هناك مدنٌ كالكائنات الحيَّة تتنفَّس مع ساكنيها، تتألَّم معهم وتشهدُ على أحلامِهم وخيباتهم. القاهرة، في فيلم «آخر أيام المدينة» (2016)، ليست مجرَّد خلفيَّةٍ للأحداث، بل هي الروح الطاغية التي تتقدَّم على كل الشخصيات، تحاصرُ البطل كما تحاصر أهلها، تفتحُ لهم الأبواب لتبتلعهم، وتمنحهم الضوءَ لتغرقَهم في الظلال.
تدور الكاميرا في عيون خالد (خالد عبد الله)، المخرج الشاب الذي يحاول صُنعَ فيلمٍ عن مدينته، لكنَّه يجد نفسه غارقًا في حيرةٍ أعمق: كيف يمكن للإبداع التقاط روحِ مدينةٍ تتغيَّر بسرعةٍ تفوق القدرة على الفهم؟ يسير في أروقة القاهرة، يتلمَّس نبضها، غير أنَّ كلَّ صورةٍ يصوِّرها تحملُ داخله جرحًا خفيًّا، وكلَّ شارعٍ يعبره يذكِّره أنَّه عالقٌ في مكانٍ لا ينتمي إليه بالكامل، لكنَّه لا يستطيع الهروب منه أيضًا.
إنَّها القاهرة في لحظةِ تحوُّل، عشيَّة ثورةٍ قادمة، حيث الحنينُ للماضي يتصارعُ مع الخوف من المستقبل. الناس يتحدَّثون عن أحلامٍ ضائعة، عن مدنٍ تركوها أو أوطانٍ لم تعد تَحتَملُ وجودهم. بين اللقاءات مع أصدقائه من بيروت وبغداد وبرلين، يدرِك خالد أنَّ هذا الشعورَ بالغربةِ وباءٌ يطارد جيلًا بأكمله، جيلٌ عالقٌ بين فقدان الجذور والتيه في مدنٍ ترفضُ احتضانه.
القاهرةُ في «آخر أيام المدينة» مزيجٌ من الوجوه المتعَبة، والشوارع المزدحِمة، والمباني التي تراقب البشر وكأنَّها شاهدةٌ على نبوءةٍ لا يريد أحدٌ سماعَها. إنَّها مدينةٌ تتداعى ببطء، تمامًا كما يتداعى أبطالُ الفيلم بين حنينهم للماضي وخوفهم ممَّا هو آتٍ.
ولكن ماذا لو لم تكن المدينة هي التي تتداعى بل نحن؟ ماذا لو كانت الجدران التي تضيق علينا ليست سوى انعكاسٍ للخوف المتنامي داخلنا؟ في «آخر أيام المدينة»، تبدو القاهرة وكأنَّها كائنٌ عملاقٌ يمتصُّ أرواحَ ساكنيه، يبتلع أحلامهم، ويردِّد صدى خطواتهم في الأزقَّة المزدحمة بلا وعدٍ بالخلاص.
خالد يبحثُ عن معنى. في كلِّ مشهد، في كلِّ حوارٍ مع أصدقائه الذين رحلوا إلى مدنٍ أخرى، يبدو وكأنَّه يحاول أن يلتقطَ شيئًا ينفلتُ من بين يديه، كأنَّه يركض خلفَ ظلٍّ لحياةٍ لم يعد متأكِّدًا من وجودها. يحاولُ أن يوثِّق اللحظة قبل تلاشيها، لكنَّه يدرك أنَّ الكاميرا، مهما كانت صادقة، ليس بمقدورها الإمساكُ بالزمن، ولا تستطيع أن تحتفظ بالقاهرة التي يعرفها، لأنَّها تتغير، تذوب كما يذوب كلُّ شيءٍ في قبضة الوقت.
في الخلفية، هناك غضبٌ صامت، إحساسٌ بأنَّ الانفجار قريب، بأنَّ المدينة التي تحمل في شوارعها كلَّ هذا الإرث، لا يمكنُها أن تبقى كما هي إلى الأبد. أصدقاء خالد، في بيروت وبغداد وبرلين، يتحدَّثون عن المدن التي لفظتهم، عن الثورات التي خذلتهم، عن الحروب التي سرقت طفولتهم، وكأنَّ الغربة قدرٌ مشترك، والرحيلَ نهايةٌ مكتوبةٌ لكلِّ من يحلمُ بأكثر ممَّا تسمحُ به الأرض التي يقف عليها.
في النهاية يقف خالد وحيدًا، محاطًا بصور مدينته، بأصواتٍ لا يسمعها سواه، بذاكرةٍ تتآكلُ كما تتآكلُ جدران القاهرةِ القديمة. إنَّه لا يغادرها، لكنَّه لم يعد ينتمي إليها أيضًا. ربَّما هذا هو الشعور الأكثر قسوة: أن تكون غريبًا في المكان الذي كان يومًا بيتك، أن ترى مدينتك تموتُ أمامكَ وأنت عاجزٌ عن إنقاذها، أن تعيش في «آخر أيام المدينة»، دون أن تعرف متى ينتهي الفيلم، أو متى يبدأ الواقع من جديد.
ولكن، هل للغربةِ نهايةٌ حقًّا؟ هل تُطوى الحكايةُ عند إسدال الستار على المشهد الأخير، أم تظلُّ تتردَّد في أعماقنا كصدى مدينةٍ بعيدة، مدينةٌ لم يعد باستطاعتنا احتضانها، ولا حتى تذكُّر ملمس شوارعها بغير ألمٍ خفي؟