واقعية روبِرتو روسلِّيني المحيّرة

أ. رشا كمال
و
مانوهْلا دارغيس
March 9, 2025

«لا يستطيعُ المرء العيش  بدون روسلِّيني». هذه الجملة وردت على لسان إحدى الشخصيات في فيلم «قبل الثورة» (Prima della rivoluzione - 1964) للمخرج برناردو برتولوتشي. وعلى الرغم من مرورِ أكثر من ثلاثة عقودٍ على وفاته (توفي عام 1977)، يبدو أنَّ معظم رواد السينما في أمريكا استطاعوا العيش بدونه، حتى وإن لم يكونوا في أفضلِ حال. في ظلِّ عدم توفر أغلب أفلامه للتأجير للعرض المنزلي، تضاءلت مكانة والد الواقعيَّة الإيطاليَّة الجديدة، ووالد الممثِّلة إيسابيلا روسلِّيني، إلى مجرَّد رمزٍ في طائفة مُحبِّي السينما، مثل قديسٍ تلاشت ملامح صورته على جداريَّة الفن.

وربما لن يعيدَ الحدثُ الذي سيقام يوم الأربعاء، في متحف الفن الحديث (Museum of Modern Art) لعرض مجموعةٍ من أفلامه وأعماله التليفزيونية، إحياءَ ذكراه، إلا أنَّه لا يزال حدثًا أساسيًّا ولفتةً ترحيبيَّةً رائعة. يقام العرض تحت إشراف وتنظيم متحف وسينماتك أونتاريو، ومن المقرر أن يمتد [من الخامس عشر] حتى الثاني والعشرين من ديسمبر [عام 2006]، ويقام بعد ذلك في كلٍّ من لوس أنجلوس ولندن. وأيضًا يتضمَّن عرضًا موازيًا لعددٍ من الملصقات الدعائيَّة لأفلام المخرج (عدد منها على سبيل الاستعارة من المخرج مارتن سكورسيزي، الزوج السابق لابنة روسلِّيني)، ويشمل العرض عددًا من أعمال المخرج المألوفة مثل كلاسيكيَّة الواقعيَّة الجديدة، أي فيلم «روما، مدينة مفتوحة» (Roma città aperta - 1945)، وعددًا من الأعمال التلفزيونيَّة غير المعروفة التي قدَّمها المخرج بعدما يبدو أنَّه تخلَّى عن الفنِّ الذي ساهم في إحداث ثورةٍ به.

إنَّ جوهر الواقعيَّة عند روسلِّيني عابرٌ وعميق، فقد ساهم في إعادة العالم الواقعي إلى السينما، وذلك من خلال المزج بين الأشخاص الحقيقيِّين والأماكن الحقيقية مع الممثِّلين المحترفين واستوديوهات التصوير. ولو أعدنا صياغةَ ما ذكره الناقد أندريه بازان، فإنَّ مخرجي الواقعيَّة الإيطاليَّة الجديدة، أمثال فيتوريو دي سيكا وروسلِّيني، لم يزخرفوا شكلَ الحكاية بلمساتٍ من الواقع، كما لو كانت قطعًا للزينة، إلَّا أنَّهم وعوضًا عن ذلك قدموا شظايا الواقع التي تحتفظ بغموضها، بأسرارها وبمعناها الذي نحيك خيوطه مثلما تفعل شخصيَّات الحكاية. وكما كتب بازان: «يضع الآخرون الواقعية في قفص، ويعلِّموها كيف تنطق، إلَّا أنَّ دي سيكا يتحدَّث معها، وإنها حقًَا لغة الواقع التي نسمعها، الكلمة التي يصعب نكرانها، ولا يمكن أن ينطق بها سوى الحب».

قال روسلِّيني ذات مرَّةٍ من المرَّات، في أثناء إخراجه فيلم «مدينة مفتوحة»، إنَّه «كانت هناك حاجةٌ مُلحَّةٌ للحقيقة»، ولهذا كان لِزامًا عليه، وعلى زملائه من مخرجي الواقعيَّة الجديدة، «الحفاظ على الموقف الأخلاقيَّ أكثر من الأسلوب». ولم يكن روسلِّيني، والذي أخرج أفلامًا للنظام الفاشي - قبل أن يصبح مناهضًا له، شخصًا ينتظر الفرصةَ لتدق بابه. ونستشهد بالقصة التي رواها الكاتب تاغ غالاغر في كتابه السِيَري «مغامرات روبرتو روسلِّيني» (The Adventures of Roberto Rossellini) عن فتاةٍ تعملُ في متابعة النصوص السينمائيَّة، وبينما كانت تهرعُ في شوارع روما في أثناء تدفُّق الجنود الأمريكان إلى المدينة في يونيو من عام 1944، التقت مصادفةً بالمخرج وقال لها: «يجب أن نصنع فيلمًا، كلُّ ما علينا فعله الآن هو أن ننظر حولنا، وسنجد القصصَ التي نحتاجها في كلِّ مكان».

وبعد سبعة أشهر، وبتمويلٍ من إحدى الكونتيسات، وبسيناريو شاركَ فيدريكو فيلليني في تأليفه، بدأ روسلِّيني تصوير فيلم «روما، مدينة مفتوحة»، وهو عن حكاية رجالٍ ونساءٍ وأطفال تصدَّوا لمقاوَمة الاحتلال الألماني. وانتهى من تصويره في شهر مايو من عام 1945، في الشهر نفسه الذي أعلنت فيه القوات الألمانية في إيطاليا استسلامها؛ وفي مطلع العام التالي، احتفى النُّقَّاد بالفيلم الذي كتب عنه أحدهم: «الشخصيَّات تمثِّل فيه كما لو أنَّهم أشخاص عاديُّون، وليسوا كالممثلين المحترفين»، وعلَّق النَّاقد بوزلي كراوثر في صحيفة نيويورك تايمز: «بالنِّسبة لنا، نحنُ الذين اعتدنا المشاعر الملفَّقة في الأفلام التي تُنتجها استوديوهات هوليوود، فإنَّ بساطة الواقع، والعاطفة الحقيقيَّة في هذا الفيلم، يضفيانِ على قصَّته غير المألوفة تأثيرًا رهيبًا يكشفُ عن واقعٍ صادم».

ربَّما لم يعد يُمثِّل فيلم «مدينة مفتوحة» صدمةً كما كان من قبل، ولكن حتَّى تكرار مشاهدته لا تقلِّلُ أبدًا من قوَّته. صُوِّر الفيلم بالأبيض والأسود، داخل الاستوديوهات وبعض الأماكن الحقيقيَّة، عن قصَّة أحد أعضاء المقاومة ومعارفه المُخلصين، من بينهم كاهنُ الحي، وسيِّدةٍ حامل قامت بدورها الرائعة آنا ماغناني. يموتُ الجميع تقريبًا في هذه البلدة الجريحة، المليئة بالمباني المدمَّرة والوجوه الشاحبة: حيث يتعرَّض قائد المقاومة للتعذيب حتى الموت، ويُطلَق الرصاص على المرأة الحامل، ويُعدم الكاهن. ولا يتبقَّى سوى الأطفال والأعداء بنهاية العناوين الختاميَّة للفيلم.

ويقول روسلِّيني عن الفيلم: «كنت أحاول أن أستكشف، وأفهم، لأن لديّ هذا الشٌّعور بأننا جميعًا مسؤولون عما حدث، كلُّنا جميعًا.» وربما كان يُصدق روسلِّيني هذا الشٌّعور، ولكن لا «مدينة مفتوحة» أو فيلم «بايزا» (Paisà - 1946)، وهو قصَّةٌ أخرى عن المقاومة، اهتما بالمسؤوليَّة الإيطالية. في فيلم «بايزا» يطلقُ عددٌ قليلٌ من الفاشيين الإيطاليِّين الرصاصَ على مجموعةٍ من أنصار المقاومة في معركةٍ رائعةٍ صُمِّمت في شوارع مدينة فلورنسا. وحتى الجنود الوطنيوُّن في فيلم «مدينة مفتوحة» لم يتحلَّوا بالجرأة في مواجهة الممارسات الهمجيَّة النازية، وفي ذروة الفيلم تخفض فرقة الإعدام الإيطالية أسلحتها، تاركين مهمَّة توجيه الرصاصة القاتلة لضابطٍ ألمانيٍّ مثير للاشمئزاز. يوجد ألمان أشرار في كلا الفيلمَين، ولكن المساحة الأكبر كانت من نصيب المقاومين، والشُّهداء، والضَّحايا الإيطاليين.

صنعَ هذان الفيلمان من روبرتو روسلِّيني اسمًا عالميًا. ولكن سرعان ما تضاءل الحماس المستوحى من هذه الأفلام في جوانب أخرى، بدايةً من فيلمه القاسي «ألمانيا العام صفر» (Germania anno zero - 1947)، الذي يتحوَّل فيه مفهومُ التَّضحية - يتوقَّف على كيفيَّة تأويلكَ لانتحارِ طفل صغير - إلى اعتناقٍ للعدميَّة، أو بادرة نحو التَّجاوز. صُوِّرَت أحداث الفيلم في شوارع مدينة برلين عام 1947، وكانت آثار دمار الحرب ما تزال عليها، وكالعادة وللأسف دُبلج الفيلم للُّغة الإيطالية، وفيه نتتبَّع إدموند، الطفل الأشقر صاحب الاثني عشر عامًا، وهو يكابد طوال الأحداث لتوفير القوت لعائلته، فيرتكبُ إحدى الجرائم، ثُمَّ يُقدم بعدها على الانتحار. واحتار النُّقَّاد، الذين احتفوا بأفلام الواقعية الاجتماعيَّة الرمزية لروسلِّيني، في مضمون الرِّسالة التي ربَّما يحاولُ تمريرها خلال الفيلم.

يُمثِّل إدموند في بعض النَّواحي صورةً لجميعِ الأطفال الألمان الذين دمَّرت الحربُ حياتَهم، وتذكيرًا شبحيًّا بالجيل الألماني الذي تُرِكَ سُدًى في تبعاتٍ كارثيَّة لما بعد الحرب العالميَّة الأولى. غير أنَّ إدموند طفلٌ حقيقيٌّ للغاية، وفي أحيانٍ كثيرةٍ يبدو مجرَّد طفلٍ ألمانيٍّ هزيل، لا يُمثل، أو يفسِّرُ أيَّ شيءٍ زائدٍ عمَّا نراه أمامنا على الشاشة، مثل البراءة أو النقاء. بالتالي فهو ليس رمزًا أو فكرةً مجرَّدة، بل إنَّه جسدٌ يتحرَّك عبر الزمان البائس والمكان الحقيقيّ، الذي يرفضُ روسلِّيني تطويعَه إلى سردٍ مقبول. ولهذا لم يصل الهدفُ الأخلاقي الذي يسعى وراءه المُخرِّج في نهاية الفيلم، ولكنَّه محفورٌ في كلِّ صورةٍ لهذا الطِّفل الوحيد البائس.

دعمَ النُّقَّاد الفرنسيون روسلِّيني خلال فترة الخمسينيات، في وقتٍ وقف ضدَّه بالمرصاد كلًّا من الماركسيِّين الإيطاليِّين والأخلاقيِّين الأمريكيِّين. لم يرُق للماركسيِّين ما كانوا يرونه، ولم يعجِب المحافظون ما كانوا يسمعونه. بعدما كتبت الزوجة، والأم، والنجمة الهوليوودية إنغريد بِرغمان، خطابًا خجولًا رائعًا لروسلِّيني عبَّرت فيه عن رغبتها في العمل معه، سرعان ما أصبحت بطلة فيلمه «سترومبولي» (Stromboli-Terra di Dio - 1949)، وأصبحت حاملًا أيضًا بطفله، الأمر الذي أثار فضيحةً أشبه بثوران البركان بنهايةِ الفيلم. وعلى إثر ذلك أدان سيناتور كولورادو الديمقراطي إدوين كارل جونسون الموقفَ الأخلاقيَّ الشائن لبرغمان، وأطلق على روسِلِّيني لقب قرصان الحب، ولم تكن تلك الفعلة الشنعاء صفاقةً ما بعد حداثية (بِرغيلِّيني1!)، بل كانت أشبه بوصمةِ العارِ لفاحشةِ الزِّنا في القرن السَّابع عشر.

تزوَّج روسلِّيني من برغمان عقب ولادة ابنهما روبرتو، وأتمَّا معًا خمسة أفلام، خلقا خلالها مسيرةً رائعةً على المستويين الإبداعي والشخصي. في فيلم «سترومبولي» تلعبُ الفنَّانة السويديَّة دور كارين، وهي لاجئةٌ من أصولٍ ليتوانية، التي تحاولُ الهجرة إلى الأرجنتين، ولكنَّها تتزوَّج من أحدِ الجنودِ الإيطاليِّين بدلًا من ذلك، ثُمَّ يأخذها إلى جزيرته البدائيَّة المنعزلة، حيث تحيط بها السَّيِّدات المُسنَّات، وصفير الرِّجال، وغليان البركان الذي يحمل الفيلمُ اسمه، وتفقدُ قدرتها على التحمُّل، في مشهدٍ يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ المشهدَ المذهلَ لصيادي الجزيرةِ وهم يسحبون التُّونة الضخمة من المياه، ولا تعتبرُ المناظر الطبيعيَّة الصخريَّة، المنذرة بالخطر، دلالةً على اغتراب كارين، بل هي تجسيدٌ لتلك الحالة: حالة الاغتراب التي قادتها في نهاية المطاف إلى حافَّة البركان الثائر، حيث صرخت «أنا خائفة، خائفة، يا لهذا الغموض، يا لهذا الجمال، يا إلهي».

بعد مرور عدَّة سنوات، وكذلك عدد من الأفلام، أفضت الحممُ البركانيَّة التي تدفَّقت في فيلم سترومبولي إلى فيلم «رحلةٌ إلى إيطاليا» (Viaggio in Italia - 1953)، وفيه تلعبُ برغمان، وجورج ساندرز الذي تعلو قلَّة الراحةِ ملامحه، دورَ زوجين - هما كاترين وأليكس - يسافران إلى ريف مدينةِ نابولي لبيع أحدِ المنازل. وهناك يأكلان وينامان، ويشبُّ بينهما خلافٌ في إحدى اللَّيالي. بعد ذلك يذهبُ كلُّ واحدٍ منهما على انفرادٍ في رحلاتٍ يوميَّةٍ منفصلة، ويستمرُّ انفصالُهما حتَّى يقنعَهما أحد المعارفِ بزيارة مدينة بومبي. وهناك بين حطام الآثار، يشاهدان أحدَ العمال وهو يكشفُ عن أثرٍ لجثمانِ رجلٍ يحتضنُ امرأةً في حالة عناقٍ أبدي. وعلى إثر هذه الحادثة تفرُّ كاترين وهي تقول "إنَّ الحياة قصيرةٌ جدًا". وبعد ذلك، وأثناء مشاهدتهما لأحدِ المواكب الدينية، يفرِّق بينهما الحشد، إلى أن يجمعهما شيءٌ ما مجدَّدًا، ربما يكون إحدى النِّعم، أو إحساسًا بالحب، أو ربما بحرُ الأجساد الدافئ.

إنَّه وصالٌ مرهق، عظيمٌ ومخيف. وخلافًا لكلِّ الأسباب الواضحةِ وراء تصرفاتهما، إلا أنَّ هذين الشخصَين يؤكدان حبَّهما في حضرةِ زوجين متوفيين. واعتقد بازان، الذي يستحقُّ أن نقتبسَ من كلامه دائمًا، أنَّ عالم روسلِّيني يمثِّل «فصولًا نقيَّة، بلا أهميَّة في حدِّ ذاتها، ولكنها تمهِّدُ الطريق (كما لو أنَّهُ مجهولٌ عند خالقه) إلى وحيٍ مبهرٍ مفاجئ بما تحويه من معاني». ويُرجِع منتقدو بازان السببَ في ذلك إلى انتمائه إلى الكاثوليكية، ولكنَّكَ لستَ بحاجةٍ إلى الإيمان بأيِّ عقيدةٍ كي تُقدِّر استشعار روسلِّيني للنِّعم الدنيويَّة، وكي ترى إشراقةَ وجهِ بِرغمان في سترومبولي، وعناقها لساندرز الذي سيخلِّدُ صورتَهما أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر في بومبي.

كانت أفلامُ روسلِّيني بالنسبة لبازان، وكذلك بالنسبة للنقاد الشباب لمجلَّة «دفاتر السينما» (Cahiers du Cinéma) الذين أصبحوا مخرجين فيما بعد (أمثال جان-لوك غودار)، بمثابةِ بئرٍ عميقٍ تمكنوا من خلاله، بعد خمسين عامًا من نشأة السينما، من استقاء الأفكار حول علاقتها بالواقع وبالذاتيَّة. بنى الفيلمُ الروائيُّ التقليديُّ عوالمَه من خلال الحيَل الوهميَّة، بينما قَدَّمَ روسلِّيني العالمَ على حاله دون أيِّ زخرفةٍ مثل الهدية. وفي واحد من انتصاراته الجميلة المؤثِّرة، وهو فيلم «زهور القديس فرنسيس» (Francesco, giullare di Dio - 1950)، توجدُ لحظةٌ يطلبُ فيها القديس فرنسيس - والذي يؤدِّي دوره كاهنٌ حقيقي [وهو ناتساريو جيراردي] - من عصفورٍ أن يخفِضَ صوتَه لأنَّه يحاولُ الصلاة إلى الخالق، ويشرحُ للعصفور: إنَّه من السهل عليك أن تتحدَّث مع الله، ولكن الأمر أصعب علينا بكثيرٍ نحن البشر.

المصدر: جريدة نيويورك تايمز- بتاريخ 2006

رابط المصدر

الهوامش:

1.إشارة إلى لقب "برانجلينا" الذي أطلقته وسائل الإعلام على كلا من النجمين براد بيت وأنجلينا چولي بعد ارتباطهما عاطفيًّا، وذلك أثناء زواج براد بيت من الممثلة جِنيفر أنيستون (المترجمة).

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى