أسامة الخريجي: نجاح الفيلم السعودي هو نجاح للجميع

أ. مها سلطان
و
April 26, 2025

عامًا بعد عام، يمضي المشهد السينمائي السعودي بخطى ثابتة في طريقٍ حافلٍ بالتحدِّيات، لكنَّه رغم ذلك ينفتحُ على فرصٍ وإمكانيَّاتٍ متزايدةٍ ونيَّةٍ حقيقيَّةٍ يتقاسمها صُنَّاع القرار وصُنَّاع السينما على حدٍّ سواء في الانتقال بالسينما السعوديَّة إلى مستوى جماليٍّ وفنيٍّ يجمعُ بين الأصالة والإبداع وبين التناول العميق للقضايا المجتمعيَّة، ويحصد اعترافًا واحتفاءًا دوليَّين في كلِّ منصَّةٍ وفي كلِّ محفلٍ دولي. 

في دورته الحادية عشرة، يعودُ «مهرجان أفلام السعوديَّة» ليقطف ثمار ما بُذِرَ في الدورات السابقة، فيحتفي بصنَّاع السينما السعوديين، نجوم هذا المهرجان الأكثر سطوعًا، وبأعمالهم المشرقة التي تتهافت عليها جماهير المهرجان من السعوديِّين المحبين للسينما. فيأتي المهرجان ليحقِّقَ في كلِّ مرَّةٍ أهدافًا مشرقةً ويسطِّر أخرى ترتقي إلى مستوى الطموح الكبير الذي تبنَّاه مؤسسه أحمد الملَّا. 

هذه الدورة عكست زخمًا إنتاجيًّا كبيرًا وكانت استثنائيَّةً في طرحها واختياراتها، انطلاقًا من محورها الأبرز "سينما الهويَّة" وصولًا إلى أصغر تفاصيلها التي عكست رغبةً كبيرةً في دعم السينمائيِّين وتمهيد الطريق للمبدعين بكلِّ الصور الممكنة، وذلك من خلال سوق الإنتاج والفرص الكبيرة التي يتيحها، والتي تتجدَّد وتكبر في كلِّ مرة. 

افتُتِح مهرجان أفلام السعوديَّة بفيلم «سوار» للمخرج أسامة الخريجي، وهو أوَّل فيلمٍ روائيٍّ طويلٍ من إخراجه، في اختيارٍ يتجاوزُ الاحتفاء بالبعد الجمالي إلى مسعى يطمح إلى سبر جوهر الهويَّة، طارحًا أسئلةً عميقةً حول ماهيَّتها، ومحتفيًا بها كثيمةٍ محوريَّةٍ في السينما، فالفيلمُ يطرح تساؤلاتٍ وجوديَّةً مهمَّةً حول ما الذي يحدِّد انتماءنا وهويَّتنا، ما بين التنشئة ورابطة الدم. كان هذا العرض بمثابةِ تتويجٍ لمسيرة هذا الفنَّان المولعِ برواية القصص عبر السينما، والذي يعود الفضل إليه في التأسيس لمفاهيم وآليَّات الإنتاج السينمائيِّ في المملكة بعد أن كان الإنتاج معتمدًا على نماذجَ عربيَّةٍ لا تتوافق مع طبيعة العمل الإنتاجيِّ السينمائيِّ في المملكة.

من فيلمه الوثائقي «الحقيقة» الذي نال النخلة الفضيَّة في الدورة الأولى لمهرجان أفلام السعودية، وصولًا إلى فيلمه الروائي الطويل الأول «سوار» الذي افتتح الدورة الحادية عشرة للمهرجان، تمتدُّ رحلةٌ إبداعيَّةٌ غنية تنقَّل فيها بين الإنتاج والإخراج، وبين التلفزيون والسينما، ومن المحلي وصولًا إلى العالمي.

في هذا السياق، يحلُّ أسامة الخريجي ضيفًا على ميم في حوارٍ شيِّقٍ يستعرضُ فيه مسيرته الفنيَّة التي بدأها كصانعِ أفلامٍ وثائقية، ثمَّ كمنتجٍ لمسلسلات وأعمال تلفزيونيَّة متنوِّعة، وأخيرًا كمخرجٍ ومنتجٍ لأفلام روائيَّةٍ طويلةٍ جاءت تتويجًا لمسيرةٍ حافلةٍ خطَّ تفاصيلها بحبٍّ وشغفٍ كبيرين لرواية القصَّة وللسينما والشاشة الكبيرة. 


1. بدأت تجربتك السينمائيَّة بفيلم «الحقيقة» الوثائقي والذي حاز على جائزة النخلة الفضيَّة في النسخة الأولى من مهرجان أفلام السعوديَّة، واليوم تعود بفيلمٍ روائيٍّ طويلٍ يفتتح المهرجان في نسخته الحادية عشرة. كيفَ تطوَّرت علاقتك بالسينما بين هاتين المحطَّتين؟ وما الذي تغيَّر فيك كمخرج؟

لا شكَّ أنَّها رحلةٌ طويلةٌ بدأت منذ أوَّل فيلمٍ أنتجتُه وأخرجته عام 2007، وكان فيلمًا وثائقيًا. واليوم في عام 2025، تتَّسع حصيلة أعمالي لتضمَّ 8 مسلسلاتٍ عملت عليها كمنتج، وكنت في أحدها مخرجًا، إضافة إلى عملي كمنتجٍ إبداعيٍّ في العديد منها. وفي هذه الدورة من مهرجان أفلام السعوديَّة عُرِض لي فيلمان: أحدهما من إخراجي وإنتاجي وهو «سوار»، وآخر من إنتاجٍ مشتركٍ رفقة الصديق والشريك أسامة الحربي وهو فيلم «فخر السويدي». إلى جانبِ العديد من البرامج التي أنتجتها على مدار سنواتٍ لـ mbc وغيرها من القنوات، والتي بلغت قرابة الـ 21 برنامجًا تنوَّعت بين البرامج الترفيهية وبرامج العروض الواقعيَّة (تلفزيون الواقع - reality show). 

هذه الأعمال كلُّها شكَّلت، ولله الحمد، حصيلةً جيِّدةً وخبرةً إنتاجيَّةً وفنيَّةً متراكمة. ومع ذلك أشعرُ بسعادةٍ خاصَّةٍ جدًّا لأنَّني عدتُ إلى المنطقة التي أحبها وأجد ذاتي وراحتي فيها، ألا وهي إخراج القصص وروايتها عبر السينما. فمنذ البداية اعتبرت نفسي قاصًّا مولعًا بالحكايات، أحب أن أرويها وأن أخط تفاصيلها. وفيلم «سوار»، الذي افتُتِح به المهرجان، يمثِّل عودتي إلى هذا الشغف وهذه التجربة التي سعدت جدًّا بها وبجميع تفاصيلها، كما سعدت بالأصداء التي حظي بها هذا الفيلم في المهرجانات وما زال الطريق طويلًا، نتطلع فيه إلى تتويجٍ يكون من خلال عروض شبَّاك التذاكر وعروض المنصَّات السينمائيَّة.

2. اختيار فيلمك "سوار" لافتتاح مهرجان أفلام السعودية في دورته الحادية عشرة منحه مكانةً خاصة في لحظةٍ مهمَّةٍ تمرُّ بها السينما السعودية. كيف تقرأ هذا الحضور في سياق تطوُّر المشهد السينمائي؟ وما هي الآمال والطموحات التي علقتها على الفيلم حينما بدأت العمل عليه؟

جاء اختيار فيلم «سوار» كفيلم افتتاحٍ للمهرجان لسببين رئيسيين تمَّ اطلاعي عليهما: الأول لقيمة العمل الفنيَّة، والثاني لانسجامِ الفيلم مع ثيمة المهرجان لهذه السنة وهي "سينما الهويَّة". وأعتبِر هذا الاختيار تكريمًا للفيلم وتكريمًا لي أيضًا. وقد جاءت دورةُ مهرجان أفلام السعوديَّة هذه السنة مختلفةً عن سابقاتها، فلأوَّل مرَّةٍ يُفتتح المهرجانُ بفيلمٍ روائيٍّ طويلٍ على عكس ما هو مُعتاد، وأنا سعيدٌ أنَّ علاقتي مع المهرجان كانت، منذ بداياته، علاقةً تأسيسيَّةً حيث أنَّني بدأت في السنة نفسها التي تأسَّس فيها المهرجان وانطلقَت أولى دوراته، وهذا ما خلق ارتباطًا خاصًّا بيني وبين المهرجان. لهذا أنا سعيدٌ بهذا التواجد وبهذا التكريم، وبحضور فيلمي كفيلمِ افتتاحٍ للمهرجان وبحضوري بصفتي مخرجًا له.

وكما ذكرت سابقا، فإن «سوار» ينطوي على طموحاتٍ كبيرة، فالعملُ يحكي قصَّةً واقعيَّة، وقد تمَّ العمل عليه بأسلوبٍ فنيٍّ خاصٍّ مبنيٍّ على طريقتي الخاصة في معالجة الأفلام. لهذا كنتُ متخوِّفًا قبل العرض من ردود الناس تجاه طريقة المعالجة التي كانت مختلفةً عن السرد التقليديِّ والكلاسيكي وغيرَ مُتوقَّعة، إذ فضَّلت رواية القصَّة برؤيتي الخاصة. ولذلك فقد سعدتُ بهذا التفاعلِ الإيجابيِّ الذي أبداه الجمهور تجاه الفيلم، وهو جمهور المنطقة الجنوبيَّة بشكلٍ عام، وجمهور منطقة نجران بشكلٍ خاص، إلى جانب المُركَّب الثقافي القبلي الذي تلقَّى الفيلم بإيجابيَّة، إذ عزَّز الفيلم من هذا الشعور بالانتماء لديهم من خلال تركيزه على الأصالة وإظهار الثقافة النجرانيَّة بشكلٍ جميلٍ ومنسجم مع الفيلم ومع ثيمته المتمثلة في "الهوية"، حيث تجلَّى السؤال الأبرز الذي طرحه الفيلم: هل هويَّة الإنسان تنبع من الطريقة التي تربَّى ونشأ عليها، أم من خلال الوراثة وقرابة الدم والجينات؟

3. في أعمالك، من «الحقيقة» إلى «أوريم» و«سوار»، نجدُ اشتغالًا واضحًا على البنية الدراميَّة وعلى الهويَّة السرديَّة المحليَّة. كيف تُوازن بين خصوصيَّة الحكايَّة السعوديَّة وبين طموح الوصول إلى جمهورٍ عالمي؟

اعتدت دائمًا أن أقول: "من أراد بلوغ العالميَّة عليه أن ينطلقَ من إخراج أفلامٍ محليَّةٍ متشبِّعةٍ بثقافةِ البلد الأصيلة". فالعالم لا ينتظر منكَ أن تقصَّ قصصه هو، بل قصصك أنت، وهو بهذا يريد أن يرى من خلالك عالمًا جديدًا وثقافةً جديدةً، وقصَّةً غير مألوفةٍ وطريقة سردٍ مختلفةً عما هو مُعتاد عليه. وهذا ما أحرص عليه في بناء أعمالي، أي تبنِّي أسلوبٍ خاصٍّ في سرد قصة الفيلم الروائي. ونظرًا لطبيعة عملي كمنتجٍ فإنَّني أميلُ إلى الأعمال التجاريَّة أو الجماهيريَّة كما أحبُّ تسميتها، ففي أعمالي التي ذكرتموها أميلُ إلى تبنِّي روايةٍ للقصَّة بأسلوبٍ يعكسُ رؤيتنا الخاصَّة ويعزِّزُ سمات الثقافة المحليَّة، فلا نكتفي - عند حكاية القصَّة - بتوظيف اللغة التي يفهمها الجمهور، وإنما نتبنَّى حتى نبرة الصوت والتفاصيل الصغيرة التي تجعل الجمهور المحلي يشعر أنَّ راوي القصة وصانع الفيلم هو من بيئته نفسها، يفهمُ خصوصيَّتها وعارفٌ بتفاصيلها. وهذا ما أركِّزُ عليه في جميع أفلامي، سواء كانت جماهيريَّةً أو مستقلَّةً على غرار فيلم «سوار»، والذي رغم كونه مستقلًا فهذا لا يعني بالضرورة أنَّه غير جماهيري. لعلنا نأخذُ هنا، على سبيل مثال، فيلم «هوبال» الذي كان فيلمًا مستقلًّا ولكنَّه نجح جماهيريًّا وحصد تفاعلًا كبيرًا. و «سوار» ينتمي إلى هذه المنطقة التي يصبح فيها الفيلم جماهيريًّا رغم أنَّه أُخرِجَ في الأساس كفيلمٍ مستقل.  

4. درست السينما أكاديميًا في الولايات المتحدة، ثم عدت حينها إلى مشهد سينمائي سعودي لا يزال يتشكل ويتأرجح بين الطموح والدعم ولا يزال في البدايات. ما تفاصيل التحديات التي تواجهها صناعة السينما المحلية لتبلغ مستوى متطورا اليوم، يواكب المعايير العالمية؟ وكيف يمكن تجاوز هذه التحديات؟

صحيح، مارستُ الإنتاجَ والإخراج ابتداءً من عام 2007، قبلها كنت أعملُ في مجال الإعلام والصحافة كمهندس صوت، وكنت محبًّا للسينما ومطَّلعًّا جيدًّا عليها، إلى أن قررت في 2006 بداية مشوارٍ مع الفنِّ السابع، فأنتجتُ عام 2007 أول فيلمٍ لي وهو «الحقيقة»، والذي تلته مجموعةٌ من الأفلام الوثائقيَّة التي أنتجتها بالتعاون مع قناة الجزيرة الوثائقيَّة، ولكن نظرًا لعدم وجود سوقٍ للسينما في السعوديَّة آنذاك، وكذلك عدم وجودِ طريقةٍ لتعلُّم الصنعة محليًّا، ارتأيتُ استغلال فرصة الابتعاث لتعلُّم السينما. وقد كانت تجربة ثريَّةً تعلمت فيها الكثير كمخرجٍ وكمنتج، وإن كان اهتمامي الأكبر قد انصبَّ على الإنتاج، إذ كنتُ أرى فجوةً كبيرةً على مستوى الإنتاج اضطرَّتني أثناء عملي كمخرجٍ إلى إدارة العمليَّة الإنتاجيَّة لوحدي بحكمِ عدم وجود منتجين حينها، فحرصتُ أكثر على تعلُّم الإنتاج. وأزعمُ أنَّني ساهمتُ في تأسيس المدرسة الإنتاجيَّة الحديثة في السعودية، فالأرضيَّة التي وجدتُها كانت تعمُّها فوضى المصطلحات الإنتاجيَّة، نظرًا لوجود مدارس عديدة، إذ كانت أغلب الأعمال السعوديَّة إلى غاية عام 2019 تنتَجُ خارج المملكة، وكانت تسيطرُ عليها المدرسة العربيَّة بشكلٍ عام والسوريَّة بشكل خاص، وكانت مدرسةً مختلفةً تمامًا تنتهجُ أسلوبًا مغايرًا في طريقة بناء الفريق والهيكلة وتشغيل العمليَّة الإنتاجيَّة بالكامل، وتعتمدُ على ضخِّ موردٍ بشريٍّ كبيرٍ نظرًا لعوامل خاصَّة بهذه البلدان العربيَّة، والتي لم تكن مناسبةً في السعوديَّة، بعكس المدرسة الأمريكيَّة التي كانت هي الأقرب من حيث فاعليَّتها، وإن كان مع بعض التعديل على مستوى طريقة إدارة العمليَّات على أرض الواقع. وأنا أزعمُ أنَّني ساهمتُ في تأسيس أسلوب الإنتاج المعمول به حاليًّا وفي إرساء مفاهيمه، وهذا يعود للخبرة الممتازة التي راكمتُها أثناء تواجدي في أمريكا، بالتحديد في لوس أنجلوس وهوليوود، ما بين 2013 و2016.

5. بين العمل على المسلسلات مثل «أوريم» والمشاريع الروائيَّة الطويلة مثل «سوار»، ما الفروقات الإبداعيَّة التي اختبرتها؟ وأيّ المنصتين، ما بين السينما والتلفزيون، منحتك حريَّةً أكبر في التعبير عن رؤيتك الفنيَّة؟

أشعرُ بإنتمائي للسينما أكثر من التلفزيون، وذلك بصفتي شخصًا مهتمًّا أكثر بالتكثيف والشدة، سواء في بناء المشهديَّة أو في إيصال المشاعر للمشاهد، أو حتَّى على مستوى التفاصيل الصغيرة التي تجعلُ المشاهد يشعر بالإنتماء أو التوافق والتقارب العاطفي، الأمرُ الذي يكون غائبًا ومفتَقَدًا في التلفزيون، لأنَّ الإيقاع فيه يكون مختلفًا، نظرًا لطول الأعمال التلفزيونيَّة، ولأنَّها مبنيَّةٌ على سرد أحداثٍ كثيرةٍ وعلى وتيرة إنتاجٍ سريعة، ممَّا يؤدي إلى ضياع الكثير من فرص التكثيف التي ترتكز عليها جماليَّات السينما، والتي نراها غائبةً في الكثير من المسلسلات حتى على المستوى العالمي، حيث يطغى العنصر السردي. ولذلك أحبُّ السينما وأنتمي إليها على نحوٍ أكبر وأفضِّلها في رواية القصة.
6. كيف ترى الدور المتنامي لمهرجان أفلام السعوديَّة في تشكيل هويَّة سينما وطنيَّة؟ هل تعتقد أنَّ المهرجان يمثِّل حاضنةً حقيقيَّةً للمخرجين؟ ومن خلال تجربتك وقراءتِك للمشهد، ما القيمة المضافة التي يمنحها المهرجان للصناعة في هذه المرحلة؟
تطرَّقت في البداية إلى الحديث عن العلاقة الشخصيَّة التي تربطني بالمهرجان، والشعور بالانتماء الذي يتقاسمه كلُّ المخرجين السعوديين دون استثناء في اعتقادي، لأنَّ المهرجان دائمًا ما ينجح في بثِّ شعورٍ غامرٍ من الحميميَّة، وكأنَّنا في غمار رحلةٍ نخوضها جميعنا لنلتقي ونجتمع في مجالس قد تمتد إلى ساعاتٍ متأخِّرةٍ من الليل، في أجواءٍ من الدعم والتعزيز المتبادل، وتفقُّد الأحوال، وتقاسُمِ المشاعر الإيجابيَّة، حيث الأجيال السينمائيَّة الصاعدة، ضمن هذه الموجة الحديثة، يتبادلون الإعجاب ويُبدون التقدير تجاه أعمال بعضهم بعضًا. ورغم وجود روح التنافس بين المبدعين وصنَّاع السينما، إلا أنَّها لا تؤثر على هذا الإحساس المتبادل بكوننا كتلةً وبنيةً واحدة، وأنَّ نجاح الفيلم السعوديِّ هو نجاحٌ للجميع، وهذا المفهوم، وهذه العلاقة الداعمة، ساهم في ترسيخها مهرجان أفلام السعوديَّة بين صناع الأفلام.
7. يشهدُ النقد السينمائي السعودي اليوم مرحلة نموٍّ واسعة. من وجهة نظرك كمخرجٍ ومنتجٍ سينمائي، ما مدى تأثيره الحقيقي في صناعة القرار الفنيِّ وتوجيه الذائقة؟ وهل ترى أنَّ النقد يواكب الحركة السينمائيَّة محليًا، أم أنه لا يزال في موقع المراقبة لا التوجيه؟ وكيف تتخيَّل دور الناقد اليوم: شريكٌ في تطوير التجربة أم مرآةٌ لاحقةٌ لها؟
منذُ ما يزيد عن عشر سنواتٍ تحدَّثتُ عن أهميَّة النقد، وما زلت أتحدَّث عنه حتَّى الآن من خلال منصات التواصل الاجتماعيِّ مثل منصة اكس، ومؤخَّرًا حظي فيلم «سوار» بتفاعلٍ نقديٍّ تجلىَّ في مقالين كتبهما كلٌّ من عمر آل عبد الهادي وفهد الأسطاء، واللَذين أدعو لقراءتهما لما فيهما من طرحٍ يثري ويعزِّز النقاش حول الفيلم. فالنقدُ ليس ترفًا، بل ركيزةٌ أساسيَّةٌ وجزءٌ من تشكيلِ ثقافةٍ سينمائيَّةٍ متَّزنة. في نهاية الأمر نحن نقومُ بصناعةِ فن، وهذا الفنُّ ليس عمليَّةً هندسيَّةً مركَّبةً مبنيَّةً على قاعدةٍ ثابثة، إنَّما هو تعبيرٌ عن الذات وعملٌ يُنظر إليه من زوايا تتعدَّدُ بتعدُّدِ القراءات. ومن جماليَّات الفنِّ أنَّه لا يُبنى على رأيٍ وأسلوبٍ واحدٍ ومعادلةٍ واضحةٍ ثابتةٍ إذا طبَّقتها وصلت إلى نتيجةٍ معيَّنة. لذلك فإن المشروع النقديَّ في المملكة مهمٌّ جدًّا، وذلك لسعيه إلى تقريب الجمهور من الأدوات النقديَّة والتحليليَّة التي يستطيعون من خلالها رؤية الفيلم في جوانبه المتعدِّدة. وعلى هذا النحو تساهم هذه الحركة النقديَّة في الدفع بالصناعة السينمائيَّة لتصبح أكثر نضجًا وأكثر إتقانًا، لأنَّه في غياب امتلاك الجمهور، من النقاد، لأدوات النقد الصحيحة، تكثرُ الأعمال الهزيلة التي لا ترتكز على محتوى عميقٍ مرتكنٍ إلى مقوِّمات الثقافة، وإنَّما إلى تهافتٍ على النجومية والشعبية.

تكمنُ أهميَّة النقد في كونه يرفعُ درجة الوعي والإدراك في المجتمع. وفي رأيي، فإنَّ المشروع النقدي في المملكة ما يزالُ هزيلًا وضعيفًا، يحتاج إلى مزيدٍ من التطوُّر والبناء ليتحقَّق على نحوٍ أفضل. وفي هذا السياق، تسعى وزارة الثقافةِ وهيئة الأفلام بشكلٍ جيِّدٍ وفعَّال إلى ردمِ هذه الهوة بين صناعةِ الأفلام وبين وجودِ أصواتٍ نقديَّةٍ موازيةٍ تمتلكُ الأدواتِ اللازمة والفعالة لتشكِّل هذا الوعي النقدي الذي يرتقي بالصناعة السينمائيَّة. ومع ذلك ما يزالُ أمامنا طريقٌ طويل، فرغم وجود الكثير من تجليات وصور الاجتهاد على مستوى المنصَّات النقديَّة المحليَّة، أو على مستوى النقَّاد، إلا أن هذا المشروع ما يزال مفتقدًا إلى الزخم الذي يواكب هذا الحراك السينمائي. رغم ذلك لا ننكرُ تميُّزَ الكثير من النقاد السعوديِّين، حيث نرى رجا المطيري بوصفه أوضح وأبرز حالةٍ نقديَّةٍ على الساحة الآن، إلى جانب عودة فهد الأسطاء. ولا ننسى علي سعيد، الذي رغم كونه واحدًا من النقاد المهمِّين، إلا أنَّه انشغل عن النقد بالإنتاج. ومن خلال منصة ميم، أوجه له النداء للعودة إلى الساحة النقديَّة. وفي الختام، فإن المشروعَ النقديَّ ما يزال بحاجةٍ إلى تكاثف الجهود، فهو لا يواكِب بالقدر الكافي زخمَ هذا التطوُّر السينمائيِّ الذي هو بصدد الحدوث.
8. حين تُعرض أفلامك أمام جمهورٍ عالميٍّ فإنها تصبح نافذةً يطل منها الخارج على الداخل السعودي، وتمنحه نظرةً على مجتمعٍ يخطو خطواتٍ كبيرةً نحو المستقبل. كيف ترى طبيعة الأسئلة التي يطرحها هذا "الخارج" حين يواجه عملًا سعوديًا؟ وهل تعتقدُ أنَّ السينما قادرةٌ على إعادةِ تشكيل تصوُّرات العالم عن السعودية؟ وما الأثر الثقافي الذي تأمل أن تتركه أفلامك في سياق هذا التبادل الثقافي؟
أنا كفنَّانٍ أرى أنَّ دوري هو التركيز على رواية قصَتي وفق رؤيتي الجماليَّة، ولا أرى أنَّ الفنان أو الأديب أو القاص مطالبٌ بالتركيز على تقديمِ صورةٍ إيجابيَّةٍ عن البيئة المحليَّة، فهذه ليست مهمَّتنا كفنانين، إنَّما هي مهمَّة متخصِّصين من قطاعاتٍ أخرى. على الفنان، بلا شك، أن يتبنى ويمتلك وعيًا جيِّدًا بالقصص التي يرويها، بحيثُ تكون مناسبةً للمجتمع ولخلفيَّته الثقافيَّة، لكنه في الوقت نفسه ليس عليه إشغال نفسه بفكرة تقديم صورةٍ إيجابيَّة. فالتركيزُ على هذا سيضرُّ بالفنِّ السعودي وبعملية تشكيله، بحيثُ يصبح فاقدًا لقيمته الجوهريَّة على المستوى العالمي. عوضًا عن ذلك فإنَّ مهمَّته تكمنُ في الانشغال بأدواته الأساسيَّة وبالقصة وكيفيَّة روايتها. فالمجتمع السعودي غنيٌّ عن أيِّ مساعٍ للتلميع، ثريٌّ بثقافته وأصالته وهو في الأساس مجتمعٌ إيجابي، وتأتي تجارب الأصدقاء الذين يزورون المملكة من مختلف دول العالم لتؤكِّد على هذا، وذلك من خلال ما يظهرونه من إعجابٍ وانبهارٍ برقيِّ الأخلاق وبالكرم والإيجابية التي ينضحُ بها المجتمع، ومع انفتاح الدولة وحضورها في المحافل الدوليَّة في مختلف المجالات، تُرسَم وتتجلى هذه الصورة اللامعة للمملكة. ونحن هنا كفنَّانين ترتكز طريقتنا في رسمِ هذه الصورة المشرقة من خلال أعمالنا الفنيَّة والانشغال بصقلِ أدواتنا والتمكُّن منها، لنقدِّمَ أفضل صورةٍ إبداعيَّة ممكنة، الأمر الذي سيعكسُ صورةً فنيَّةً متألِّقةً عن المملكة العربيَّة السعوديَّة وعن الفنان السعودي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى