سياسي في الثلاثينيات، أميرة تايلندية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وشاب يتيم شرير في الستينيات. تعكس شخصيات ميشيما -المهووسة بتدمير الذات- هوسه المتزايد بالدم والموت والانتحار، بالتركيز على الجماليات الذكورية الخاطفة والشكل النقي والشرف الراسخ، ورفضه لعقم الحياة الحديثة. عادةً ما تكون روايات ميشيما يابانية في تقديرها الحسي والخيالي للتفاصيل الطبيعية، لكن حبكاتها القوية والمتقنة، وتحليلها النفسي الاستقصائي، وروح الدعابة اليابانية، ساعدت في جعلها مقروءة على نطاق واسع في بلدان أخرى.

الافتتان الميشيمي بالموت

بعد موت الممثل "جيمس دين"، علّق ميشيما في أحد مقالاته: «الجميل يجب أن يموت صغيرًا، وعلى الآخرين أن يعيشوا أطول فترة ممكنة…[ولكن] لسوء الحظ، 95% من الأشخاص الرائعين يبقون حتى الثمانينات من عمرهم، فيما يموت الحمقى البشعون في سن الواحدة والعشرين». 

في فيلم المخرج بول شرايدر "ميشيما: حياة في أربعة فصول" الذي يستوحي سيرة حياة الكاتب وأعماله الروائية، يردّد ميشيما في الفصل الثالث:  «كان متوسط عمر الرجال في العصر البرونزي ثمانية عشر عامًا، وفي العصر الروماني اثنين وعشرين عامًا. الجنة لابد أنها جميلة حينها، والآن يبدو أنها مروعة. عندما يصل الرجل إلى سن الأربعين، لا توجد هناك فرصة للموت بمظهر جميل. مهما حاول، سوف يموت متعفناً». يظهر هنا استعداد ميشيما للرحيل وافتتانه الجمالي المبكر بالموت الذي يراه شرطًا أساسيًا لتخليد الجمال، وهي سمة ميّزت أبطال رواياته كما يوضح بشكل جلي في مقالته الشهيرة "صن أند ستيل". يسير هذا الافتتان الجمالي بالموت بموازاة افتتانه القومي بصورة اليابان المحاربة التي عجز أن يستعيد قيمها في أرواح جيل مهزوم في نظره.

ما يجعل من الموت موتًا

تبدو أعمال ميشيما السينمائية والروائية ساحة صراع مفتوحة ودائمة بين كثير من المتناقضات: الضعف مقابل القوة، الذكورة مقابل الأنوثة، الجسد مقابل الفكر، الشهوة مقابل الجمال، الأناقة مقابل الوحشية، الجمال مقابل القبح، النقاء مقابل التلوث، والشرق مقابل الغرب.

من تمجيد الجسد الذكوري إلى تشييد جسده الخاص إلى بذل جسده للموت، يتأرجح ميشيما حول الجسد باعتباره المرحلة المأساوية لكل ما نسميه اجتماعيًا أو سياسيًا في أعماله الناجحة والمليئة بالاستعارات العدمية والجمال والموت. منذ الستينيات تقريبًا، يمكن القول إن المرحلة السياسية في حياته قد بدأت، فبعد أن صوّر نفسه على أنه جمال خالص، ورومانسي منحط، بدأ كمال الأجسام، وأنشأ مجموعةً من طلاب الجامعات من الجناح اليميني الذين قادهم من خلال تدريبات روتينية. كان الغرض المعلن لـ"جمعية الدرع" هو مساعدة الجيش في حالة قيام ثورة يسارية.

في نوفمبر 1970، سلّم ميشيما الدفعة الأخيرة من رباعية "بحر الخصوبة" إلى محرره، وتوجه هو وأربعة من أتباع جمعية الدرع للسيطرة على مكتب القائد العام في مقر عسكري وسط مدينة طوكيو. وقف على الشرفة، كما لو كان على خشبة المسرح، وألقى خطابًا مدّته عشر دقائق أمام ألف جندي متجمع. أخذ يشجب ضد الدولة والدستور المدعومين من الولايات المتحدة، ويحثهم على الإطاحة بدستور ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي كان يحظر الحرب وإعادة تسليح اليابان، كما أخذ يوبّخ الجنود على استسلامهم ويطالبهم بإعادة الإمبراطور إلى موقعه قبل الحرب كإله حي وزعيم وطني. الجمهور في البداية ظل هادئًا، أو مذهولًا في صمت، ولكن سرعان ما أغرقه بالسخرية. عاد ميشيما إلى الداخل، وقال: «لا أعتقد أنهم سمعوني». كانت تلك المرحلة في حياته عبورًا من الكلمات إلى الدم، وانسجام "السيف والقلم".

الوطنية: طقوس الحب والموت

ميشيما، الذي شبَّه نفْسَه بـ«ملاكٍ ساقِطٍ فَقَدَ مكانَه في العالَم» واجْترَح في مَجموعتِه القَصَصِيّة "الموت في الصَّيْف" طقوس الحب والموت، كان قد حدس بغرابة في موته هذا في فيلم "الوطنية: طُقوس الحُبّ والمَوت"، ففي فيلمه، الذي أخرَجَه بنفسه، وأدّى فيه -مع ممثّلة يابانية جميلة، مُقتبِسًا الفيلم عن إحدى قصصه الخاصة- دَوْرَ عاشق قرر الانتحار هو وحبيبته بعْدَما هالَهُما الانْحِدار الرّمزيّ لِبَلَدهِما. يعالج ميشيما في الفيلم حادثة تاريخية وقعت في الثلاثينيات، حيث يطلب الإمبراطور من ضابط الحرس أن ينفّذ الإعدام في زملائه الذين قاموا بمحاولة انقلاب فاشلة، فيواجه صراعاً حادًا، تفرضه تقاليد الساموراي، بين ولائه للإمبراطور وولائه لرفاقه في السلاح. ولكي يحافظ على شرفه وسمعته، يلجأ إلى الوسيلة الوحيدة الممكنة بالنسبة إليه: الهاراكيري (السيبوكو). هذا الانتحار الوحشي، المرسوم بدقة، هو أحد أكثر النماذج رعبًا في السينما. تتضاعف وحشيّته أكثر عندما نستوعب ما حدث لميشيما الذي مثّل الدور بنفسه، احتجاجًا على إفساد المُثُل الوطنية، وبعد سنوات قليلة ارتكب "سيبوكو" بنفس الطريقة التي ستغير تجربة مشاهدة هذا الفيلم.

تنتهي رحلة ميشيما من الكلمات إلى الدم، ففي فيلمه يوقف الحوار ويلجأ إلى الملاءمة المثالية بين الفعل الحميمي والواجب الوطني. يُظهِر كلُّ مشهد طبقةً مختلفةً من الفكر والعاطفة، كما تأخذ موسيقى فاغنر طابعًا سياسيًا. ولا يُفوّت ميشيما إعادة التوكيد على افتتانه بجماليات الموت بالعرض المتقشّف لمختلف الفصول، ولكنه في مشهد الموت يصوّر مشهد سيبوكو ويخرجه بشكل ملفت ومثير للإعجاب.

بعد قراءة مسيرته اللامعة والمضطرِبة، يمكن القول إن فكرة أنه حدسَ بموته غيرُ دقيقة، فقد خطط له، وآمن به، ونذر نفسه له، كما كانت جميع العناصر موجودة منذ البداية في سينماهُ وأدبه: شيء جميل، شيء يستحق التدمير. ومع ذلك، نفذ موته باعتباره آخر عرض فني يقدمه ميشيما في الحياة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. محمد الكرامي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا