مقالات

ويس أندرسون في مراحل الصّقلِ الأولى (في البداية تكمن الأسرار)

«كان النص مكتوبًا بدقة شديدة. يمكن أن تقول إن هذا الرجل يعرف بالضبط ما الذي يريد أن يصنعه، وكيف يريد لكّل مشهدٍ أن يبدو».

-          بيل موراي، 1999

 

على طاولة منزوية في قاعة مادة آداب اللغة الإنجليزية، جلس وحيدًا يشذّب مسودة مسرحيّته "ليلة في تونس" حتى ينتهي من المراجعة الأخيرة. لم يلفت انتباه أحد، ولم يعبأ بحديث زملائه الصاخب. واصل العمل كي ينجز النّص الذي سيصبح بعد دقائق بين يدي أستاذ المادة الذي سيجيزه، ويعطيه الضوء الأخضر لتنفيذه وعرضه على مسرح الجامعة. في حالة انفصاله التام هذه، اقترب منه أحد الزملاء في هدوء دون أن يلحظ. عرّف بنفسه، فانتبه لوجوده ورفع رأسه إليه حتى يحييه. وهكذا نشأت الصداقة التي ستعيش حتّى اليوم، مازجةً الشعور العاطفي الإنساني بالإبداع الفنّي والعمل السينمائي بين ويس أندرسون وأوين ويلسون. سيكتمل المشهد الأول بأن يقوم أندرسون بإخراج النّص المسرحي الذي كتبه، وأن يحصل ويلسون على دور البطولة فيه، ثم تنجح المسرحية في إبهار طلاب جامعة تكساس وتكون حديث المهتمين بالأدب والفنون منهم طوال عام 1992.

لا يمكن تخيّل مسيرة أندرسون الفنّية في عالم السينما دون وجود صديق عمره ويلسون، والعكس صحيح؛ كلاهما يُدِين للآخر بكثير من الأمور. بعد أن تعرفا على بعضهما وعملا معًا لأشهر، انتقلا ليكونا زميلَي سكن حتى تخرجهما من الجامعة. تعمقت أواصر صداقتهما بفضل الاهتمامات المشتركة التي تجمعهما، والتي يجيء على رأسها الهوس بالسينما. كلاهما أحبّ مارتن سكورسيزي وأفلام النّوار الحديثة وكلاهما رأى فيها نموذجًا يُحتذى به في العمل السينمائي. بعد التخرج مباشرة وتحت هذا التأثير انطلقا في مشروع فيلمهما القصير الأول، دون ميزانية تقريبًا. تشاركا كتابة النّص، سيناريو درامي عنيف يدور حول ثلاثة شبّان يشكّلون عصابة: الزعيم المتحكّم، التابِع الحالِم، واللامسؤول المتهوّر الذي سيتحوّل إلى مجرم في سبيل نيل الاحترام.

بدأ ويس التصوير، وأمام الكاميرا الصغيرة وقف أوين ويلسون وأخوه لوك ويلسون ومعهما صديق طفولتهما روبيرت موسغريف لتمثيل الأدوار بمشاركة خمسة ممثلين آخرين. بعد أسابيع من العمل حملت كثيرًا من التعثرات وتلمُّس الطريق في عتمة البداية، تمكّنوا أخيرًا من إنجاز الفيلم القصير الذي أسموه "Bottle Rocket" وكانت مدّته 13 دقيقة فقط.

حملوا الفيلم إلى مهرجان Sundance Film Festival الذي أقيم في أواخر عام 1993 في ولاية يوتاه. لجنة المهرجان قبلت الفيلم، وحين عرضه لفت انتباه المخرج جيمس ل. بروكس – الحاصل على ثلاث جوائز أوسكار – الذي كان حاضرًا. تحمّس كثيرًا للعمل، وعند عودته إلى هوليوود كتب تقريرًا لإدارة شركة كولومبيا بيكتشرز، الذين قرروا المراهنة على هؤلاء الشباب ومنحهم ميزانية محدودة، كي يعملوا على تحويل فيلمهم القصير إلى فيلم طويل يُعرض في صالات السينما.

 

الوجه المختبئ خلف إخفاق البداية الكبير

في الدور الرابع من مبنى عتيق بضاحية مونبرناس الباريسية، جلس على كرسي عمل بسيط أمام طاولة مكتبه المصنوعة من الخشب الداكن. كان عليها لوحة مفاتيح تواجه جهاز كومبيوتر Apple بشاشة كبيرة، إلى جانبها طابعة بماسح ضوئي يقابلها جهاز تليفون لاسلكي حديث لا يتوقف عن الرنين. خلفه أرفُف مليئة بالكتب الفنّية ذات الألوان المميزة والإصدارات النادرة من الأعمال الأدبية الكلاسيكية، تقف أمامها مجموعة من القطع الفنية المُختارة بعناية. جدران المكتب مكسيّة بورق له لون الخردل، مع ستائر صفراء تحجب النوافذ العالية، وينفذ من خلالها ضوء الشمس،  وضجيج المارّة والسيارات المنبعث من الشارع. هنا التقى الناقد السينمائي ريتشارد برودي بويس أندرسون في العام 2009، ليجاذب معه أطراف الحديث الصحفي عن البدايات. قال يصف أسلوبه في الكلام: «حديثه عامر بالإشارات والاقتباسات السينمائية، تارة تجده يتذكّر فيلم جون فورد الكوميدي "The Whole Town’s Talking" وتارة يعرّج على جان كوكتو وفيلمه الطليعي "Les Enfants Terribles" مجادلاً أنه دشن الموجة الفرنسية».

في الحوار تذكّر فيلمه الأول "Bottle Rocket" الذي عُرض بصالات السينما في ربيع عام 1996: «في هذا الفيلم حاولنا تقليد ما شاهدناه في الأفلام التي نحبّها، وأضفنا إليها لمسة كوميدية مع كثير من تجاربنا الشخصية. جَمْعُ كل هذه العناصر جعل الفيلم يخرج عن الإطار شبه-الواقعي الذي رُسم له، وهذا ما يجعلني أقول إن كل شيء يكمن في التفاصيل الصغيرة، فقليل من الزيادة أو النقصان قد يؤدي إلى خروج كل شيء عن المسار».

نعم، لقد فشل الفيلم على شبّاك التذاكر فشلاً ذريعًا، ولم يجمع إلا 600 ألف دولار من أموال الإيرادات. الانتقال من أوستن إلى هوليوود والتتلمذ ثم العمل بين يدي جيمس بروكس، أمور لم يكن لها قيمة كبيرة، ولم تمنع حتمية الفشل الذي كان كبيرًا لدرجة أن مهرجان Sundance Film Festival الذي عرض النسخة القصيرة رفض الفيلم هذه المرّة ولم يقبله. كانت أيامًا عصيبة عاشها ويس أندرسون وأوين ويلسون اللذان كانا بعمر 26 عامًا فقط، لكنّ الضوء في آخر النفق جاء من كولومبيا بيكتشرز التي لم تعبأ كثيرًا بفشل الفيلم، حيث إن الميزانية التي مُنحت له في الأصل كانت متواضعة. تغاضت الشركة عن الفشل، وقررت أن تمنحهما الفرصة للتجربة من جديد، ولم يرغبا في العمل مع شركة كبرى، فأخذا نص فيلمهما الجديد إلى شركة متوسطة هي Touchstone Pictures والتي قبلت به، لكنّ هذه قصّة فيلم "Rushmore" وهي قصّة أخرى.

 

 

استقراء عناصر سينما ويس أندرسون من خلال "Bottle Rocket"

الفيلم الأول للمخرج غالبًا ما يحمل ملامح وإشارات لتوجهه وأفكاره التي سيتبناها لاحقًا في مسيرته السينمائية، فالأسلوب الإخراجي غالبًا ما تتكشف أجزاء يسيرة منه، لأن العمل يقوم على أساس الشغف النقي والرغبة القوية في الدخول إلى عالم السينما، والفشل والنجاح لا يمكن أن يكونا مقياسًا في هذه المعادلة، لذا فاستقراء الأعمال الأولى مهم جدًا، وفي حالة ويس أندرسون فإن فيلمه الأول "Bottle Rocket" مثال ممتاز على تكشّف الأسلوب ونبرة صوت النص السينمائي.

إن فيلم "Bottle Rocket" – رغم فشله الكبير – يُعد الباب الأهم للدخول إلى عوالم سينما ويس أندرسون، لأنه وبطريقة عجيبة حوى كل العناصر التي ستميّز أعماله اللاحقة، وإن ظهرت في الفيلم كملامح فقط دون أن تصبغه بالحمض النووي لأفلام أندرسون، التي لا تحتاج إلى أكثر من دقيقتَي مشاهدة حتى تكتشف أنها من صناعته.

عند التفكير في أفلام ويس أندرسون غالبًا ما يحضر إلى الذهن سريعًا عدّة عناصر تميّزه: الجمال الفنّي في التصميم، الأزياء المعتنى بها بإفراط، اللقطات الطويلة، اللوحات النابضة بالحياة، وأسلوب التصوير السيمتري (التناظري) وغيرها، وبالرّغم من أن فيلم "Bottle Rocket" يبدو للوهلة الأولى فيلمًا عاديًا لا يشبه ويس أندرسون ولا أعماله اللاحقة، فإنه بطريقة عجيبة حوى كثيرًا من العناصر التي نعرفها اليوم عن أفلامه.

إطار الصورة عند ويس أندرسون له شكله الفريد الذي يراعي الأبعاد داخله بطريقة سيمترية (تناظرية) يتضح من خلفها العمل المتناهي الدّقة على ترتيب تفاصيل مكونات الإطار حتى يكون هناك توازن تلمحه العين بشكل مباشر، حتى يخيّل أن هذا الإطار لو كان ورقة وطُويت، فإن ما على جانبها الأيسر سيطابق جانبها الأيمن تمامًا، وهو عمل يشبه رسم اللوحات الفنّية.

وكذلك إذا تتبعنا حركة الكاميرا في المشاهد المختلفة، سنلاحظ أنها تتحرك داخل المكان، سواءً بين الشخصيات، أو لاستعراض الزوايا و التفاصيل، دون أن يكون الانتقال داخل المشهد عبر القطع والمونتاج، وإنما من خلال التحريك المباشر للكاميرا في لقطة واحدة طويلة. أحيانًا تكون الكاميرا في حركة دون اهتزازات كما لو كانت مثبّتة على عجلة متحركة أو ذراع، وفي أحيانٍ أخرى تتحرك الكاميرا بصورة طبيعية كأنها محمولة باليد أو الكتف.

الحوار بين الشخصيات له صبغة خاصّة وسمات واضحة يمكن تمييزها بسهولة، ففي سبيل السخرية من الحياة وهمومها دائمًا ما تُكسَر رتابة لحظات الحديث الجامد بتعليقات هزلية من الشخصيات تُلقى بطريقة جادة، وكذلك يقوم بالفعل المعاكس حينما يضفي صفة الجدّية على مشاهد هزليّة تمامًا بشكل مفاجئ للتعبير عن تفاهة كل شيء. العنصر الآخر في باب الحوار يتمثل في مشاهد الحوار أثناء المشي، وهي متكررة في كل أفلامه تقريبًا، شخصيتان أو عدّة شخصيات تسير على عجلة من أمرها، تتبادل أطراف الحديث أثناء المشي بطريقة الهرولة، والكاميرا أمامهم تصوّر أقدامهم وهي تتحرك وأفواههم بينما تخرج الكلمات.

المزج بين حركة الكاميرا و سير الحوار هو أحد أهم عناصر سينما أندرسون. إنه لا يتعامل مع الكاميرا بصفتها شيئًا منفصلًا عن نصّ الفيلم وظيفته التصوير والتسجيل، وإنما يرى في الكاميرا عينًا للمشاهد، ولهذا فهو يوظفها للتجانس مع النصوص والحوار في نسيج لا ينفصل، كما لو كانت شخصيةً من شخصياته لها دور يجب أن تؤديه. وعلى هذا الأساس تكون أفلامه متسقة بطريقة واضحة، فكل ما يظهر على الشاشة هو جزء صغير يكمل رسم الصورة الكبيرة، وهو سبب اعتنائه بأدق التفاصيل؛ لا شيء يظهر اعتباطًا، لا حركة تتم بالصّدفة، كل شيء دُرس وأُعدّ سلفًا كما لو كان الفيلم لوحة فنّية لرسّام.

ثم هناك الهوس الذي هو عنصر بارز يشكل كثيرًا من شخصيات أندرسون، وقد حوت كلّ أفلامه شخصية المهووس بشيء ما، السيّد غوستاف إتش من فيلم "The Grand Budapest Hotel" مهووس بالكمال في إدارة الفندق، القبطان زيسو من فيلم "The Life Aquatic with Steve Zissou" مهووس بالبحار ومطاردة الأسماك النادرة، وكذلك شخصية تشاز من فيلم "The Royal Tenenbaums" ومعاناته من الهوس العنيف بالسلامة بعد أن فقد زوجته في حادث تحطّم طائرة. تختلف درجات الهوس، لكنّه حاضر دائمًا وبأشكال متنوّعة.

جميع العناصر الآنفة، يمكن بسهولة ملاحظتها في فيلم "Bottle Rocket" وإن كانت لا تحمل نفس الطابع القوي الذي بات يشكّل حمضًا نوويًا لأفلام ويس أندرسون اللاحقة، إلا أن الظهور الخجول لهذه العناصر، يؤكد ما ذهب إليه الممثل بيل موراي، زميله وشريكه بالتمثيل في كل أفلامه تقريبًا: «إنه يعرف تمامًا ماذا يريد أن يصنع. من البداية تمامًا كان يعرف».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. قيس عبداللطيف
March 3, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا