عبثيات صغيرة

أمين فصي
و
April 23, 2025

في نسيج الكون، لا تنشأ أيُّ حركةٍ دون أن تترك أثرًا، ولا ينبعث فعلٌ إلا ويجدُ في طريقهِ ردَّ فعلٍ يوازيه في القوَّة ويعاكسه في الاتجاه. إنَّه القانون الذي وضعه إسحاق نيوتن بعد قرونٍ من الملاحظة والتجربة، لكن هل يقتصرُ هذا على الفيزياء وحدها؟ أم أنَّه يمتدُّ إلى مجالاتٍ أكثر تجريدًا، مثل الفنون والثقافة؟

بين الوعظية والتمرد

في المشهد الإنتاجي السعودي، يبدو أن قانون الفعل وردِّ الفعل قد تجسَّدَ بوضوحٍ في تحوُّلات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي. بدأت مرحلة الإنتاج التلفزيوني التقليدي برسالةٍ توعويَّةٍ مباشرة، كما جسَّدتها أوائلُ الإنتاجات السعودية، مثل «طاش ما طاش» الذي لم يكن مجرَّد عرضٍ فكاهي، بل أداة لطرحِ قضايا اجتماعيَّة ضمن قالبٍ ساخر. لكن وكما يملي القانون الطبيعي، استدعى هذا الفعل ردَّة فعلٍ مضادَّة: موجةٌ من الإنتاجات الدراميَّة التي نزعت عن نفسها عباءة التوعية، لكنَّها دفعت ثمنَ ذلك بتراجعٍ في الجودة الفنيَّة والتنفيذيَّة. هذه الموجةُ لم تستمر طويلًا، إذ وَلَّدَت رفضًا للمباشرة والتقليديَّة، ممَّا مهَّد الطريقَ لظهورِ تيَّارٍ جديدٍ على منصَّات الإنترنت، وخاصَّةً «يوتيوب»، كردِّ فعلٍ على تلك الدراما.

مولد السينما الهزلية

مع تراجع تأثير التلفزيون، لجأ الجمهور، خصوصًا الشباب منه، إلى محتوى مستقلٍّ بعيدٍ عن القيود الرقابيَّة. وقد قدَّمت قنواتٌ مثل «تلفاز 11»، «بمبي»، «يوترن» و«بخشيش» محتوى جديدًا يعتمد على الهزل كصفةٍ أساسيَّة. لكن ما المقصود بالهزل هنا؟ 

الهزل هنا باختصار هو ما يعتمدُ على المرح والفكاهة، ولا يحتاج إلى أن يكونَ ذا رسالةٍ أو قيمةٍ واضحة، بل يكفي أن يكون مجرَّدَ تلاعبٍ بالسرديَّات والتوقُّعات ليكفي غرائزَ المُتلقي، أي ليس من الضروري انتهاءُ قصَّة المجرم بقبضِ السلطات عليه، ولا حتَّى تلقِّي المخطئ درسًا تقليديًَا في الأخلاق.

هذه الفلسفة تبنَّتها محتوياتٌ مثل «الخلاط»، «فُليم»، «كيس»، «برغرتي»...، التي طرحت فكاهةً غيرَ مقيَّدةٍ ونمطَ حياةٍ أكثرَ عفويَّةٍ وواقعيَّة.

الاعتراف بالسينما ودعمها

مع دخول صناعة الأفلام السعوديَّة مرحلة الدعمِ الرسمي، تحوَّلت المشاريع المستقلَّة إلى إنتاجاتٍ ضخمةٍ ذات ميزانيَّاتٍ طموحة. شهدنا ذلك مع مشاريع مثل مجموعة مشاريع «تلفاز 11» الكبرى:

كما برزت أفلامٌ سلَّطت الضوءَ على الطبيعة السعوديَّة، على غرار «هجان» و«طريق الوادي»، المدعومين من «إثراء» و«نيوم»، و«بين الرمال»، الذي كشف عن بيئةٍ سينمائيَّةٍ مختلفةٍ وحدودٍ إنتاجيَّةٍ شاسعة. وعلى الرغم من هذا التحوُّل نحو الإنتاجِ الضخم، إلَّا أنَّ الهزليَّة لم تختفِ، بل تطوَّرت بمزيجٍ من الترفيه والنضج الفني…

إعادة إحياء الحراك الهزلي

لم يعد الهزل اليوم مجرَّد اتِّجاهٍ متمرِّد، بل أصبحت جزءًا من تيَّارٍ سينمائيٍّ يعكسُ واقع المجتمع الشبابي. وقد برزت أعمال مثل سلسلة «حي بشر» على منصة يوتيوب، بقائمة من الأفلام بدأت بالأكشن والإثارة «٩١» للمخرج زياد عثمان، تبعه الفيلم الثاني لحي بشر «زرفة التحلية»، للمخرج مشاري المزيد.

كما تفوَّقت مجموعة "سيفون" في إحياء الحراك الهزلي وسط السينما الروائية، حيث حصد فيلمها القصير «عفن» جائزة تحدي الـ 48 ساعة، كما حقق «سيقان سالم» انتشارًا واسعًا بعد عرضه في مهرجان البحر الأحمر وعلى منصَّة نتفليكس. 

في البداية، لم أعر «سيقان سالم» اهتمامًا، لكن مع تحليلي لتوجُّه الأفلام الكوميديَّة غير الوعظية، اتَّضح تأثير المجموعة، رغم انقسام الآراء حولها بين منتقدٍ وداعم.

عند مشاهدتي «سيقان سالم» شعرتُ بخيبة أمل، لكن ذلك تغيَّر مع فيلم «عفن» الذي روى قصَّة صُنَّاع محتوى اشتهروا بتصوير صديقهم وهو يتناول طعامًا فاسدًا. . ما لفت انتباهي لم يكن فقط الفكرة الجريئة، بل التجسيد الدقيق للعفن وتطوُّراته، حيثُ أبهرني أداء سالم العطاس العفوي، وكذلك أخذتُ أتأمَّل تنفيذ مختلف أنواع العفن على مختلف أصنافِ الطعام. لقد كشف لي الفيلم عن مستوى عالٍ من الجديَّة والاجتهاد لدى فريق سيفون، حتى على مستوى التحرير الإبداعيِّ والاقتطاعات، وهو ما جعل الفيلم ممتعًا بصريًا وقصصيًا رغم خلوه من القيمة الوعظية.

«خمسين»: محاولة هزلية متطورة

ما حفزني لكتابة هذا المقال كان فيلم «خمسين» للمخرج عبد الله الرويس، حيث وجَّه الرويس عدسته إلى قصَّةٍ بسيطةٍ لكنَّها مشحونةٌ بالهزليَّة: رجلٌ متطفِّلٌ يترقَّبُ رحيل إحدى العائلات ليتسلَّل إلى منزلها، لكنه يُفاجَأ بوجود الجد الذي لم يسافر مع أسرته. تتطوَّر الأحداث إلى حوارٍ غريبٍ ومثيرٍ بين الاثنين، ممزوجٍ بلحظاتٍ من الكوميديا السوداء والهزليَّة الذكيَّة.

في الفيلم استُخدِمت ببراعةٍ تقنيَّة "اللقطة الطويلة" (long take)، ما سمحَ للمشاهد بالتفاعل مع الحوارات والأحداث في لقطةٍ واحدةٍ دون انقطاع، ممَّا عزَّز الإحساس بالواقعيَّة. كذلك كانت نهاية الفيلم امتدادًا لحالةِ الهزل ذاتها، حيث يجد البطلان نفسَيهما في مأزقٍ جديد، يعيدان فيه اللعبة التي جمعتهما منذ البداية: جولة كيرم!

كما ظهرت العديد من الأفلام الأخرى بدورات المهرجانات السينمائية السعودية الأخيرة، وكذلك محاولات سعت لتنشيط منصة «يوتيوب» مرة أخرى لا يسعني ذكرها.

إلى ما تتجه السينما الهزلية؟

يمكنُ اعتبار السينما الهزلية انعكاسًا للتحوُّلات الثقافيَّة والاجتماعيَّة في السعوديَّة، فهي ليست مجرَّد اتجاه عابر، بل حالةٌ إبداعيَّةٌ تعكس التمرُّد على القوالبِ الجاهزة والبحث عن أشكالِ تعبيرٍ إبداعيَّةٍ جديدة. من منظوري الشخصي، أرى أن السينما الهزليَّة يجب أن توازي السينما الدراميَّة، كما يجب أن يُنظر في أمر تكثيفِ الفرص الإنتاجيَّة لها، لأنَّ تكلفتها التنفيذيَّة البسيطة تترك أثرًا عميقًا لدى الجمهور، كما تُثبت الأرقام القياسيَّة لمشاهدات المحتوى الهزلي الذي بات في أرشيف الأذهان الآن على «يوتيوب»، جميعها لا تقلُّ عن مليون ومليوني مشاهدة!

وهذا بالنسبة لشباك التذاكر رقمٌ مستحيل، أقله في الأعوام الحاليَّة للسينما السعوديَّة. 

لكن يبقى التساؤل الأكبر: هل ستظلُّ الهزلية ردَّة فعلٍ على أفعالٍ مضت، أم أنَّها ستنضجُ لتصبح تيارًا متكاملًا يحمل رؤيةً فلسفيَّةً مستقلَّةً عن محاولة إثبات الأفعال، فتُخالف قانون نيوتن أو تُشعّبه داخل نطاقها الجديد؟ وهل يمكنُ لإنتاجاتٍ مثل «هوبال» و«صيفي» أن تكون شرارة موجةٍ جديدةٍ أكثر جرأةً وتجريبًا من الهزليَّة كردَّة فعلٍ تضاهيها في المقدار وتعاكسها في الاتجاه؟

كلُّ ما هو مؤكَّدٌ أنَّ السينما السعوديَّة في تحوُّلٍ ديناميكيٍّ يجعل كلَّ الاحتمالات مفتوحة!

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى