قد يظنُّ البعض أنَّ تاريخ السينما في المملكة العربيَّة السعوديَّة حديثٌ نسبيًّا، وهذا معتقدٌ خاطئ، فبدايات ظهور هذا الفنِّ في المملكة يعودُ إلى ثلاثينيَّات القرن العشرين مع إدخال موظَّفين في شركة أرامكو دور العرض السينمائي في مجمَّعاتهم السكنيَّة في مدينة الظهران، وعرفت انتشارًا ملحوظًا في خمسينيَّات القرن نفسه مع ظهور "سينما الأحواش"، وكان أوَّل فيلم سعوديٍّ قد أنتِج عام 1951 بعنوان "الذباب" من إخراج الراحل ماهر الغانم. وفي الستينيات بدأ الانتاج السينمائي السعودي الحقيقي واستمرَّ على حاله في السبعينيَّات، قبل أن تتراجع صناعة السينما خلال الثمانينيَّات والتسعينيَّات دون أن تتوقَّف على الإطلاق. فيما كانت بداية الألفية الجديدة بمثابة عودة قويَّة للصناعة الفنيَّة السينمائيَّة توِّجت مجهوداتها بأن أصبحت المملكة قوَّةً لا يستهان بها في إنتاج الفنِّ السابع، وما "مهرجان الأفلام السعوديَّة" و"مهرجان البحر الأحمر" إلَّا خير دليلٍ على ذلك.
على هامش مهرجان أفلام السعوديَّة الذي أقيم بين 17 و23 أبريل، أجرينا هذا اللقاء مع المخرج السعودي حمزة جمجوم، وفيه سلَّطنا الضوء على تجربةٍ فريدةٍ لصانع أفلامٍ سعوديٍّ بدأ مشواره في عالم السينما من دوافع شخصيَّةٍ وحاجةٍ قويَّةٍ للتعبير عن نفسه. من خلال هذا الحوار، نناقش مراحل تطوُّر السينما السعودية وعلاقتها بالثقافة المحليَّة والعالمية، وأثر التجارب العائلية على رؤيته الفنيَّة. كما يتناول الحديث رؤيته حول كيفية دمج المعايير الفنيَّة العالميَّة مع الهويَّة الثقافيَّة السعوديَّة، والسبل التي من خلالها يمكن للجيل الجديد من صنَّاع الأفلام تحقيق الاستدامة في هذه الصناعة الحيويَّة.
1. مسيرتك كمخرج بدأت من الحاجة إلى "رواية القصة" لا من الحلم بها، فهل ترى أن السينما السعودية اليوم ما تزال في طور "الحاجة" للتعبير عن الذات، أم أنها بدأت تدخل مرحلة الرؤية الفنية الناضجة والواعية بذاتها؟
بطبيعة الحال، شهدت صناعة السينما في المملكة العربيَّة السعوديَّة تطورًا لافتًا؛ إذ انتقلت من كونها مبادراتٍ فرديَّةً وأحلامًا شخصيَّةً إلى قطاعٍ متكاملٍ يتمتَّع بتناسقٍ واضحٍ وبدعم كبير من كلٍّ من القطاعين الحكومي والخاص، بحيثُ بات لدينا الآن شركات إنتاج، وشركات لتأجير المعدَّات وتراخيص جاهزة، وهذا أمرٌ مذهل. وعند المقارنة مع العديد من الأسواق الناشئة حول العالم نجد أنَّنا – بفضل الله أولًا، ثمَّ بدعم الدولة – قد تجاوزنا معظم تلك الأسواق وأصبح لدينا سوقٌ متكاملٌ تتوافرُ فيه استوديوهات بمقاساتٍ مختلفة: من الاستوديوهات الكبرى التي تضمُّ مئات الموظفين إلى استوديوهاتٍ صغيرةٍ ناشئة، وكلُّها تعملُ بانسجام.
ومع كلِّ هذا التقدُّم، أرى أنَّ الحاجة إلى رواية القصَّة لا ينبغي أن تُنسى أو تُهمَّش، فليس كلُّ من يملك فكرةً يجب عليه تحويلها إلى فيلم. إنَّ أنجح القصص في نظري هي تلك التي تنبعُ من شغفٍ حقيقي، من حاجةٍ مُلحَّة لدى الكاتب أو المخرج للتعبير عنها، حاجةٌ تمنعه من النوم وتشغلُ كلَّ تفكيره وطاقته الذهنيَّة. هذه هي القصص التي تلامسُ القلوب، تصلُ إلى أعماقِ المتلقِّين وتحقِّقُ النجاح الحقيقي.
أجل، لقد بلغنا مستوى ممتاز من النضج التقنيِّ والفنيِّ في الصناعة، ولكن لا ينبغي للمخرج أو الكاتب أن يتخلَّى عن السبب الجوهري الذي يدفعه لسرد القصة. لا بدَّ أن يكون هناك دافعٌ عميقٌ وصادق، وإلا فإنَّ المشروع – في رأيي – لا يستحقُ أن يُقدَّم. وقد رأينا، في العديد من الأسواق الراسخة مثل هوليوود، كيف أنَّ الأفلام التي تُنتَج دون شغفٍ أو اهتمام حقيقيٍّ بالقصة تكون غالبًا بلا تأثير يُذكر، ولا تترك بصمةً حقيقيَّةً في وجدان المتلقِّي أو في المجتمع.
2. في أفلامك، لا سيما «تمزُّق» و «جفاف»، يظهرُ ميلٌ واضحٌ لتناول الهويَّات الثقافيَّة وحدودها من خلال الإثارة النفسيَّة والدراما الرمزيَّة. كيف ترى قدرة السينما السعوديَّة على إنتاجِ سرديَّاتٍ معقَّدةٍ ومركَّبةٍ تعبِّر عن المجتمع دون الوقوع في المباشرة؟
لا شك أن فيلمين مثل «تمزّق» (Rupture) و«جفاف» (Running Dry) يحملان الكثير من عناصر الإثارة، لكن ما أراه أكثر أهميَّة هو البعد الرمزي في الدراما. بالنسبة لي، إنَّ أعظم القصص التي رُويت في تاريخ البشريَّة – لا سيَّما حين نتمعَّن في تاريخنا نحن العرب – كانت دائمًا ذات طابعٍ رمزي. لقد نشأنا على هذا النمط من السرد، حتى في أحاديثنا اليومية، في اجتماعات العمل وفي تفاعلاتنا العائليَّة، نعتمد على الرموز والإشارات التي تحمل معاني أعمق. حتى نكاتنا ليست مجرَّد طُرف، بل رموزٌ تحمل وراءها رسائل كامنة.
لذلك أنا مؤمن جدًا بأنَّ السينما السعوديَّة ستميِّز نفسها عن غيرها من السينمات العالمية، لا من خلال تقنيَّات الإبهار أو التقليد، بل من خلال قدرتها على العودة إلى أصل الحكاية، إلى جوهرها الرمزيِّ العميق، الذي يمسُّ الإنسان أينما كان. نحن كعربٍ كنَّا يومًا يُشار إلينا بلقب "سادة الكلم"، فقد كنَّا جهابذة في اللغة، ولغتنا العربية امتدَّت وانتشرت إلى أقاصي الأرض. أعتقد أنَّ مفتاح تميُّزنا اليوم يكمنُ في التعمُّق في ماضينا، في قصصِنا التي تختزنُ الحكمة والجمال. يكفي أن ننظر إلى القرآن الكريم – وهو منبعٌ إلهي – لنجدَ أنَّه يُسرَد في أغلبه بأسلوبٍ قصصيٍّ رمزيٍّ يحملُ في طيَّاته معاني عظيمةً ودروسًا باهرة.
أنا مقتنعٌ بأنَّ أسلوبنا في صناعة المحتوى، وتمرير الرسائل الفكريَّة عبر الرموز، سيمنحُنا أفضليَّة واضحة، لأنَّ كلَّ هذا يسكن في وجداننا، يجري في دمنا منذُ آلاف السنين. أما الأسلوب المباشر فهو – في رأيي – أسلوبٌ سطحي، وقد بات شائعًا ومستهلكًا في صناعة الأفلام الغربيَّة، سواء في أمريكا أو بريطانيا أو غيرها: تشاهدُ الفيلم لساعتين، ثم يُنسى بمجرَّد انتهائه، وذلك لأنَّه يفتقر إلى العمق والرمزية. في حين أنَّ قصصَنا هي تلك التي تعود بنا آلاف السنين إلى الوراء، نقرؤها مرَّةً تلو الأخرى، نكتشفُ فيها معاني جديدةً في كلِّ قراءة. كلُّ رمزٍ فيها يحملُ طبقاتٍ من الدلالات، وكلُّ حكايةٍ تسكنها رسالةٌ خفيَّةٌ تنتظرُ أن تُكتَشف. هذا هو بالضبط ما أطمح إلى تحقيقه في أعمالي، سواء في «تمزّق» أو في «جفاف». أنا على يقين بأن هذا النهج – الدراما الرمزية – هو السبيل الأمثل لتصدير ثقافتنا السعوديَّة والعربيَّة إلى العالم. لقد فعلناها في الماضي، ونحن قادرون على فعلها مجددًا.
3. عملت في بيئات إنتاجٍ عالميَّة، كما تدير شركةً حصدت جائزة إيمي، فكيف توازنُ بين المعايير الدوليَّة من جهة، والرغبة في صناعة سينما سعوديَّة محليَّة في روحِها وشكلِها من جهةٍ أخرى؟
نحمد الله تعالى أن وفَّقنا في تأسيس شركاتٍ في السعودية وأمريكا، وأن نعمل على مشاريعَ في دولٍ عديدة، من بريطانيا إلى المكسيك، ومن ألمانيا إلى مختلف أنحاء العالم العربي، بالإضافة إلى المغرب وعدَّة دولٍ أوروبيَّة وأمريكيَّة أخرى. هذا التنوُّع في التجارب مكَّننا من الاطِّلاع على المعايير التقنيَّة العالميَّة في صناعة السينما، وفتح أمامنا أبوابَ التعلُّم من أفضلِ الخبراء في هذا المجال. ومن خلال تنقُّلنا بين هذه البلدان، تعرَّفنا على نخبةٍ من المتخصِّصين في المؤثِّرات البصريَّة، وعلى أفضل المصوِّرين والتقنيِّين في العالم. هدفُنا الأساسي هو مراكمةُ هذه الخبرات المتنوِّعة وإعادة توظيفها في خدمة السينما السعوديَّة. كما نطمحُ إلى إنتاج أفلامٍ سعوديَّةٍ تستوعب كلَّ ما تعلَّمناه من تجاربنا الدوليَّة، ولكن بروحٍ محليَّةٍ صادقة.
بالنسبة لي، ما هو "محلِّي" لا يتناقضُ أبدًا مع ما هو "عالمي"، بل أرى أنَّ الفيلمَ المحليَّ الحقيقيَّ هو ذاك القادرُ على مخاطبة العالم بلغته الخاصَّة. كما ذكرتُ سابقًا، نحن العرب نملِك إرثًا ثقافيًّا عميقًّا، وقد كنَّا منذُ آلافِ السنين مؤثِّرين في محيطنا من خلال التجارة والثقافة والعلاقات العابرة للحدود. واليوم نمتلكُ بنيةً تحتيَّةً حديثة، من مطاراتٍ وموانئ وأسواق، تجعل تأثيرنا العالميَّ أكثر حضورًا وواقعيَّة.
لذا فإنَّ صناعة السينما السعوديَّة تملكُ فرصةً فريدة: أن تقدِّم أفلامًا محليَّة تعبِّر عن ثقافتنا وتحمل في طيَّاتها خصوصيَّتنا، ولكنَّها في الوقت نفسه قادرةٌ على الوصول إلى الجمهور العالمي، لأنَّ هذا الجمهور بات متعطِّشًا لاكتشاف عوالمَ جديدةٍ لم يألفها. وقد رأينا هذا يحدثُ بالفعل حين وصلت أفلامٌ سعوديَّةٌ محليَّةٌ إلى مهرجاناتٍ سينمائيَّةٍ كبرى، وتُرجِمت ووزِّعت على مستوى عالمي ولاقت ترحيبًا كبيرًا. إنَّ القصص المحليَّة السعوديَّة تمتازُ بخصوصيَّةٍ ثقافيَّةٍ فريدةٍ لا يمكن العثور عليها في أيِّ مكانٍ آخر في العالم، سواء من حيث عاداتنا وتقاليدنا، أو من حيث أفكارنا ورموزنا الشعبيَّة التي تترك أثرًا بالغًا في المتلقِّي الأجنبي، لأنَّها ببساطةٍ جديدةٌ عليه وتحمل شيئًا من الدهشة والغموض.
لدينا في السعوديَّة قصصٌ مشوِّقةٌ مستوحاةٌ من تراثنا: من حكايات الجن إلى ملاحم البطولة في تاريخنا، وكلُّها تحملُ عناصر تشويقٍ قد تتفوَّق، في أحيانٍ كثيرة، على أفضل ما تُنتجه السينما الأمريكيَّة. لهذا أؤمن تمامًا أنَّ المحليَّة والعالميَّة ليستا خطَّين متعارضين، بل هما خطَّان متوازيان، يسيران معًا ويكمل أحدهما الآخر.
4. عُرف عمُّك فؤاد جمجوم بإنتاجه لأفلام مصريَّة شهيرة في السبعينيَّات والثمانينيَّات، وكان من أوائل السعوديِّين الذين دخلوا عالم السينما العربيَّة، كما يُعدُّ أحد مؤسسي «سينما الأحواش» في جدة التي تُعدُّ من أوَّل أشكال العروض السينمائيَّة في السعوديَّة. كيف أثَّرت هذه التجربة العائليَّة في تشكيل وعيك السينمائي؟ وهل تشعر أنَّك تواصلُ مشروعًا بدأه جيلٌ سابق؟
لا شكَّ أنَّ العم فؤاد جمجوم كان له تأثيرٌ بالغٌ في صناعة المحتوى والسينما في المملكة العربيَّة السعوديَّة. وكما هو موثَّقٌ تاريخيًا، فإنَّ صالة السينما التي أسسها تحت اسم «سينما الجمجوم» في حي البغدادية تُعدُّ من أوائل صالات العرض السينمائي في المملكة، وكانت واحدةً من صالات سينما الأحواش التي سرعان ما بدأت بالانتشار لاحقًا.
صحيح أنَّني لم أحظَ بفرصة حضورِ عروض تلك السينما بنفسي –لم أكن قد وُلدت بعد – لكنَّني نشأتُ في نفس الحي، بجوار الحوش الذي كانت تُقام فيه العروض، وبجوار مكتب العم فؤاد وشركة التوزيع التي أسَّسها. كنا كعائلةٍ نمر كثيرًا على هذا المكان، نتحدث عنه ونستمع إلى قصصه. كنت أراقب كيف كانوا يوزِّعون الأفلام إلى مختلف البلدان العربية، وكيف يختارون المحتوى بعنايةٍ ودراية. هذه التفاصيل تركت في نفسي أثرًا عميقًا وأنا طفل، وشكَّلت جزءًا كبيرًا من وعيي المبكِّر تجاه الفنِّ وصناعة القصص.
وبالإضافة إلى العم فؤاد، لا يمكنني إغفال دور عمي الدكتور شهاب جمجوم الذي كان له فضلٌ كبيرٌ علي، وقد شجَّعني منذ البداية على دراسة السينما ودخول هذا القطاع. كان يعمل في وكالة الإعلام، وكان له دورٌ في وزارة الإعلام آنذاك، وشارك في مشاريع فنية كبرى، منها علاقته بمشروع فيلم «مالكوم إكس» (Malcolm X - 1992) وتصوير مشاهد داخل الحرم، وهو أمرٌ حمل رمزيَّةً كبيرةً لي ولعائلتي.
رأينا من خلاله كيف يمكن للفنِّ أن يغدو أداة تغيير حقيقيَّة، وكيف استطاع تغيير الصورة النمطيَّة التي كانت تحيطُ بهذا القطاع، والذي كان يُنظر إليه سابقًا على أنَّه غريبٌ أو بعيدٌ عن قيمنا. لكنَّه أثبت أنَّ السينما يمكن أن تكون أداةً للخير، وسبيلًا لطرح قصصٍ ملهمةٍ ومؤثِّرة.
هذان الرجلان – العم فؤاد والدكتور شهاب – غيَّرا نظرتي بالكامل تجاه الفن، وزرعا في داخلي إيمانًا راسخًا بأنَّ للسينما رسالة، وأنَّ القصص الطيِّبة والمحتوى النظيف قادران على ملامسة القلوب، وإحداث أثرٍ عميقٍ في حياة الناس. ولهذا أشعر أن من واجبي مواصلة هذه المسيرة، وحمل الراية من بعدهم وإكمال ما بدأوه. فالسينما تسري في دمنا كعائلة جمجوم، وصناعةُ القصص المؤثِّرة التي تحترمُ القيم وتسهم في خدمة المجتمع كانت شغفًا عائليًا منذ اليوم الأول، وستبقى كذلك حتى آخر يوم.
5. وصفتَ السينما بكونها "صناعة" لا تقل أهمية عن كونها فنًّا، وتحدثت عن أهميَّة فهم الإنتاج، التمويل، والإدارة. برأيك، ما الذي ينقص الجيل الجديد من صناع الأفلام السعوديين في هذا الجانب؟ وهل ترى ضرورةً لتأسيس كليَّات أو برامج تعليميَّة متخصِّصة في إدارة الإنتاج السينمائي؟
السينما ليست مجرَّد فن، بل هي صناعةٌ متكاملة. اسمها العالمي Film Industry، والفيلم ليس سوى وجه من وجوهها الفنية، بينما تعبِّر كلمة Industry عن البُعد الصناعي والاقتصادي لهذا المجال. ومنذ أن تعرَّفت على هذا العالم، أدركته كصناعةٍ قبل أن أراه كفنٍّ فقط.
رأيت العم فؤاد جمجوم والدكتور شهاب جمجوم كيف أنشآ شركاتٍ تقوم على إنتاجِ وتوزيع الأفلام، لم تكن مجرَّد مشاريع شغوفة، بل مؤسسات قائمة على الرؤية والخطة، والربحيَّة والاستمرارية. ومن خلال تجربتهما، ودراستي لاحقًا في الولايات المتحدة، تعلَّمت درسًا جوهريًا: الفنُّ وحده لا يكفي. لا بدَّ من إدارةٍ واعية، تمويلٍ ذكي، وتوزيعٍ مدروس.
لم تُعلِّمني الجامعات هناك كيف أصنع فيلمًا جميلًا فحسب، بل كيف أُخرجه إلى العالم. كيف أختار توقيتَ عرضه: هل في رمضان أم في موسم الصيف؟ كيف أبحثُ عن المموِّلين؟ كيف تُوزَّع الأرباح؟ وما دورُ المهرجانات السينمائيَّة في بناء المسار المهني لصانعِ الفيلم؟ هذه التفاصيل لم تكن هامشيَّة، بل كانت في صلب العمليَّة التعليميَّة. ومن خلال خبرتي في تأسيس وإدارة شركات المحتوى، وصلت إلى قناعةٍ راسخة: لا يمكنُ لهذه الصناعة أن تستمرَّ ما لم تكن مربحةً من اليوم الأول. صحيحٌ أنَّه يمكن إنتاج فيلمٍ أو اثنين ويمكن الاستمرار عبر الدعم من مهرجانٍ أو جهةٍ مانحة، ولكن دون نموذجٍ ربحيٍّ واستدامةٍ مالية، ستنهارُ التجربة أو تتوقف، وربَّما يجدُ المخرجُ نفسه مضطرًا إلى تركِ المهنة.
ولهذا أوجِّه كلمتي بكلِّ وضوحٍ إلى الأجيال الجديدة من صنَّاع الأفلام السعوديِّين: اصقلوا موهبتكم بالخبرة العمليَّة. لا تكتفوا بما يُدرَّس في القاعات الجامعية. خصِّصوا سنتين على الأقل للتدرُّب في شركات إنتاجٍ حقيقيَّة، لتتعلموا من أهل الميدان بعيدًا عن النظريَّات. راقبوا كيف تُبرَم العقود، وتُوضع الأسعارُ وتُدار الحقوق، وكيف تُسيَّر المشاريع من الألف إلى الياء. نحن لا نحتاج جيلًا يحلمُ بصناعة الأفلام دون أدوات. نحتاج جيلًا يعرف كيف يكتب، يمثِّل ويصوِّر، لكنَّه يعرف أيضًا كيف يُدير، يُموِّل ويُفاوض، ويقودُ شركةً سينمائيَّةً نحو النجاح. ومن هنا أدعو الكليَّات والجامعات السعوديَّة التي تُدرِّس السينما إلى دمجِ مقرَّرات إدارة الأعمال في برامجها. ففي أمريكا، كثيرٌ من المسارات الأكاديميَّة تجمع بين الفن والإدارة، فيدرس الطالب التصوير والإخراج إلى جانب التسويق وإدارة المشروعات. هذه الخلطة هي ما يصنعُ صانع أفلامٍ حقيقي، فنيًا وعمليًا.
وأمر آخر لا يقل أهمية: لا بدَّ من تعليم طلابنا مهارات النقد البنَّاء. نحن بطبعنا شعبٌ طيِّب، نميل إلى المجاملة في التقييم، لكنَّ السينما، كأي صناعة، لا تنمو بالمجاملات، بل بالنقد، بالنصيحة وبالرأي الصريح الذي يُوجِّه صانع الفيلم إلى مكامن الضعف في عمله ويساعده على التطوير. النقدُ السينمائيُّ ليس ترفًا، بل جزءٌ أساسيٌّ من الصناعة، يُغني التجربة ولا يقلُّ أهميَّة عن الكتابة أو التصوير أو الإخراج. أنا سعيد أنَّ وزارة الثقافة وهيئة الأفلام في المملكة بدأتا توليان هذا الجانب اهتمامًا متزايدًا، إلى جانب عددٍ من المبادرات الخاصة التي تسعى لتطوير النقد السينمائي المحلي. هذه خطواتٌ صحِّيةٌ تدل على أنَّ وعينا الجماعي تجاه السينما لم يعد عابرًا، بل بدأ يتحوَّل إلى رؤيةٍ ناضجة، شاملة ومستقبليَّة.
6. باعتبارك أحد الفائزين بجوائز من مهرجان البحر الأحمر، كيف تقارن تجربتك هناك بمهرجان أفلام السعودية، خاصة في نسخته الـ11 التي حملت شعار "سينما الهوية"؟ ما الذي يميز مهرجان الظهران من حيث البيئة، الجمهور، أو طبيعة المشاريع؟
أنا فخورٌ وسعيدٌ للغاية لأنَّ لدينا اليوم في المملكة العربيَّة السعوديَّة مهرجانين سينمائيَّين كبيرين ومميَّزين، كلُّ واحدٍ منهما يؤدي دورًا مختلفًا ويحقق هدفًا فريدًا في مسيرة السينما السعوديَّة. نبدأ بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، الذي بدا لي وكأنه حلم! من كان يصدق أنَّه سيكون لدينا مهرجانٌ عالميٌّ يقام في جدة، وتحديدًا في حي البغدادية، الذي نشأت فيه وتربَّيت؟ هذا الأمر لا يزال يبدو لي غير قابلٍ للتصديق. أصبح هذا الحي، الذي يحمل الكثير من ذكرياتي، محطَّة مرورٍ لكبار المخرجين والممثِّلين والمنتجين والموزِّعين من مختلف أنحاء العالم، يأتون بعروض أفلامهم الجديدة، يتنافسون في مسابقات عالميَّة، ويتوَّجون بجوائز مرموقة، وكل ذلك في جدة! هذا المهرجان قد فتح أعين صناع الأفلام المحليِّين والجمهور السعودي على حركة السينما العالميَّة وطبيعة هذا القطاع المتغيِّر والديناميكي.
من جهة أخرى، نرى مهرجان الأفلام السعودية الذي يتميَّز بهدفٍ مختلف تمامًا: هنا نحن أمام مهرجانٍ يحتفي بالهويَّة السعوديَّة من الألف إلى الياء. منذ لحظة دخول الزائر وحتى خروجه، يشعرُ وكأنَّه داخل تجربةٍ وطنيَّةٍ خالصة. يركِز هذا المهرجان على الإنتاج السينمائي المحلي، ويبرِز جهود الشركات والمؤسَّسات السعودية مثل هيئة الأفلام، نيوم والعلا، وغيرها من المبادرات التي تدعم وتطوِّر السينما في المملكة. حتى في اختيار الأفلام، نجدُ حرصًا كبيرًا على عرض أعمالِ صنَّاع الأفلام السعوديين وتقديم ما وصلوا إليه من تطوُّر وإنجازات.
لا يقتصر الأمر على المحتوى، بل يمتد إلى التفاصيل البصريَّة والرمزيَّة: من نوعيَّة الملابس التقليديَّة التي يرتديها الحضور، إلى الفخر الجماعي بالهويَّة. ففي مهرجان البحر الأحمر، أرتدي ملابس يوميَّة عاديَّة، ولكن في مهرجان الأفلام السعودية أرتدي الثوب السعودي التقليدي، كما يفعل معظم الحضور، في مشهدٍ يعكس ارتباطنا العميق بهويَّتنا وثقافتنا. ومن أبرز ما يميِّز مهرجان الأفلام السعودية أيضًا هو بساطته وسهولة التواصل فيه، إذ يمكن لأيِّ زائرٍ لقاء أي مخرجٍ أو ممثِّلٍ سعوديٍّ بسهولة، مما ينعكس إيجابًا على روح المهرجان وتفاعله مع الحضور. ولا يمكننا الحديث عن هذا المهرجان دون الإشارة إلى مقرِّه، أي مركز "إثراء" الذي يتميز بتصميمه الرائع وتنظيمه الممتاز، فضلًا عن الراحة النفسيَّة التي يشعر بها الزائر بمجرَّد دخوله إليه.
بالنسبة لي، كلا المهرجانين رائعان، ولكلٍّ منهما مكانته الخاصَّة في قلبي ومسيرتي المهنيَّة. فقد فزتُ بجائزتين في مهرجان البحر الأحمر، وأتطلع بإذن الله للفوز قريبًا في مهرجان الأفلام السعوديَّة بصفتي صانع أفلامٍ سعودي حصل على جائزة أفضل فيلمٍ سعودي في مهرجان البحر الأحمر. في نهاية المطاف، أستطيع القول إنَّ مهرجان الأفلام السعودية يمثل منبرًا لسينما الهويَّة، يعبِّر عن عمق الشخصيَّة الثقافيَّة السعوديَّة ويمنحنا مساحةً للتعبير عنها بكلِّ فخر.
7. تحدثت بإعجاب عن أهميَّة النقد السينمائي في تطوير الصناعة، فكيف ترى دور الناقدِ المحليِّ اليوم؟ وما نوع النقد الذي تحتاجه السينما السعودية: تحليلي معرفي أم ذوقي توجيهي؟
لقد أجبتُ على هذا السؤال سابقًا، ولكن لا مانع من إعادة التأكيد على وجهة نظري نظرًا لأهميَّة الموضوع القصوى. أنا من أشدِّ المشجِّعين والداعمين للنقدِ السينمائي، وأراه عنصرًا أساسيًّا في تطوير صناعة السينما، خصوصًا في بيئةٍ ناشئةٍ مثل بيئتنا. بالنسبة لي، الناقد السينمائيُّ المثقَّف، المطَّلع على تاريخ السينما والمدرِك للذوق العام ولأبعادِ الصورة والمعنى الكامن خلف الصوت والمشهد، هو عنصرٌ لا غنى عنه في رحلة أيِّ صانعِ أفلامٍ يسعى لتحسين مستواه.
وجودُ ناقدٍ يملك هذا الوعي لا يقتصرُ على إبداء الرأي فقط، بل يفتح أعيننا على نقاطٍ قد لا نراها بأنفسِنا. فكيفَ يمكننا كصنَّاع أن نتطوَّر دون تغذيةٍ نقديَّةٍ واعية؟ من المستحيل انتظار عرض الفيلم وبعدها الاعتماد فقط على ردود فعل الجمهور العفوية، والتي، رغم أهميتها، تظلُّ مختلفةً في طبيعتها عن ملاحظات الناقد المتخصص. أؤمنُ بأنَّ وجود عددٍ من النقاد المتنوِّعين في رؤاهم وآرائهم أمرٌ ضروري. اختلاف وجهاتِ النظر أمرٌ صحِّي، بل مطلوب، شريطة أن يكون النقد مبنيًا على دراسةٍ ومعرفةٍ وصدق.
الناقد الصادق والمتمكن لا يحمي صانع الفيلم فحسب، بل يرشده ويساعده على رؤية نفسه من منظورٍ خارجيٍّ بطريقةٍ احترافيَّة. الجمهور، في نهاية المطاف، مستهلكٌ للمنتَج الفني، وقد لا يُخاطبُ صانع الفيلم بنفس اللغة أو الأدوات التي يستخدمها الناقد. لذلك أرى أن النقد المهني هو نافذتي، كصانع أفلام، إلى جمهوري الحقيقي وإلى الصناعةِ نفسها.
نحن اليوم بحاجةٍ حقيقيَّةٍ إلى نقاد سينمائيين أكثر. أتمنى لو كان لدينا، لقاء كل عشرين مخرج وصانع أفلام، ناقدٌ واحدٌ ممتاز. نحن صناع الأفلام بحاجةٍ إلى من يساعدنا في تحسين أعمالنا، وتوسيع أفقنا وفهم مكامن قوَّتنا وضعفنا. أمَّا عن نوعية النقد التي نحتاجها في السعودية فنحنُ بحاجة إلى جميع أنواعه: من النقد الفنيِّ والتقنيِّ إلى النقد الفكريِّ والقصصي. لا نريد فقط من يقول: "الفيلم جميل" أو "غير جميل"، فهذا حكمٌ ذوقيٌّ سطحي.
غالبًا ما نميل في مجتمعاتنا، بدافع اللطف أو المجاملة، إلى مدح الأعمال لمجرَّد أن منتجها أو مخرجها صديقٌ أو زميل. ولكن الجمهور لن يُجامل، وسيكون صادقًا في ردِّ فعله. وبالتالي إذا كانت المجاملة هي التي تحكم النقد، فنحن لا نخدم أنفسنا ولا أصدقائنا من صنَّاع الأفلام. ما نحتاجه هو ناقدٌ مطَّلع على تاريخ السينما المحلي والعالمي، يفهم لغة صُنَّاع الأفلام ويجيدُ مخاطبتهم بلغتهم، سواء على المستوى التقنيِّ أو الفكري أو السردي. وبالطبع سيظل لكلِّ ناقدٍ ذوقه الخاص، وقد يفضل نوعًا معينًا من الأفلام على غيره. لذلك نحنُ بحاجةٍ إلى تنوُّعٍ في مشارب النقاد واختصاصاتهم، تمامًا كما تتنوَّع الأذواق في السينما.
8. أخيرًا، من خلال عملك مع صنّاع سعوديين وأجانب، ومن خلال تنقٌّلك بين قرى سعودية ومواقع تصوير عالمية، ما الذي تغيّر في نظرتك لكلمة "سعودي" حين تضعها على فيلم؟ هل ما زالت هوية وطنية؟ أم صارت علامة سردية لها ملامح قابلة لإعادة التشكيل؟
هذا سؤالٌ بالغ العمق، ومن الصعب الإجابة عليه دون الرجوع إلى الوراء، إلى تاريخ البشريَّة، لفهم طبيعة الصراع الذي نعيشه اليوم كبشرٍ وكشعوب. ما سأقوله هنا هو مجرَّد وجهة نظري الشخصيَّة، لا تستند إلى مرجعٍ رسميٍّ أو توثيقٍ تاريخي، بل نابعة من تأمُّلي في الواقع المُعاش.
نحن اليوم نعيش صراعًا حقيقيًّا بين الحداثة من جهة، وبين الحفاظ على ثقافتنا وهويَّتنا من جهةٍ أخرى. لقد أصبحت الحداثة شيئًا لا مفرَّ منه، خاصةً مع تركيز المجتمعات الحديثة على الاستهلاك؛ فكلُّ ما نفعله تقريبًا أصبح مرتبطًا بالشراء والإنفاق، وهو ما دفع صنَّاع المنتجات إلى تسهيل البيع قدر الإمكان. ونتيجةً لذلك بدأنا نحن البشر نشبه بعضنا بعضًا، ليس في المظهر فحسب، بل حتى في العادات والتقاليد. كأنَّ العالم كلَّه أصبح نسخةً متكرِّرةً من ذاته: نمتلك الأجهزة نفسها، نلبس الملابس ذاتها، ونتابع المباريات والبرامج ذاتها. هذا التماثل قادنا إلى الانشغال بمحورين أساسيَّين: المال وكيف نكسب المزيد منه؛ والوقت وكيف نديره وننظّمه. لقد تحوَّل المال والوقت إلى معيارَيْ نجاح في الحياة، متجاهلين أن الثقافة في جوهرها هي منظومة قيمٍ وعاداتٍ لا تُقاس بالمال أو بالزمن.
لعلَّ أبسط مثال على ذلك هو ما عشته بنفسي حين زرت القرى والضواحي في المملكة. هناك يستضيفك الناس لأيَّام دون مقابل، بين الطعام والشراب، والأحاديث والشعر والقصص. لا أحد ينظر إلى ساعته، ولا أحد يُخرج محفظته. الكل يعيش اللحظة، الكل مشغولٌ بالتواصل الإنسانيِّ الصادق. هذه الظاهرة لا تقتصرُ على قرى المملكة، بل تمتدُّ إلى قرى العالم بأسره، حيث تغيبُ لغة المال ويغيب هوس الوقت، وتحضرُ الثقافة بمعناها الأصيل.
هذا الصراع بين الأصالة والحداثة يتجلَّى أيضًا في صناعة الأفلام. اليوم نشهد تشابهًا كبيرًا بين الأفلام الأميركية والبريطانية والهندية وغيرها، من حيث أساليب التصوير، التحميض والمؤثرِّات البصريَّة، حتى كأنَّها جميعها تنبعُ من منبع واحد. ما يميِّز فيلمًا عن آخر لم يعد في تقنيَّته، بل في روحه الثقافيَّة وهويَّته. حين أقول "فيلم سعودي"، فإنني أقصد فيلمًا يعكسُ ثقافتنا وهويتنا التي لا ترتبط بالمال أو بالوقت، ولا بأساليب التصوير الحديثة.
ثمة أربعة عناصر أراها ضروريَّةً في الفيلم السعودي:
- الخصوصية الثقافية: يجب أن تكون العادات والتقاليد المصوَّرة مختلفةً عن نظيراتها في دولٍ أخرى.
- محلية المشكلات: على القصة أن تتناول قضايا من صميم الواقع السعودي، لا مجرد قضايا عامَّة أو مكرَّرة.
- خصوصيَّة الحلول: يجب أن تتَّسم طرقُ حلِّ المشكلات في الفيلم بخصوصيَّة ثقافية. مثلًا في بعض الدول، إذا ضرب الأب ابنه يتصل الابن بالشرطة؛ أما في مجتمعنا، وإن كان الابن يستحقُّ الضرب، فقد يذهب الإبن إلى والدته لتقول الأخيرة له: "اذهب واعتذر من والدك"، فيتجلَّى هنا بُعدٌ ثقافي مختلف.
- المحيط الاجتماعي: الشخصيَّات الثانويَّة والمجتمع المحيط بالبطل يجبُ أن تعكس طبيعةَ التفاعل المحليِّ مع القضايا المطروحة.
هذه العناصر هي التي تميِّز الفيلم السعودي عن نظيره الكويتي أو المصري أو الأميركي، لا نوع الكاميرا ولا جودة الإخراج، فهذه أدوات مشتركة عالميًّا. ومن المهم كذلك أن يكون صنَّاع الفيلم، من مخرجين وكُتَّاب، أبناء هذا الوطن، لأنَّهم الأقدر على التعبير عن روح ثقافته. لا ضير إن كان أحدُ أفراد الفريق من خارج المملكة، ولكنَّ الأصل أن ينبع العمل من البيئة الثقافيَّة التي يتناولها. لا أقصد بذلك اقتصارُ القصص على تصوير الحياة في القرى أو في فئةٍ محدَّدة، بل على العكس، يجب أن نعكس تنوُّع ثقافات المملكة. فكلُّ منطقةٍ في السعودية لها ثقافتها وعاداتها، ويجب أن نمنح الفرصة لأبنائها لإبرازها من خلال الفن، لأنَّنا وإن تعدَّدت ثقافاتنا الداخلية، فإنَّ هويَّتنا الوطنيَّة واحدة، وهذا هو الجمال الحقيقي في وطننا الغالي.