حظي أوزو بمسيرة مهنية امتدت لسبعة وعشرين عاما، بدأت بفيلمه الصامت (سيف الصبر - Sword of Penitence) عام ١٩٢٧، واستمرت حتى موته في ١٢ ديسمبر ١٩٦٣. وحاز مكانة مرموقة في بلاده، وازداد اسمه انتشارا في جميع أنحاء العالم بمرور الأيام، وخصوصا بعد وفاته وذلك بفضل المعجبين والنقاد من أمثال بول شريدر وديفيد بوردويل. واليوم تصنف أعماله تصنيفا عاليا، وعلى وجه الخصوص "قصة طوكيو" الذي يعتبره الكثيرون الفيلم الأفضل على الإطلاق.
إلى أولئك الذين لم يتذوقوا أفلامه، نخبركم أن أوزو صنع الفيلم ذاته مرارا وتكرارا: أفلامه هادئة، مفهومة، أعمال درامية تبدو وكأنها تنويعات على موضوع واحد، واضعا عليها جميعا توقعيه الخاص شبه الصارم، مستخدما أسلوب المراقبة بلقطة التاتامي الشهيرة (لقطة الوسادة) التي تنظر إلى الممثلين من الأرض. قد يتفق عشاقه مع هذا التقييم، لكنهم سيشيرون حتما إلى ما في أفلامه من إنسانيةٍ واختلافاتٍ دفينة تجعلها أبديةَ التأثير والقبول والتقدير.
لقد اخترنا لكم خمسة أفلام مفصلية في حياة المخرج، بالرغم من إمكانية إضافة المزيد، ألقوا نظرة على هذه الأفلام وأخبرونا أي أفلام أوزو أقرب إلى قلوبكم؟
وُلدت ولكن.. I Was Born, But - 1932
تعرضت أغلب أفلام أوزو الأوائل، والكوميدية منها خصوصا، للتلف عبر الزمان، ويعد فيلمه (دراسة رومانسية: أيام الشباب - Student Romance: Days Of Youth,1929) أقدم ناجٍ من بينها، في حين لم يعثر على عدد من أفلامه المنتجة ما قبل عام 1936 إلى يومنا هذا. على كلٍ، نستطيع الزعم أن أول فيلم قدَم أوزو باعتباره موهبة كبرى هو (وُلدت ولكن..)، إذ يعتبر نقطة تحول مهمة في مسيرته، ومنذ صدوره يُعد واحدا من أفضل أفلام المخرج. الفيلم من أواخر أفلام أوزو الصامتة، وهو من بطولة هايدو سوغاوارا وتوميو أوكي في دور كل من ريكوشي وكيجي يوشي، اللذين تنتقل عائلتهما إلى ضاحية من ضواحي طوكيو بسبب وظيفة الأب الجديدة والذي يلعب دوره تاتسو سايتو. لم يكن هذا الانتقال سهلا، حيث هدد الولدين خطر التعرض للتنمر في المدرسة، ولكن المأساة الأكبر كانت لحظة اكتشافهما أن والديهما يتعرض لمشاكل مشابهة، وأنه ليس بالرجل القوي والصارم الذي كانا يظنانه.
أعاد المخرج ببعض التغيير إنتاج هذا الفيلم في أواخر سنواته في (صباح الخير - Good Morning, 1959)، لكن ما يميز فيلمه الأول وما يسمو به عن الأخير هو النبرة الفكاهية العفوية التي سادت معظم أوقات الفيلم، وكأن الفيلم سلسلة (Our Gang) الشهيرة وهي مرصوفة في فيلم واحد -رغم أن تأطير أوزو محكم ومنضبط في هذا الفيلم مثلما كان دائما- كما أن تناغم أوكي وسوغاوارا أضفى على الفيلم سحرا خالصا وأصيلا. يحمل (ولدت ولكن..) في طياته هجاء ساخرا للمجتمع، محملا بصدمات عاطفية وغير متوقعة. لقد قدر المخرج باستخدامه قصة في غاية البساطة أن يناقش حقائق كبرى عن ثقافة ذلك الوقت. ولا نعتقد أن أوزو توقع أن تكون نهايةُ الفيلم (حيث يقسم الولدان على الانضمام للجيش ليصبحا جنرالان) بليغةً كما يُشعر بها الآن.
أواخر الربيع Late Spring - 1948
في فترة ما بعد الحرب، عاد أوزو إلى صناعة الأفلام وذلك بتقديمه لفيلمين يُعرفان بطرق عديدة بأنهما غير مألوفين في مسيرته، فقد قدم على التوالي في عام 1947 فيلمه (سجلات شقة رجل محترم - Record of a Tenement Gentleman) وفي 1948 فيلم (دجاجة في مهب الريح - A Hen in the Wind) عن الأطفال المشردين بسبب غارات العدو وحول الجنود العائدين من الحرب ولم شملهم بعائلاتهم. ولا يزال تجاهل هذين الفيلمين مستمرا تقريبا (وتحديدا الأخير) ولكن ربما يكون الأمر مفهوما بالنظر إلى أنهما سرعان ما عقبهما فيلم "أواخر الربيع" وهو الفيلم الذي حدد النغمة الأخيرة لمسيرة المخرج، والذي يعد وبلا منازع أحد روائعه (فقد أحتل المركز الخامس عشر في قائمة سايت & ساوند لأعظم مئة فيلم على الإطلاق)، كما أنه أول أجزاء ثلاثيته (ثلاثية تتضمن فيلميه "أوائل الصيف" و"قصة طوكيو") حيث تلعب الممثلة سيتسكو هارا دور امرأة تدعى نوريكو. إنها قصة امرأة عزباء تبلغ من العمر سبع وعشرون عاما ولا تزال تعيش مع والدها الأرمل (تشيشو ريو) الذي يتعاون مع بقية الأسرة ليعثر لها على عريس. قد يبدو في البداية وكأنها قصة بكوميديا أوستنية عن الأخلاق، وربما يكون مجرد فيلم أخرجه أوزو في وقت مبكر من حياته المهنية. لكن هنا وعلى الرغم من ذلك إنها دراما نقية ولطيفة، حيث تروي كيف للمجتمع أن يقف في طريق سعادة أب وابنته، وأن النضوج والاستقلال ليسا انتصارين بقدر ما أنهما ثمن مرير ندفعه للوقت والتغيّر.
يتكشف الفيلم وبروية، ويفقد الكثير من حس دعابته عن فيلمه السابقة، ورأى أوزو أن يحتضن تصنيف الـ"شومين جيكي" وهو تصنيف اختِرع ليصف أفلام الدراما الواقعية الاجتماعية حول حياة أناس عاديين، التصنيف الذي برع فيه أوزو ولم يتركه منذ ذلك الحين أبدا، لذا فهذا هو الفيلم الذي حدد النغمة التي ستستمر عليها أفلام أوزو القادمة.
قصة طوكيو 1953 - Tokyo Story
إن سبق لك متابعة فيلم لأوزو، فهو في الغالب (قصة طوكيو - Tokyo Story)، فيلم المخرج الأكثر شهرة والذي ساعد في انتشار اسم المخرج في الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم -بالرغم من أنه هذا الفيلم لم يصل إلى أمريكا حتى مارس 1972-. لطالما يذكر هذا الفيلم عند ذكر أعظم الأفلام على الإطلاق، ولقد احتل بالفعل المرتبة الأولى في الاستفتاء الخاص بالمخرجين الذي أجرته مجلة سايت & ساوند عام 2012، كما احتل المرتبة الثالثة في استفتاء النقاد في العام ذاته، وهو بلا ريب المدخل المثالي للولوج إلى عالم أوزو؛ إذ يحوي الفيلم على ما ميّز أفلام المخرج، وخصوصا تلك العظيمة التي أنتجها في الثلث الأخير من حياته. في هذا الفيلم يعود أوزو للتعاون مع نجوم (أواخر الربيع) و(أوائل الصيف)، ويختتم به ثلاثية عرفت باسم (ثلاثية نوريكو). نشاهد هنا زوجين متقدمين في العمر (تشيسو رايو وتشيكو هيغاشياما) يسافران إلى طوكيو راحلين عن ابنتهما الصغرى (كيوكو كاغاوا)، لزيارة ولديهما الآخرين، ابنهما وابنتهما الأكبر (سو يامامورا وهاروكو سوغيمورا) متزوجين كليهما، ويعاملان والديهما على أنهما مصدرا للإزعاج. ولم يولا الوالدين أي اهتمام إلا من قبل نوريكو (هارا مرة أخرى) التي كانت زوجة لابنهما الراحل. ولن يكتشف الولدين قسوتهما تجاه أبويهما إلا بعد فوات الأوان. وهذا الفيلم الذي يدور حول التقدم في العمر، ومسؤولية الأبناء تجاه والديهم، والفجوة بين الأجيال، والخسارة التي تكون نتاج التغيير، ما هو إلا تنويع على ذات الثيمات التي كوّنت الثلاثية (ومعظم أفلام أوزو). في (قصة طوكيو) نرى حلم أوزو وغضبه، إذ تثير أنانية يامامورا وسوغيمورا حنق المشاهد، الأمر الذي لا نراه كثيرا في أفلام أوزو، رغم ما نرى في الفيلم من دفاع وتبرير، حيث تنبري نوريكو بكرم للدفاع عن تصرفات الولدين في اللقطة الأخيرة الشهيرة من الفيلم. إنه بحق عمل مثالي وكامل، ويستحق المكانة والسمعة التي بلغها من دون أدنى ريب.
أوائل الربيع 1956 - Early Spring
بعد فراغه من فيلم (Tokyo Story - قصة طوكيو) أخذ أوزو إجازة طويلة وغير معتادة وغاب عن الساحة السينمائية لثلاثة أعوام -في واقع الأمر أن المخرج غزير الإنتاج لم يغب تماماً، وإنما كان في مرحلة يساعد فيها الممثلة (كينويو تاناكا) في تجربتها الإخراجية الثانية- هذا قبل أن يعود بفيلم مثّل انفصالاً عن موضوعاتِ وشكل الأفلام التي عمل عليها في تلك الفترة، ألا وهو (أوائل الربيع - Early Spring 1956) وهو فيلم عادة لا يحصل على تصنيف عالٍ حين مقارنته بكامل الأفلام التي تشكل نتاج أوزو السينمائي، لكنه أحد الأفلام المفضلة لدينا، فهو يبتعد قليلاً عن ثيمة البحث في ديناميكيات الأزواج الأكبر سناً، وإنما يقترب أكثر من الزواجات اليافعة وحالات الخيانة فيها. بطل الفيلم الممثل (ريو إيكيبي) يظهر في شخصية موظف شركة بناء في طوكيو ويبدأ علاقة غرامية مع زميلته (كييكو كيشي)، هذا قبل أن تظهر زوجته (شيكاغي أواشيما) في المشهد، وهي يساورها الشك حول حدوث شيء ما. في الفيلم تخلّى أوزو عن موضوعاته وثيماته المعتادة حول الاختلافات بين الأجيال وتفاصيل العلاقات الأسريّة، وقد جاء هذا بناءً على طلب من الاستوديو، الذي شعر مسيروه بأنهم خرجوا عن الموضة وأرادوا منه اجتذاب ممثلين أصغر سناً، وعلى الرغم من هذا التدخل، يروي لنا أوزو قصة غير نمطية، بأسلوبه المعتاد، الرقيق والدقيق ، متخطياً ما قد يعتبره صانعو الأفلام الآخرين في غاية الأهمية مثل جعل المشاهد الرئيسية قطعية الدلالة، فهو يترك فراغات في نسيج القصة، ويسمح للجمهور بملئها -أو يترك لهم الاستمرار في التخمين فيما إذا كانت أحداث بعينها قد حدثت أم لا!-. وكما هي الحال دائماً، فإن الحياة تتفجّر خارج إطار الكاميرا: وكأنه يقول، هذه ليست قصة بقدر ما هي جزء من واقعنا المعاش. إن الفروقات الدقيقة التي يسلط عليها أوزو الضوء والعين الفاحصة التي يطلق لها العنان لمراقبة الطبيعة البشرية تخلص إلى أن لحظة الخيانة الزوجية ومن ثمّ عودة الزوجين لبعضهما ولمّ الشمل بينهما في نهاية المطاف ما هما إلا شعوران لهما أصالة إنسانية، وأن هاتين اللحظتين كلاهما تمثّل بعداً إنسانياً جميلاً لصورة الأزواج الشباب في الخمسينات، فيما يشعرك بأنك تشاهد مقدمة فيلم بيلي وايلدر (الشقة - The Apartment). وكما هي أفلامه في غالبها، سواءً أكانت تقليدية أم سابقة لعصرها بشكل مدهش، فهذا الفيلم واحد من أفضل الأفلام التي تمّ إنتاجها على الإطلاق حول موضوع الزواج والخيانة الزوجية.
أعشاب عائمة Floating Weeds - 1959
بما يتلاءم مع مخرج صاحب أعمال رثائية ويولي اهتمامًا كبيرًا بالطريقة التي قد يرى بها الكبار والصغار العالم من حولهم، يعود أوزو أكثر من مرة إلى عوالم قصصه ذاتها، فاستوحى من فيلم (أواخر الربيع - Late spring) فيلمي (أواخر الخريف - Late Autumn) و (Equinox Flower)، كما أعاد إنتاج فيلم (ولدت ولكن.. - ...I Was Born But) تحت مسمى (صباح الخير - Good Morning). ولكن أقرب إعادة من أفلامه الخاصة كانت فيلم (أعشاب عائمة - Floating Weeds) لفيلمه الصامت القديم (حكاية الأعشاب العائمة - A story of Floating Weeds) الذي أنتج عام 1934 وهو واحد من أشهر أفلامه، وكثيرًا ما تحدث أوزو بشأن إعادة إنتاجه مرة أخرى، ولم تسنح أمامه الفرصة إلا عندما أتيحت أمامه فترة وجيزة بين أفلامه التي يصورها استديوهات شوتشيكو ، فقدم في تلك الفترة الوجيزة فيلما لشركة دايي المنافسة مستعينًا بقصة متاحة لتوفير الوقت.
وعلى الرغم من تجديد القصة لكي تلائم الزمن المعاصر إلا أنها لم تزل هي نفسها إلى حد كبير، والحكاية تدور مع كوماجورو (غانجيرو ناكامورا) وهو ممثل متجول يعود إلى إحدى المدن الساحلية حيث أنجب هناك ولده (هيروشي كاواجوتشي) لكي تقوم عشيقته الحالية (ماتشيكو كيو) بمحاولة تدبير علاقة غرامية بين الصبي وممثلة أخرى (اياكو واكاو).
يمكن القول إن الحبكة بها زخم من معظم الأعمال الأخيرة المعتادة لأوزو (الفضل يرجع لاستخدام حبكة يرجع عمرها إلى خمسة وعشرين عامًا مضت) إلا إنه يبدو مختلفًا تمامًا عن سابقه، رغم مشاركة بعض التكوينات منه أحيانًا؛ لأنه فيلم من إخراج رجل على مشارف الستينات من عمره بدلًا من فيلم أخرجه شاب في الثلاثينات من العمر، رجل يدرك جديدًا الحد الأدنى الذي يحتاجه لسرد حكاية، والاستفادة من كل إطار ومقطع لفظي للقيام بذلك. ولم تقل عاطفة أوزو مع مرور الوقت، بل إننا نفهم موقف كل شخصية بشكل أوضح في المرة الثانية. لكن ربما شهد حسه البصري تحسنًا ملحوظا؛ فهذا الفيلم ثاني أفلامه بالألوان وهو متعة تسر الناظرين حقًا حتى وإن بقيت الكاميرا على الحياد. يقدم هذا الفيلم حجة دامغة بأن على كل مخرج كبير أن يعود لزيارة إحدى روائعه القديمة من الزمن الغابر.
يمكن أن نحكي طوال اليوم عن أفضل أعمال أوزو، ونأمل أن نعود إليها بأثر رجعي أكثر شمولًا في المستقبل. ولكن في حال إذا رغبتم في أفلام أخرى عن الخمسة المذكورة آنفًا نوصي لكم بشدة ثلاثة من أفلامه الأولى تتشارك في ثيمة أو موضوع الجريمة وهي: (امشِ بمرح - Walk Cheerfully) و (زوجة تلك الليلة- That Night’s Wife) و (فتاة شبكة الصيد - Dragnet Girl). والفيلم اللطيف (متعة عابرة - Passing Fancy)، والفيلم الموجع للقلب (الابن الوحيد - The Only Son) وهو أول أفلامه بعد دخول الصوت، ودراما الفتنة الزوجية الرائعة (مذاق الشاي الأخضر على الأرز - The Flavor Of Green Tea Over Rice)، والأفلام سابقة الذكر (أوائل الصيف - Early Summer)، (أواخر الخريف - Late Autumn)، و(زهرة الاعتدال- Equinox Flower). بالإضافة إلى أفلامه الرثائية الأخيرة (شفق طوكيو - Tokyo Twilight) و (نهاية صيف - The End Of Summer)، و(بعد ظهر الخريف - An Autumn Afternoon)، وهذا غيض من فيض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش