مقدِّمة:
يعدُّ تشارلي تشابلن، هذا الإنكليزيُّ الصغير الذي وصل إلى الولايات المتَّحدة في سنٍّ مبكِّرةٍ كي يحقِّقَ المجد هناك، رمزًا للسينما بحدِّ ذاته، ويبدو كأنَّه تجسيدٌ مثاليٌّ للحلم الأمريكي. ومع ذلك كانت علاقته بالولايات المتَّحدة متناقضة؛ فتشابلن الذي لم يطلب يومًا الجنسيَّة الأمريكيَّة، ظلَّ دائمًا مواطنًا استثنائيًّا، وناقدًا لاذعًا للمجتمع الذي عاش فيه لعدَّة عقود، دون أن ينخرطَ فيه تمامًا. من خلال استعراض شخصيَّة الصعلوك التي ابتكرها تشارلي تشابلن، والتي كانت بطبيعتها على هامش المجتمع، وكذلك مواقفه العلنيَّة المعارضة للحربِ والإفراطِ في الاعتمادِ على المصانع، بالإضافة إلى مشكلاته مع القضاء ولجنة الأنشطة المعادية لأمريكا، يهدفُ هذا المقال إلى توضيح كيفَ تحوَّلَ مخرجٌ سينمائيٌّ شعبيٌّ عالميًّا من رمزٍ أيقونيٍّ إلى منبوذٍ مضطهدٍ من قبل السلطات والصحافة الأمريكيَّة، ممَّا اضطره في النهاية إلى مغادرة وطنه الذي تبنَّاه.
من تشابلن، المهاجر الأبدي، إلى «شارلو1»، التائه الأبدي:
وُلِدَ تشارلز سبنسر تشابلن في حيٍّ فقيرٍ بلندن في 16 أبريل 1889، وشارك في أوَّل جولةٍ له في الولايات المتَّحدة كممثِّلٍ في عروض المسرح الموسيقي عندما كان في العشرين من عمره. أمَّا الجولة الثانية، والتي بدأت في أكتوبر من عام 1912، فقد فتحت له أبواب السينما، حيث وقَّع عقدًا مع أستوديوهات كايستون (Keystone Studios) في سبتمبر عام 1913.2 هذا ما بدأ مسيرته الطويلة والمزدهرة التي يعرفها الجميع. كان صعوده مذهلًا، خاصَّة وأنَّه أنشأ أستوديوهاته الخاصَّة بحلول يناير من عام 1918.3 باعتباره كاتبًا لعددٍ كبيرٍ من سيناريوهات أفلامه، ومخرجًا ومُمَنتِجًا، وبطلًا رئيسيًّا وملحِّنًا، ولاحقًا منتجًا أفلامَه الخاصَّة، تمتَّعَ تشارلي تشابلن بسيطرةٍ كاملةٍ على أعماله السينمائيَّة. احتفى تشابلن بالبلدِ الذي استقبله في فيلمه «المهاجر» (The Immigrant) عام 1917، كما اختار تصوير فترةٍ مضطربة، لكنَّها أسطوريَّة، من تاريخ الولايات المتَّحدة بإخراج فيلم «حمَّى الذهب» (The Gold Rush) عام 1925. في الفيلم الأوَّل يتقمَّص تشابلن دور مهاجرٍ يضعُ كلَّ آماله في العالم الجديد؛ بينما يجسِّد في الثاني دورَ منقِّبٍ وحيدٍ يسعى لتحقيقِ حياةٍ طيِّبَة.
هذا ما يشبهُ إلى حدٍّ ما قصَّة حياته؛ يوضحُ تشابلن في مذكَّراته مدى اقتناعَه بأنَّ فرصَ نجاحه ستكون أكبر بحال ذهبَ إلى الولايات المتَّحدة بدلًا من البقاء في إنكلترا، وفي الليلة التي سبقت رحيله في أوَّل جولةٍ له عبر المحيط الأطلسي، كان قد اتخذ قراره بالفعل: «{...} كنتُ قد قرَّرتُ الاستقرار نهائيًّا في أمريكا» كما كتب4. عند وصوله يعترفُ أنَّه شعرَ ببعض الاغتراب في البداية، لكنَّه سرعان ما تأقلم وقال لنفسه: «هنا مكاني5». في الواقع، ورغم أنَّ البداية كانت صعبةً إلى حدٍّ ما (حيث لم تحقِّق الفرقة التي شارك معها في الجولة التي استمرت أكثر من عامٍ ونصفٍ نجاحًا كبيرًا)، إلَّا أنَّ كلَّ شيءٍ في أمريكا أعجبَ تشارلي تشابلن، من الهندسة المعماريَّة إلى طريقة التفكير، كما كان مصمِّمًا على البقاء هناك، حتَّى لو اضطرَّ إلى البحث عن مهنةٍ أخرى غير التمثيل.6
كمعجبٍ بما اعتقدَ أنَّه طابعُ الشعب الأمريكي، كان تشارلي تشابلن يرى أنَّ أفراد هذه الأمَّة يتمتَّعون بتفاؤلٍ لا يتزعزع، ويملكون دائمًا القدرة على إيجاد حلولٍ لمشاكلهم. كان يعلمُ أنَّه سيضطرُّ للعملِ بجد، وهو ما يتوافقُ تمامًا مع طبيعته، ومن اللافتِ أنَّه نظر إلى الولايات المتَّحدة بالنظرة نفسها التي يحملها أيُّ مهاجرٍ مجهول، حيثُ يظنُّ أنَّه يستطيع تحقيق الثراء بفضل المثابرة والاجتهاد7. كما عبَّر عن هذا الشعور عند وصوله إلى الولايات المتحدة للاستقرار هناك بقوله: «الآن شعرتُ أنَّني في وطني بالولايات المتَّحدة: غريبٌ بين غرباء، متوافقٌ مع الآخرين8». مثل هذه التصريحات ليست مفاجئةً تمامًا، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تشارلي تشابلن احتفظ طوال حياته بمشاعرَ متناقضةٍ تجاه أمريكا؛ فقد شعر بأنَّه في مكانه هناك، لكنَّه في الوقت ذاته اعتبر نفسه مختلفًا عن أولئك الذين لم يعتبرهم يومًا أبناء وطنه.
«اعتبارًا من عام 1915، اجتاحت "التشابلنمانيا9" العالم الناطق بالإنكليزيَّة بأسره. فكلُّ عرضٍ في مسارح الموسيقى كان يضمُّ مشهدًا هزليًّا عن شخصيَّة شارلو، وكلُّ صحيفةٍ تقريبًا كانت تستخدمه في رسومها الكاريكاتيرية، كما أصبح بطلًا للأغاني الشعبيَّة والقصص المصوَّرة».10
كان النجاح الجماهيري فوريًّا، واحتَفَت الصحافة الأمريكيَّة بتشارلي تشابلن احتفاءً كبيرًا ورفعته إلى مصاف النجوم. ولكن من الصحيح القول إنَّه لم يكن هناك تقريبًا أيَّ التزامٍ أو "نقدٍ اجتماعي" في أعماله الأولى، مما جعل الجانب الفني وروحه الكوميديَّة هما العنصران الوحيدان القادران على جذب الانتباه. في الحقيقة، كان تشارلي تشابلن في بداياته يفتقر إلى الثقافة بشدة، لكنَّه عمل لاحقًا على "سدِّ هذه الثغرات".11
كان تشارلي تشابلن قد جذب انتباه الجمهور من خلال ابتكار شخصيَّة الصعلوك. وأغلبُ مرَّات ظهوره على الشاشة كانت بهذا الزي وتلك الملامح؛ وبالتالي أصبح تشارلي وشخصيَّته «شارلو» كيانًا واحدًا، والجمهور في غاية الحماسة. في الواقع، يمكنُ تفسير العائدات المحدودة للفيلم الطويل «امرأةٌ من باريس» (A Woman of Paris – 1923) فقط من خلال حقيقة أنَّ تشابلن قرَّر عدم الظهور في فيلمٍ لم يكن كوميديًّا فحسب، بل كان دراميًّا أيضًا، ممَّا أربك تمامًا متابعيه المخلصين. يشيرُ نويل سيمسولو أنَّه بعد هذه الخيبة، و «... من أجلِ استعادة النجاحات الكبيرة، فعلى تشابلن أن يعود ليرتدي ثوب شارلو».12
تكمن الميزة الأساسيَّة لشخصيَّة الصعلوك في وضعه داخل المجتمع... أو بالأحرى في غياب أيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ له. وكونه شخصيَّة هامشيَّة، يمثِّلُ الصعلوك رمزًا للبراعة في التأقلم، وصورةً لإنسانٍ عاجزٍ عن الاندماج في القوالب الاجتماعيَّة السائدة، وكأنَّه غيرُ معنيٍّ بكلِّ صخب العالم الحديث. تحملُ بعض ظهورات الصعلوكِ دلالات خاصَّة ومعانٍ عميقة. «في بداية فيلم «أسلحة الكتف» (Shoulder Arms – 1918)، يجبر رقيبٌ شارلو على السيرِ مستقيمًا بدلًا من مشية البط؛ عندئذٍ يظهرُ مشهدٌ أيقونيٌ فيه اضطرابُ حركته بأسلوبٍ كوميديٍّ يعكسُ شخصيَّته الفريدة. لكنَّها سرعان ما تعودُ إلى طبيعتها تلقائيًّا، ممَّا يعكسُ استحالة اندماج هذه الشخصيَّة في القوالب التقليديَّة أو التكيُّف مع النظام المفروض13»، وذلك بكلِّ ما يحمله من معنى. في نهاية حياته الفنيَّة، وفي آخر أفلامه «كونتيسةٌ من هونغ كونغ» (A Countess from Hong Kong – 1967)، كان تشارلي تشابلن قد تخلَّى منذُ فترةٍ طويلةٍ عن شخصيَّة المتشرِّد التي اشتُهِر بها، مسلِّمًا دور البطولة إلى صوفيا لورين ومارلون براندو. ومع ذلك قرَّر تشابلن أن يقوم بظهورٍ قصيرٍ في الفيلم، متقمِّصًا دورًا بسيطًا يجسِّدُ فيه شخصيَّة خادمٍ في السفينة يعاني من دوار البحر.
في هذا الفيلم الطويل، يلتقي شارلو بطريقةٍ ما بنظيره الأنثوي المتمثِّل في شخصيَّة الفتاة الصغيرة. في ملاحظاته التحضيريَّة للفيلم، أوضح المخرج أنَّ الشخصيَّتَين الرئيسيَّتين تمثلان «الروحين الحيَّين الوحيدين في عالمٍ من الآليين. إنَّهم يعيشون حقًا... أحياء لأنَّنا أطفالٌ بلا أيِّ إحساسٍ بالمسؤولية، فيما رزح بقيَّة البشريَّة تحت وطأة الواجب. عقولنا حرة...14». يشعرُ شارلو بغربةٍ شديدةٍ عن المجتمع الأمريكي في ثلاثينيَّات القرن الماضي لدرجة أنَّه يفضِّلُ البقاء في السجن، حيث يشعرُ بحريَّةٍ وسعادةٍ أكبر ممَّا يشعرُ به في المصنع. لأنَّ العاملَ الأمريكيَّ العاديَّ محكومٌ عليه بأن يكون خاضعًا للوائحَ ومواعيد عملٍ تهين كرامته.
في وقتٍ كانت فيه اقتصادات الولايات المتَّحدة تهيمِن على العالم، حيث كانت تُعرَض الإعلانات التجارية التي تمجد مصانع فورد، كانت إدانة تشابلِن للإيقاعات القاسية للعمل بمثابة انتقادٍ شاملٍ لنمط الحياة الأمريكي ككل:
يُعتبر العمل على خطِّ الإنتاج هنا مجرَّد شكلٍ مجازيٍّ لوجهٍ أكبر، وهو أتمتةُ الفردِ من خلال تقليص سلوكه إلى سلسلةٍ من الانعكاسات الجماعيَّة التي تجعله يتبنى المبادئ التي تحكم العقلية الأمريكية والغربية عمومًا: العمل، الأسرة، المال، السلطة (وبالمصادفة، الوطن).15
يمكنُ لنهاية الفيلم أن تفضي إلى عدَّة تفسيرات. لم يعد لدى الشخصيَّتين عمل، ومن جديد أصبحتا مهمَّشتين، بلا مأوى وبلا مال، وتبدوان بعيدتين عن الصراع على السلطة، ووسواس الصعود الاجتماعي والركض وراء الممتلكات الاستهلاكيَّة. ومع ذلك فإنَّهما يطمحان أيضًا إلى بلوغ السعادة، حتَّى وإن كانا يواصلان طريقهما سيرًا على الأقدام على هذا الطريق المعبَّد. يمكن أن يُرى هذا الختام كتعبيرٍ عن الاحتفال بالحلم الأمريكي: لكلِّ فردٍ فرصة، ويمكنه أن يحملَ أكثر الآمال جنونًا. ولكن في ضوء بقيَّة الفيلم – وبقيَّة أعمال تشابلن – يمكنُ أيضًا رؤية هذه اللقطة النهائيَّة كإشارةٍ ساخرةٍ للمجتمع الأمريكي الحديث وقيمه. من دون أن يكونا جزءًا حقيقيًّا منها ودون أن يخضعا لقواعدها وقوانينها، سيتمكن شارلو والفتاة من النجاة في النهاية.
تشابلن، منتجُ أفلامٍ ملتزِم:
يكمنُ السبب في كون تشابلن مخرجًا مميزًا في مواقفه المعارضة للأفلام الناطقة. هذا لأنَّ تشابلن ليس معاديًا للحداثة فقط في صناعة السينما، بل هو أيضًا مشكِّكٌ في التطوُّرات التقنيَّة السينمائيَّة. فعقب صدور فيلم «الأزمنة الحديثة» (Modern Times - 1936)، كتبَ ما يلي:
«تخلَّت هوليوود بأكملها عن الأفلام الصامتة، ولم يبق سواي. (...) فكَّرتُ في أصوات مختلفة لشارلو (...)، لكن كان ذلك دون جدوى. لئن تكلَّمت، سأغدو مجرَّد كوميديان، شأني شأن باقي الآخرين».16
على غرار شخصيَّة الصعلوك الذي لا يستطيع قبول أن يكون "مثل الجميع"، أراد تشابلن الاستمرار في إنتاجِ الأفلام الصامتة في وقتٍ كان فيه جميع المخرجين الآخرين يندفعون بأيِّ ثمنٍ نحو تبنِّي الأفلام الناطقة: في ثلاثينيَّات القرن الماضي، أصبحت الأفلام الحواريَّة (films dialogués) هي القاعدة السائدة بالفعل. وكما هو الحال دائمًا، لم يكن تشابلن ليواكب التيار السائد، ليس خوفًا من انتهاء مسيرته المهنيَّة، بل بدافعِ قناعةٍ فنيَّةٍ خالصة.
في الحقيقة، ومنذ بدايتها، توقَّع تشابلن فشل الأفلام الناطقة وأعلن معارضته الشديدة لها. كان يخشى أن يختفي كلُّ سحر الفنِّ السابع مع ظهور هذا الأسلوب الجديد. كان يُنظر إلى الحوارات على أنَّها عناصرُ دخيلة، وسيلةٌ تُشتِّت انتباه المشاهدين الذي كان يتركَّز سابقًا على جماليَّات الصورة. إنَّ فنَّ التمثيل الإيمائي (Pantomime)، وهو وسيلة تعبيرٍ عالميَّةٍ عزيزة جدًّا على قلبِ المنتج، يكفي بحدِّ ذاته، فهو يرى «أنَّ المشاعر العظيمة بمجملها تخلو من الكلمات17». وفي وقتٍ مبكِّرٍ من عام 1929، أعلن تشارلي تشابلن بصوتٍ عالٍ وواضحٍ أنَّه «لن يؤدِّي أيَّ دورٍ في فيلمٍ ناطق».18
ومع ذلك، وبطريقةٍ تبدو متناقضةً إلى حدٍّ كبير، يمكن اعتبار فيلم «الأزمنة الحديثة» في الوقت ذاته آخر فيلمٍ صامتٍ في هوليوود وأول فيلم "ناطقٍ" لتشارلي تشابلن. الحقيقة أنَّ المخرجَ يستخدمُ الصوتَ بحذرٍ في هذا الفيلم، وفي ظروفٍ محدَّدةٍ دائمًا ومن خلال جهازٍ وسيط (مثل الصوت السلطوي لمديرِ المصنع الذي يصل إلى العمَّال عبر الشاشة، أو الصوت المسجَّل للخطاب الدعائي الذي يروج لفضائل "آلة الطعام"، وغيرها). إنَّه لفعلٌ ثوري، شارلو يتلعثم بكلماته الأولى... غير المفهومة، لأنَّه ومن خلال اختراع كلماتِ أغنيةٍ بلغةٍ تشبه الإسبرانتو، تُسمَع نبِرات صوتِه. وبالطبع، فإنَّ الإيماءات هي التي تمكِّننا من "فهمِ" تلك الكلمات.
صوَّر تشارلي تشابلن ما يقرب من 70 فيلمًا قصيرًا، جميعها صامتة، بالإضافة إلى 11 فيلمًا طويلًا لاحقًا، أربعةٌ منها ناطقةٌ بالكامل، وآخرها فقط كان بالألوان وبصيغة "السينماسكوب" (cinémascope)19. لذلك يرتبطُ شارلو بالأبيض والأسود وبالأفلام الصامتة، فيما يجسِّدُ تشارلي تشابلن، الذي وُلِدَ مع ظهور السينما، رمزيَّة "المقاومة" تجاه ثورة الأفلام الناطقة.20
ما سيجلبُ المتاعبَ لتشارلي تشابلن في نهاية المطاف ليس تمسُّكه بالسينما الصامتة وتجاهله للاتِّجاهات الجديدة، بل استمراريَّة شخصيَّة شارلو نفسها، والتي من خلالها برزَ نوعٌ من النقدِ الاجتماعيِّ الذي خلط الكثيرون بينه وبين موقفٍ سياسيٍّ متجذِّرٍ بعمقٍ في اليسار. في حين كانت الأفلام القصيرة الأولى تهدف فقط إلى إضحاك الجمهور، سمح تشارلي تشابلن لنفسه لاحقًا بالسخرية من بعض الركائز الأساسية للمجتمع الأمريكي. في فيلم «الحاج» (The Pilgrim - 1923)، «(...) يجسِّد (تشابلن) شخصيَّةَ سجينٍ هاربٍ يتمُّ اعتبارَه بالخطأ القسَّ الجديدَ لإحدى البلدات الصغيرة. وقد جلبت له هذه السخرية من التزمت الديني الكثير من المتاعب مع النقاد محدودي الأفق ومع السلطات الكنسية».21
ولكن ابتداءً من فيلم «الأزمنة الحديثة»، بدأ إلصاق تصنيفٍ معيَّنٍ بشخصيَّة شارلو، وبالتالي بتشارلي تشابلن. ومع ذلك يتَّفق الباحثون في مجال السينما والنقاد اليوم على أن تشارلي تشابلن/شارلو لم يكن يمارسُ السياسة بالمعنى الدقيق للكلمة. علاوةً على ذلك، كيف يمكنُ اعتبار فيلم «الأزمنة الحديثة» فيلمًا دعائيًّا، في حين أنَّ شارلو لا ينتمي إلى أيِّ تيَّارٍ سياسي، بل يميلُ في الواقع إلى الفردانيَّة بوضوح؟ كتب نويل سيمسولو ما يلي:
«معًا يكافحُ (شارلو والفتاة) للعيش والحبِّ رغم العقبات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والصراعات الأيديولوجيَّة. (...) ويحرص (تشابلن) على تقديم شخصيَّةٍ تعكسُ موقفًا محايدًا تجاه الأيديولوجيَّات المختلفة».22
في الواقع، «بالصدفة ورغم إرادته»23، يشارك الصعلوك في مظاهرةٍ ويتمُّ اعتباره قائدها. كان العلم الأحمرُ الذي يلوِّحُ به قد سقطَ من شاحنة، وكل ما فعله شارلو هو محاولة لفتِ انتباه السائق، دون أن يدرك أنَّ حشدًا غاضبًا يحمل لافتاتٍ يتبعه... هذا الالتباس جعله ضحيَّةً للعنف البوليسي في زمنٍ لم تكن فيه النقابات العماليَّة تتمتَّع بأيِّ شرعيَّةٍ قانونيَّةٍ في أمريكا، كما أنَّ ثمَّة التباسٌ أكثر شموليَّةٍ سيجعلُ لاحقًا من تشارلي تشابلن "الرجل المستهدف للإقصاء".
ولكن قد يكون هذا الغياب للتمرُّد الواعي من جانب الشخصيَّة الرئيسيَّة هو ما يضفي على الفيلم طابعه الفرعي المتمرد إلى حد ما. «إنَّ البعد السياسي للفيلم في جوهره أكثرُ إزعاجًا وتعقيدًا. فشخصيَّاته لا تناضلُ لتغيير العالمِ ولا تتمرَّد24». من المؤكَّد أنَّ شارلو والفتاة ليسا من دعاة الأناركيَّة، «ولكنَّهما (مع ذلك) (يكافحان) من أجل البقاء في عالمٍ يرفضان قوانينه».25
عند صدوره، اعتبرت أمريكا المحافظة فيلم «الأزمنة الحديثة» عملًا تقدُّميًّا وذا ميولٍ يساريَّة. هذا الفيلمُ حُظِرَ حتَّى في إيطاليا الفاشيَّة وألمانيا النازيَّة. أمَّا في باريس ولندن وموسكو فقد لاقى استقبالًا حارًّا للغاية. لم تأتِ فكرة السيناريو لتشارلي تشابلن عن طريق الصدفة. بعد العرض الأوَّل لفيلم «أضواء المدينة» (City Lights) في أوائل عام 1931، انطلق في جولةٍ حول العالم استمرَّت لعامٍ ونصف. كان يُستقبلُ استقبالًا حافلًا أينما ذهب، ويلتقي بالعديد من الشخصيَّات البارزة على غرار تشرشل، أينشتاين، غاندي والبارون كينز، بالإضافة إلى الكتَّاب والفنَّانين. كان مدركًا للفقر الذي يعمُّ في كلِّ مكان، وكان ذلك يؤثِّرُ فيه بشكلٍ خاص كونه من أصولٍ بسيطةٍ وعاشَ طفولةً صعبة. كما كان قلقًا من تصاعدِ القوميات؛ لذلك، بعد فيلم "«الأزمنة الحديثة»، قرر تصوير فيلم «الديكتاتور العظيم» (The Great Dictator – 1940).
حينئذٍ يبدأ تشارلي تشابلن في تطويرِ تصوُّرِه الخاص لعالمٍ أكثر عدلًا؛ إذ يعتقد، على سبيل المثال، أنَّ الآلات التي يعتبرها سببًا لكلِّ هذه البؤس، يمكنُ أن تكونَ مفيدةً لو استُخدِمَت بهدف خدمة الإنسان بدلًا من أن تكون وسيلةً لتمكين قلَّةٍ من الأغنياءِ من التربح. يقول في حديثٍ له مع صحفيَّة: «البطالة هي القضيَّة الحيويَّة […].على الإنسانيَّة أن تستفيدَ من الآلة. فلا ينبغي أن تكون دلالتها هي المأساة والتسريح من العمل26». ولكن مع مرور الوقت، يجري استخدام الآلة من أجل الربح فقط، ويعتبرُ تشارلي تشابلن أنَّ هذه الظاهرة تشكِّلُ خطرًا، كما أنَّه يشعرُ بالقلق من الاسترقاق الذي ينجمُ عن "التايلوريَّة" (Taylorism).27 نشر المُنتجُ سلسلةً من المقالات حول هذا الموضوع عام 1933. إنَّ هذه التأملات هي التي أسفرت عن سيناريو فيلم «الأزمنة الحديثة».
28صُوِّرَ الفيلم وصدر خلال فترة "الكساد الكبير" (The Great Depression) حين عانت الولايات المتحدة الأمريكية لسنواتٍ من البطالة، وعانى الفقراء من الجوع، بينما استمرَّ عدد المشرَّدين في التزايد. عام 1936، كان الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت قد سبق وأن أطلق برامج "الصفقة الجديدة" (New Deal)، وهي سياسةٌ تدخُّليَّةٌ تهدفُ إلى إنقاذ الاقتصاد ومساعدة الفقراء. على الفور اتَّخذ تشابلن موقفًا مؤيِّدًا لهذه الإجراءات. وبالنسبة لأولئك الذين كانوا يشككون فيه، فإن هذا الالتزام الجديد يؤكد أنَّ المنتج أبعد ما يكون عن كونه محافظًا.
سيعزِّزُ فيلمه التالي «الديكتاتور العظيم» قناعة أمريكا بأنَّ تشابلن شيوعي، خاصَّةً بسبب الخطاب الأخير يلقيه الحلَّاق اليهودي بدلًا من هينكل (حيث يؤدِّي شابلن كلا الدورين)، وهو خطابٌ يمجِّد القيم الديمقراطية:
اتهمه المحافظون برداءته ببثِّ دعايةٍ شيوعيَّة، بينما رفضه الراديكاليون بسبب ما اعتبروه سذاجة. في تلك اللحظة من التاريخ الأمريكي، كان تشارلي شابلن يخاطر كثيرًا بإنتاج فيلم «الديكتاتور العظيم». كانت قوَّة المشاعر الانعزاليَّة، بل وحتَّى المؤيِّدة للفاشيَّة، قد دفعت هوليوود إلى التردُّد في تناول موضوعاتٍ معاديةٍ للنازيَّة بشكلٍ صريح. اشتكى الرئيس فرانكلين روزفلت شخصيًا من أنَّ الفيلم قد يضرُّ بعلاقاتِ البلاد الخارجية. صدر فيلم «الديكتاتور العظيم» عام 1940، وعلى الرغم من أنَّ تلقِّي الجمهور كان دافئًا بشكلٍ عام، بل وحماسيًّا بشكلٍ استثنائيٍّ في بريطانيا التي كانت في حالة حرب، إلَّا أنَّ الفيلم شكَّل بدايةَ العداء من قبل أمريكا المحافظة تجاه المخرج. وشكلت السنوات العشر التالية الفترةَ الأكثر قتامةً في حياتِه المهنيَّة والشخصيَّة.29
على الرغم من أنَّ تصوير الفيلم بدأ بعد ستَّة أيامٍ فقط من اندلاع الحرب في أوروبا، إلَّا أنَّه وعند عرضه كانت الولايات المتحدة ما تزال ترفضُ الدخولَ في الصراع. ناهيك عن أنَّ تشابلن واجهَ قدرًا كبيرًا من العدائيَّة بمجرَّد الإعلان عن المشروع، وكضحيَّةٍ للضغوط المتنوِّعة التي تعرَّض لها في هوليوود وكذلك في واشنطن، اضطرَّ المنتجُ إلى تمويل فيلمه بنفسه ولوحده.
ألمانيا بلدٌ مسيحي، وبالنسبة للولايات المتحدة، يُنظر إلى هتلر على أنَّه أنقذَها من الشيوعيَّة؛ ولذلك لم يُعتبر تهديدًا خطيرًا. وكما يُلاحظُ ميشيل شيون: «(...) إنَّ فيلم "الديكتاتور العظيم" (...) مفاجئٌ وصادمٌ أيضًا، وذلك من خلال مهاجمته، بنبرةٍ فكاهيَّة، لرئيس دولةٍ ما تزال معظم دول العالمِ تعامله باحترام (...)».30 تميَّز تشابلن مرَّةً أخرى بمواقفه؛ ففي عام 1939، قدَّم دعمًا ماليًا لليهود الألمان الذين كانوا يسعون للهروبِ من النظام النازي واللجوء إلى الولايات المتحدة. هذه المبادرة حظيت بتغطيةٍ واسعةٍ من قبل الصحافة، والتي أطلقت على تشارلي تشابلن لقب "موسى القرن العشرين".31
الأمَّة الأمريكيَّة ضدَّ تشابلن:
باتت مواقف تشارلي تشابلن مزعجةً للبلد الذي تبنَّاه بشكلٍ متزايد، ولم يكن فيلمه الطويل الذي تلى «الديكتاتور العظيم» كفيلًا بتهدئة الأجواء. إنَّ فيلم «السيِّد فيردو» 32(Monsieur Verdoux – 1947) مستوحى من "قضيَّة لاندرو" (affaire Landru)، حيث قام تشابلن بتجسيد الدور الرئيسي فيه. أوضحَ تشارلي أنَّ «السيناريو (الخاص به) مليءٌ (...) بنقدٍ اجتماعيٍّ عنيف، وأنَّ الرقباء أرسلوا إليه رسالةً طويلةً يشرحون فيها أسباب إدانتهم للفيلم بالكامل33». غير أنَّ تشارلي شابلن دافع عن سيناريو الفيلم، وتمكن من تمريره بعد إجراء بعض «التعديلات الطفيفة34».
ومع ذلك احتفظ فيلم «السيِّد فيردو» - الذي يروي حكاية رجلٍ شريفٍ يفقدُ وظيفته بسبب الأزمة الإقتصاديَّة ويقرِّرُ خوض عملٍ أكثر ربحيَّةٍ من خلال الزواج من أرامل ثريَّاتٍ وقتلهن - بطابعه الساخر والمناهض للأعراف السائدة. وقد أدلى المُخرج بهذا التصريح للصحافة قبل وقتٍ قصيرٍ من إصدار الفيلم:
«يرى السيِّد فيردو أنَّ القتلَ هو امتدادٌ للأعمال التجاريَّة. بهذا المعنى، فإنَّه يعكس مشاعر العصر الذي نعيش فيه - فالكوارث تفرز أشخاصًا مثله35». الحقيقة أنَّ شفافيَّة فيردو، وغيابه التام عن أيِّ شعوبٍ بالتمرُّد، هما ما أثارا موجة من الكراهية ضدَّ تشابلن وأعماله.
علاوةً على ذلك، ظلَّت شخصيَّة فيردو محتفظةً بكرامتها وثباتها أثناء صعودها إلى المقصلة، وذلك بعد أن تناولت الدين باستخفافٍ و «تحدَّت منطق العدالة في مجتمعٍ يموت فيه الناس الشرفاء جوعًا في الوقت الذي يتربَّح فيه تجَّار الأسلحة36». كما ينطقُ أيضًا بتلك الجملة الشهيرة التي يندِّدُ من خلالها بنفاق الحكومات التي تحكمُ بالإعدامِ على الأفراد بتهمة القتل فيما ترسلُ أطفالها إلى الحرب: «جريمةٌ واحدةٌ تجعلُ من القاتل شرِّيرًا، أما ملايين الجرائم فتجعله بطلًا. العددُ يقدَّسُ يا صديقي»37. على الرغم من أنَّ أحداث القصة تدور في فرنسا خلال ثلاثينيَّات القرن الماضي، فمن الواضحِ أنَّ الهدف الحقيقي هو أمريكا المحافِظَة في أربعينيَّات القرنِ نفسه.
خلال العرض العالمي الأوَّل لـ «السيِّد فيردو» في نيويورك في أبريل من عام 1947، قوبِل الفيلم بصيحات استهجان38. وفي اليوم الذي تلا العرض، كان المؤتمر الصحفي صاخبًا للغاية. كان تشابلن واعيًا تمامًا لما ينتظره، حيث بدأ تصريحاته للصحفيين قائلًا ببساطة: «فلتبدأ المذبحة39». خلال الجلسة بطولها، تعرَّض تشابلن لهجماتٍ من جميع الجهات، بحيث لم تُطرح عليه سوى أسئلةٍ سياسيَّة - دون أيِّ سؤالٍ عن فيلمه. وصف جويل مانيي هذا المؤتمر الصحفي بأنَّه «تحفةٌ من العنق اللفظي وسوء الفهم40»؛ أمَّا دايفيد روبنسون فقد اعتبره بأنَّه وبكلِّ بساطةٍ «تحوَّل إلى محاكمة تفتيش».41
طرحَ أحد ممثِّلي المحاربين القدامى سؤالًا على تشابلن يقول فيه: «هل تعتقدُ أن دفعكَ للضرائبِ يعفيك من مسؤوليَّاتك والتزاماتك الأخلاقيَّة تجاه البلد الذي تعيش فيه؟42» ويبدو أنَّ إجابات المُنتِجِ لم تُقنِع الحاضرين، خاصَّةً عندما صرَّح قائلًا: «لا أرى أيَّ سببٍ يدعوني لتغييرِ جنسيَّتي. إنَّني أعتبرُ نفسي مواطنًا عالميًّا43». فُسِّرَت مثل هذه التصريحات على أنَّها انعدامٌ كاملٌ للولاءِ تجاه الولايات المتحدة. وهدَّد المحاربون القدامى ومجموعات الضغط الأخرى بمقاطعةٍ دائمةٍ لدور السينما التي تعرض الفيلم، ممَّا دفع العديد منها إلى التراجع عن عرضه.44
قبل الخوض في الأسباب السياسيَّة وراء هذا العداء، لا بدَّ من التذكير بأنَّ الحياة الخاصَّة لتشابلن غالبًا ما كانت محور جدلٍ واسع، ممَّا يعني أن شخصه كرجل، قبل كونه فنانًا، هو ما أثار غضبَ أمريكا المحافظة. بدايةً هناك قضيَّة الممثِّلة ميلدريد هاريس: في عامها السادس عشر كانت حاملًا من تشابلن، وهدَّدت بمقاضاته بتهمة الاغتصاب لو لم يتزوَّجها.45 في نهاية المطاف استجاب المخرجُ لضغوطها في نهاية عام 1918، ولكن في ربيع عام 1920، طالبت الممثِّلة الشابَّة بالطلاق بسبب القسوة النفسيَّة، متَّهمةً زوجها بالبخل46، ممَّا مكنها، في نهاية العام، من الحصول على الطلاق لصالحها.
بعد ذلك ببضع سنوات، وظَّف تشابلن شابَّةً أخرى تبلغُ من العمر 16 عامًا، وهي ليتَّا غراي التي سبق لها وأن عمِلتَ معه في فيلمه «حمَّى الذهب». غير أنَّ حملها أجبر تشابلن على استبدالها بعد ثمانية أشهرٍ من التصوير.
عندما أدركت الفتاة ووالدتها أن طموحاتهما قد تفشل، لجأتا إلى التهديد نفسه الذي استخدم في قضية هاريس، مما أجبر تشابلن على الزواج. بعد عامين تطلب ليتا غراي الطلاق لصالحِها، وتقدِّم وثيقةً مكوَّنةً من اثنين وأربعين صفحةً تتَّهم فيها تشابلن بالقسوة النفسيَّة والبخل، والسلوك الجنسي غير الطبيعي وتهديدها بالقتل. نُشِر نصُّ الوثيقة في الصحافة بآلاف النُسَخ. وتحصلُ الشابَّة على ستُّمائة ألف دولارٍ لنفسها ومائتي ألف دولار لطفليها اللذين تتولَّى حضانتهما.47
قيل في ذلك الوقت إنَّه كان «القرار (...) الأكثر قسوةً في تاريخ القضاء الأمريكي48». في مذكَّراته كان تشابلن شديد التحفُّظ بشأن زواجه الثاني، لأنَّه أراد حماية ابنيه. في وقتٍ لاحقٍ جرَّحت بتشابلن امرأتان كان له علاقة معهما: نشرت ماي ريفز كتاب «تشارلي تشابلن الحميم» (The Intimate Charlie Chaplin)، وقدَّمت المغنِّية والممثِّلة بولا نيغري صورةً غير مشرِّفةً له في مذكَّراتها.50
وأخيرًا، ستتسبَّب قضيَّة الممثِّلة جوان باري في إلحاق أذى كبيرٍ بتشابلِن. ففي عام 1941، وظَّف المُنتجُ هذه الفتاة البالغة من العمر 17 عامًا. سرعان ما يندمُ على قراره لأنَّ مواهبها التمثيليَّة تخيِّبُ أمله؛ بالإضافة إلى ذلك يُدركُ تشابلن أنَّ جوان باري، والتي أقام معها علاقةً قصيرة، «تخونه علنًا51»، والأهمُّ من ذلك أنَّها «(تعاني) من اضطرابٍ عقلي52». أُلغي العقد بعد أقلِّ من عامٍ واحدٍ باتِّفاقٍ متبادل، لقاء دفع تشابلن خمسة آلاف دولارٍ للشابة.53 ولكن في أواخر عام 1942، اقتحمت جوان باري منزل تشابلن وهي تحملُ سلاحًا؛ ووفقًا لبعض المصادر، هدَّدت بالانتحار لإلقاء التهمة على تشابلن بقتلها، في حين ذكرت مصادر أخرى أنها هدَّدت بإطلاق النار على تشابلن. هذا الأخير اتَّصل بالشرطة وعرض على جوان باري ووالدتها تذكرتي قطارٍ للعودة إلى نيويورك.54
في مذكَّراته، كتبَ المُنتِجُ ما يلي: «بين ليلةٍ وضحاها، أمست حياتي كابوسًا55». الحقيقة أنَّ المشاكل تفاقمت عندما اتَّهمت جوان باري في يونيو 1943 تشابلن بأنَّه والد الطفل الذي تحمله، ورفعت عليه دعوى لإثبات الأبوة. حتَّى وإن أثبتت اختبارات الدم أنَّ تشارلي ليس والد الطفل، «فإنَّ هيئة المحلَّفين، المكوَّنة من إحدى عشر امرأة ورجلٍ واحد، قد قرَّرت إدانته56». مرَّةً أخرى يدفعُ مبلغًا كبيرًا من المال.
ولكن لا شكَّ أنَّ ما هو أكثر خطورة هو استغلال السلطات الأمريكيَّة لقضيَّة باري بغية تحقيق أهدافها. ذلك لأنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، والذي كان يراقبُ تشارلي تشابلن منذ عشرينيَّات القرن الماضي، يبدو مصممًا على تحطيمه، متهمًا إياه بـ 58«التآمرُ لحرمان جوان باري من حقوقها المدنيَّة57». استُخدِم قانون مان (Mann Act)، العائد لعام 1910، لتوجيه الإتَّهام إلى تشابلن. هذا القانون «يُحظرُ بموجبه نقل امرأةٍ عبر حدودِ ولايةٍ ما بهدفٍ غير أخلاقي59»؛ وقد انتهكه تشابلن بدفعه ثمن تذاكر القطار لباري ووالدتها... في مذكَّراته، وصف تشابلن ذلك بأنَّه «حيلةٌ قانونيَّةٌ60» استعملتها الحكومة الأمريكيَّة.
علاوة على ذلك، يبدو أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي هو الذي استغلَّ نقاط الضعف النفسيَّة للشابة ودفعها إلى رفعِ دعوى إثباتِ الأبوَّة ضدَّ تشابلن. كتب دايفيد روبنسون ما يلي: «كانت شهادة جوان باري غير موثوقة، والجهود التي بذلها مكتب التحقيقات الفيدرالي لتقديم والدتها - المشاكسة والمدمنة على الكحول - كأمٍّ لطيفةٍ، تعدُّ من بين أكثر الحلقات سخافةً في "ملفِّ تشابلن"61». كان ذلك في عام 1943، وسط كلِّ هذه الفوضى القضائية، عندما تزوَّج تشابلن من أونا أونيل التي سيجد بجانبها الاستقرار في نهاية المطاف وينهي أيامه معها؛ وأنجبا ثمانية أطفال. لكنَّها كانت في الثامنة عشرة من عمرها وهو في الرابعة والخمسين، وبالتالي كانت هذه الزيجة حجَّةً إضافيَّةً يستخدمها الصحفيون لتقديمِ المخرج على أنَّه "عجوزٌ شهواني".62
بين عامي 1944 و1945، قضى تشابلن وقتًا طويلًا في المحاكم. حتى وإن خرجَ بريئًا من قضيَّة قانون مان، فإنَّ الافتراءات التي تعرَّض لها تركت آثارًا في نفسه. في الواقع، لم تنتَظر الصحافة المحافظة حتى تلك الفترة لتصوير تشابلن على أنَّه رجلٌ منحرفٌ وغير أخلاقي. تُضاف الشكوك حول الشيوعيَّة إلى السمعة المثيرة بالفعل التي كان يتمتَّع بها المخرج. بعد عرض فيلم «السيِّد فيردو» في يونيو من عام 1947، «طالب السِناتور رانكين في الكونغرس بطرد (تشابلن) من البلاد بهدف "تجنُّب تأثير أفلامه المنحطَّة على شبابنا"63». وفي سبتمبر من نفس العام، قدَّم قدامى المحاربين الكاثوليك الطلب نفسه.
في الوقت الذي بدأت فيه الحرب الباردة و"حملة مطاردة الساحرات"64، واصل تشابلن التعبير عن قناعاته علنًا. ففي نوفمبر من عام 1947، لم يتردَّد تشابلن في مطالبة بيكاسو بتنظيمِ مظاهرةٍ أمام السفارة الأمريكيَّة في باريس احتجاجًا على طرد هانس آيسلر، المؤلف الموسيقي اللاجئ من ألمانيا النازيَّة، والذي كان يُعتبر شيوعيًا، من الأراضي الأمريكيَّة65. في أوائل الأربعينيات، كان تشابلن قد شارك بالفعل في عدَّة مظاهراتٍ لدعم الاتحاد السوفيتي. إنَّ مداخلته العلنيَّة الأكثر شهرةً هي خطابٌ ألقاه في "ماديسون سكوير غاردن" في يوليو من عام 1942، وفيه دعا إلى فتحِ جبهةٍ ثانيةٍ في أوروبَّا66؛ وسرعان ما اختلط الأمر بين كونه رجلًا يرى أنَّ الديمقراطيَّة مهدَّدةٌ لو لم تُدعَم روسيا، وبين كونه شيوعيًّا مؤمنًا.67
68لذا ليس من المُستَغرَب أن يُصبِحَ تشابلن هدفًا مفضَّلًا "للجنة الأنشطة المعادية لأمريكا بمجلس النوَّاب" (HCUA) منذ إنشائها في أواخر الثلاثينيَّات.69 «(...) طوال أربعينيَّات القرن، ومع البدء بحملة مطاردة الساحرات، قامت أمريكا بمهاجمة تشابلن بنفسِ الحماسة التي كانت قد كرَّستها سابقًا لتقديسه.70 في الوقتِ الذي كان ينهي فيه عمله على فيلم «السيِّد فيردو»، تلقَّى المخرج استدعاءً للمثول أمام لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا في واشنطن. تأخَّرت اللجنة في تزويده بتاريخٍ للمثول، فشرح في رسالةٍ كم أنَّ هذه الوضعيَّة تضرُّ بشركته؛ واغتنم الفرصة ليؤكِّد أنَّه ليس شيوعيًّا ولم يكن يومًا عضوًا في أي حزبٍ سياسي. وعلى هذه الرسالة ردُّوا بلباقةٍ أنَّه ليس من الضروري مثوله أمام اللجنة.71
غير أنَّ المضايقات استمرَّت عندما كان تشابلن، عام 1952، يرغبُ في الذهاب إلى لندن لعرض فيلم «أضواء المسرح» (Limelight - 1952)، حيثُ اضطرَّ للخضوع لاستجوابٍ دام عدَّة ساعاتٍ، حول ميوله السياسيَّة وحياته الشخصيَّة، من أجلِ الحصول على تصريحٍ للعودة.72 وبمجرَّد منحه التأشيرة ينطلقُ قاصدًا أوروبَّا. ولكن بعد يومين من الابحار، علِم المخرج، والذي كان مسافرًا مع أسرته، أنَّ سلطات الهجرة قد تراجعت عن قرارها، «وأنَّ النائب العام للولايات المتَّحدة قد فتح تحقيقًا لتحديد ما إذا كانت "أخلاقيَّاته المشينة وميوله السياسيَّة" تبرِّرُ السماح بعودته إلى الولايات المتَّحدة. ولتحقيق ذلك، كان لا بدَّ من الاستماع إلى المعنيِّ بالأمر. وقد صدرت الأوامر لسلطاتِ الهجرة باعتراضه فور وصولِه إلى الحدود لهذا الغرض».73
لكنَّ هذا السيناريو لم يحدث: فقد حقَّق فيلم «أضواء المسرح» نجاحًا كبيرًا في جميع أنحاء العالم، باستثناء أمريكا حيث تعرَّض للمقاطعة74، وقرَّر تشابلن ألَّا يعود للعيش في أمريكا أو العمل على أراضيها. عبَّر تشابلن عن هذا القرار في بيانٍ صحفيٍّ صدر في أبريل عام 1953.75 ومع زوجته وأبنائه استقرَّ تشارلي في قصرٍ سويسري حيث بقي هناك حتَّى وافته المنيَّة في ديسمبر من عام 1977. من المؤكَّد أنَّ اختيار هذا البلد لم يكن عشوائيًّا: فتشابلن الذي واجه طوال مسيرته مشاكل مع مصلحة الضرائب الأمريكيَّة76، كان أيضًا حريصًا على إيجاد السلام في بلدٍ محايد. وفي عام 1954، تخلَّت أونا عن جنسيَّتها الأمريكيَّة وسلَّمت جواز سفرها.، وقرَّر تشابلن ألَّا يعود للعيش في أمريكا أو العمل على أراضيها. عبَّر تشابلن عن هذا القرار في بيانٍ صحفيٍّ صدر في أبريل عام 1953. ومع زوجته وأبنائه استقرَّ تشارلي في قصرٍ سويسري حيث بقي هناك حتَّى وافته المنيَّة في ديسمبر من عام 1977. من المؤكَّد أنَّ اختيار هذا البلد لم يكن عشوائيًّا: فتشابلن الذي واجه طوال مسيرته مشاكل مع مصلحة الضرائب الأمريكيَّة، كان أيضًا حريصًا على إيجاد السلام في بلدٍ محايد. وفي عام 1954، تخلَّت أونا عن جنسيَّتها الأمريكيَّة وسلَّمت جواز سفرها.
سيُخرجُ تشابلن في سنوات حياته الأخيرة فيلمين كان أوَّلهما هو الأكثر تأثيرًا، حيث جسَّد فيه كلَّ مشاعر الاستياء التي يحملها تجاه المؤسَّسات الأمريكيَّة وما رآه بداخلها من نفاق. هذا الفيلم هو «ملكٌ في نيويورك» (A King in New York) الذي جرى تصويره في لندن، ويروي قصَّة ملكٍ أوروبيٍّ مخلوعٍ يدعى شاهدوف، ويختار الولايات المتَّحدة كمنفى له. يجسِّدُ تشابلن نفسه شخصيَّة شاهدوف، وتكتسي كلماته نبرة ساخرة واضحة عندما يستقبله الصحافيُّون فور وصوله إلى الأراضي الأمريكيَّة، بحيث يقول: «أنا متأثِّرٌ بشدَّةٍ بهذه الحفاوة البالغة والضيافة الصادقة. لقد أظهرت هذه الأمة ذات القلب الكبير سخاءها النبيل تجاه أولئك الذين يأتون باحثين عن ملجأ في وجه الطغيان». وكلُّ ما تبقَّى من الفيلم هو نقيض هذه الأقوال بالفعل.
من خلال ردود فعل شاهدوف، يوجِّه تشابلِن سهامَه الحادَّة نحو الثقافة الجماهيريَّة الأمريكيَّة (الإعلانات، التلفزيون وأيضًا السينما) وعلى مجتمعٍ يقدِّمه كمجتمعٍ عنيفٍ وصاخبٍ وفاحش. ومع ذلك، وكونه ضحيَّة مشاكل ماليَّة، يقبل الحاكم الأوروبي بالدخول في هذا الإطار، ويشارك في تصوير إعلانٍ تافه، بل ويخضع أيضًا لعمليَّةٍ جراحيَّةٍ تجميليَّة.
كما يلتقي أيضًا بروبِّرت، وهو فتى مذهلٌ في العاشرة من عمره، ذو آراء سياسيَّة حادَّة ويقرأ ماركس. يسأله شاهدوف إن كان شيوعيًّا فيجيبه روبِّرت: «هل عليَّ أن أكون شيوعيًّا كي أقرأ ماركس؟». عندئذٍ يسأله الملك عمَّا يكون بما أنَّه ليس شيوعيَّا، فيجيبه الفتى: «لا شيء»77. هذا هو ما انتُقِدَ عليه تشابلن طيلة حياته: ألا وهو عدم عدم إثباته أنَّه ليس شيوعيًّا من خلال إعلان انتمائه إلى أيديولوجيا أخرى أو حزبٍ آخر. أمَّا الفتى، والذي يؤدِّي ابنه الأكبر مايكل دوره، فهو في الحقيقة يتحدَّث بلسان المُخرج، حيث يعبِّرُ عن استنكاره لسلوك السلطات الأمريكيَّة وغياب حريَّة المواطنين في هذا البلد.
روبِّرت على درايةٍ بما يقوله: فقد استُدعي والداه للمثول أمام لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا. غير أنَّ الأب، والذي يرفض الوشاية بأيِّ شخص، قد اتُّهِمَ بازدراء الكونغرس. بالتالي لم يكن أمام الفتى من خيارٍ سوى الإبلاغ عن أشخاص آخرين لإخراج والدَيه من السجن، وهو ما عاشه كأزمةٍ حقيقيَّةٍ ومأساةٍ شخصيَّة. لم تكن كلمات مدير مدرسته، الذي يهنِّئه ويصفه بـ "البطل" و "الوطني الحقيقي"، كافيةً لإعادة الابتسامة إلى وجهه. المشهد الأخيرُ يظهرُ شاهدوف راضيًا عن نفسه، عائدًا إلى بلاده بعدما ملأ جيوبه دون أن يكترث للأخلاق78، تاركًا خلفه طفلًا أمريكيًا يائسًا فقد كلَّ توهُّماته.
وكونه يحملُ نقدًا لاذعًا للمكَّارثيَّة، لم يُعرض فيلم «ملكٌ في نيويورك» في الولايات المتَّحدة حتَّى عام 1976؛ وكان تشابلِن قد استبعد الصحفيِّين الأمريكيين من العرض الأوَّل في باريس. وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول بأنَّ المنتج، بحكم إقامته وعمله في أوروبَّا، قد خفتت خلافاته مع أمريكا. كان مكروهًا إلى هذا الحدِّ في بلده الثاني لدرجة أنه بين عامي 1958 و1972، أُزيلت نجمته من "ممشى المشاهير" في لوس أنجلوس. ومع ذلك، وفي عام 1972، حصل تشابلن على جائزة أوسكار الفخريَّة في هوليوود، والتي قبِلها بامتنانٍ كبيرٍ وتأثُّرٍ عميق، بيد أنَّ هذا التصالح المتأخِّر للغاية يؤكِّدُ أنَّ العلاقة بين تشابلن والولايات المتَّحدة كانت دائمًا متوتِّرةً ومليئةً بالتناقضات.
خلاصة:
في خياراته الفنيَّة كما في حياته الشخصيَّة، تميَّز تشابلن دائمًا بالسير عكس التيَّار79. يلخص تشابلِن هذا الوضع وعواقبه بشكلٍّ جيِّدٍ عندما يكتب: «سألني أصدقائي كيف انتهى بي الأمر إلى جذب هذه العداوة من الأمريكيين. خطيئتي الكبرى كانت، ولا تزال، أنَّني غير متوافقٍ مع التيار». استُقبِل تشابلِن بالأذرُع المفتوحة ثمَّ طُرِد، ظلَّ غريبًا أبدًا في أمريكا كما في سويسرا، ودفع غاليًا ثمن مواقفه.
منذ بواكر الثلاثينات، كان المشاهدون والنقَّاد، المتأثِّرين بكلِّ المقالات التي تتفاوت مصداقيَّتها حول الحياة الخاصَّة بتشابلن، يميلون إلى الخلط بين شخصيَّته العامَّة وشخصيَّته كفنَّان، كما أنَّ العلاقات العاطفيَّة للمخرج مع بلده الذي تبنَّاه تفسِّرُ وحدها لماذا لم تُتَلقَ بعض أفلامه البارزة على نحوٍ جيِّدٍ في البداية، وأنَّه استغرق سنواتٍ كي تُقدَّر تقديرًا عادلًا. حتَّى أنَّ ميشيل شيون يتحدَّث عن ما يسمَّى بـ "ظاهرة تشابلن"80، مما يُظهر إلى أيِّ مدى كان الرجل والمخرج لا ينفصِلان عن بعضهما بعضًا. من الصحيح أنَّه يصعبُ دراسة الأفلام دون أخذ حياة منتجها في الاعتبار؛ وفي حالة تشابلن، من المستحيل عدم ربط موقفه المتطرف داخل الأمَّة الأمريكية بمحتوى أفلامه.
كمخرجٍ على هامش التيَّار، لا شكَّ أنَّه الشخص الذي أثار أكبر قدرٍ ممكنٍ من الإعجاب لدى الجمهور، وفي الوقت نفسه كان الأكثر تعرُّضًا للتشهير والكراهية، ممَّا يُثبتُ أنَّ الحلمَ الأمريكي كان يمكنُ أن يتحوَّل بسرعةٍ إلى كابوسٍ في الولايات المتَّحدة خلال الأربعينات والخمسينات. في العدد الخاص من مجلَّة Cahiers du cinéma والمعنون بـ «السينما الأمريكيَّة» (Cinéma américain)، يكرِّمُ جان لوك غودار عبقريَّة تشابلن وشخصيَّته الفريدة حين كتب قائلًا:
إنَّه فوقَ كلِّ مديحٍ لأنَّه الأعظم. (...) بدايةً من اختلاق اللقطة في فيلم «البطل» (The Champion) وصولًا إلى اختلاق السينما الواقعيَّة في الخطاب الأخير من فيلم «الديكتاتور العظيم»، ظل تشارلز سبنسر تشابلن، بينما كان على هامش السينما، يملأ هذه الهوامش بأكثر من كلِّ ما أنجزه باقي المخرجين مجتمعين في بقية صفحات الكتاب. (...) وأي تكريمٍ أجمل (...) من أن يُقال عن فنَّانٍ سينمائيٍّ هذا الاقتباس من روسِلليني بعد مشاهدة فيلم «ملكٌ في نيويورك»: «إنَّه فيلمٌ لرجلٍ حر».81
الهوامش:
1. أو المتشرِّد، بحسب بعض اللغات.
2. أنظر: J. Larcher, Charlie Chaplin, Paris, Cahiers du cinéma / Le Monde, 2007, p. 88.
المصدر السابق نفسه. في الواقع، كان تشابلن حريصًا جدًا على استقلاليَّته لدرجة أنه في عام 1919، اتخذ كلٌّ من ماري بيكفورد، دوغلاس فيربانكس، د.و. غريفيث، وهو نفسه، «موقفًا ضد نظام توزيع الأفلام الهوليوودي، الذي كان يهدد بتكوين احتكار.3. وأعلنوا أنهم مُستغلون، مثلهم مثل باقي النجوم - رغم الأجور المرتفعة التي يتقاضونها». وهكذا أسسوا شركة مجموعة الفنانون الإعلامية المتحدة (United Artists) «بهدف توزيع أفلامهم بأنفسهم وأفلام الفنانين الآخرين الراغبين في الانضمام إليهم». أنظر: D. Robinson, Charlot : entre rire et larmes, Paris, Gallimard, 1995, p. 57-58.
4. أنظر: Ch. Chaplin, Histoire de ma vie, Paris, [Robert Laffont] Le Livre de Poche, [1964] 1966, p. 160.
5. المرجع نفسه، ص164.
6. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », in J. Magny (dir.), Chaplin aujourd’hui, Paris, Petite bibliothèque des Cahiers du cinéma, 2003, p. 10-11.
7. المرجع نفسه.
8. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 183.
9. المقصود بهذا المصطلح هو "الهوس بتشابلن" (Chaplinmania)، وهي ظاهرةٌ شهدها العالم في أوائل القرن العشرين، حيث أُعجب العالم بالكوميديان البريطاني تشارلي تشابلن، خاصة بشخصية "الصعلوك" (The Tramp)، التي جسدت البساطة والإصرار. تميزت أفلامه بالكوميديا الجسدية مع معالجة قضايا اجتماعية كالفقر والعدالة، مما أكسبها تأثيرًا عالميًا. ساهمت وسائل الإعلام في تعزيز شعبيته، إذ قلد الناس حركاته وارتدوا أزياءه الشهيرة. استمر إرثه بإلهام الفنانين مثل روان أتكينسون (المشهور بشخصيَّة "مستر بين")، وأصبحت أعماله جزءًا مهمًا من تاريخ السينما والكوميديا (المترجم).
10. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 9.
11. المرجع نفسه، ص11.
12 أنظر: N. Simsolo, « Chaplin et ses images », in J. Magny (dir.), op. cit., p. 38
13 أنظر: J. Larcher, op. cit., p. 34-35.
المرجع نفسه، 14.62.
15. أنظر: J. Magny, « Les Temps modernes », in J. Magny (dir.), op. cit., p. 239.
16. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 542.
17 أنظر: M. Lapeyssonnie, Charlot prend la parole aux mots, Lyon, Aléas, 2008, p. 115.
18. المرجع نفسه، ص113.
19. السينماسكوب (Cinemascope) هو نظام تصوير وعرض سينمائي تم تطويره في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ويُعدّ من التقنيات الرائدة التي ساهمت في انتشار الأفلام ذات الشاشات العريضة. قدمته شركة 20th Century Fox لأول مرة عام 1953 مع فيلم «الفستان» (The Robe). يعتمد النظام على عدسات أنامورفيك تقوم بضغط الصورة أفقياً أثناء التصوير وتوسيعها مجددًا عند العرض، مما يسمح باستخدام كامل عرض الشاشة دون فقدان الجودة. أحدث سينماسكوب ثورة في تجربة المشاهدة السينمائية، حيث قدم تجربة بصرية أوسع وأكثر إبهارًا، وساهم في جذب الجماهير إلى دور السينما في مواجهة انتشار التلفزيون. استُخدم النظام حتى أواخر الستينيات قبل أن تُستبدل به تقنيات أحدث (المترجم).
20. حول فيلم «أضواء المدينة» الصادر عام 1931، كتب ميشيل شيون: «باعتباره فيلمًا صامتًا صدر في ذروة ازدهار السينما الناطقة، سيظل العمل بمثابة فعل مقاومة فريد من نوعه تقريبًا». أنظر: M. Chion, Les Lumières de la ville, Charles Chaplin : étude critique, Paris, Nathan, 1994, p. 16.
21. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 57.
22. أنظر: N. Simsolo, op. cit., p. 42.
23. أنظر: J. Larcher, op. cit., p. 62.
24. المرجع نفسه، ص 63.
25. المرجع نفسه، ص 62.
26. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 77.
27. التايلورية (Taylorism) هي منهجية في الإدارة والتنظيم الصناعي طوّرها فريدريك وينسلو تايلور في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان الهدف الرئيسي لهذه المنهجية هو زيادة الإنتاجية والكفاءة في العمل من خلال تحليل العمل وتجزئته إلى مهام صغيرة ومحددة يمكن تحسينها بشكل علمي. قام تايلور بدراسة حركة العمال وتوقيت العمليات، ثم اقترح تقنيات لتسريع الإنتاج وتقليل الهدر في الجهد والوقت، مع التركيز على تحسين الأدوات والآلات المستخدمة. تم تطبيق التايلورية على نطاق واسع في الصناعات الكبرى مثل صناعة السيارات، حيث كان لها دور كبير في تحسين إنتاجية الشركات مثل فورد. ورغم نجاحاتها في زيادة الكفاءة، تعرضت التايلورية لانتقادات بسبب تقليص دور العامل إلى مجرد آلة بشرية، مما أدى إلى تدهور ظروف العمل والشعور بالاغتراب (المترجم).
28. الكساد الكبير (The Great Depression) هو أزمة اقتصادية عالمية بدأت في عام 1929 واستمرت طوال ثلاثينيات القرن العشرين، وتُعتبر من أكبر وأطول الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث. بدأت الأزمة بانهيار سوق الأسهم في الولايات المتحدة، المعروف بـ"الخميس الأسود" في أكتوبر 1929، مما أدى إلى إفلاس الشركات والبنوك، وانخفاض الإنتاج الصناعي والزراعي بشكل حاد. عانت العديد من الدول من ارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم الفقر والجوع، وازدياد عدد المشردين. كان لهذه الأزمة تأثيرات عميقة على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأدت إلى تغييرات جذرية في نهج الحكومات تجاه التدخل في الاقتصاد، مثل "الصفقة الجديدة" التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (المترجم).
29. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 86.
30. أنظر: M. Chion, op. cit., p. 8.
31. أنظر: B. Eisenschitz, S. Toubiana et Ph. Truffault, Modern Times, The Great Dictator, Monsieur Verdoux, CNC Images de la Culture, 2003 (DVD documentaire).
32. قضية لاندرُو (Affaire Landru) هي واحدة من أشهر القضايا الجنائية في فرنسا خلال القرن العشرين، تعود إلى هنري ديزيريه لاندرُو Henri Désiré Landru (1869 - 1922)، المعروف بـ"زير النساء القاتل". كان لاندرُو محتالًا ارتكب جرائم قتل بين عامي 1915 و1919، حيث استهدف النساء الأرامل أو العازبات الثريات اللاتي فقدن أزواجهن في الحرب العالمية الأولى. كان يتعرف عليهنَّ من خلال إعلانات الزواج، ثم يستدرجهن إلى منزله في بلدة غامبيِه، حيث يقتلهن ويحرق جثثهن لإخفاء الأدلة. تم اتهامه بقتل 11 ضحية، رغم أن الأدلَّة المادية كانت ضعيفة، وأثارت القضية اهتمامًا إعلاميًا واسعًا، وتمت محاكمته عام 1921، حيث دافع عن نفسه بشدة، لكنه أُدين وأُعدم بالمقصلة عام 1922. وقد أصبحت قصته رمزًا للجريمة المنظمة والخداع، وخلّدت ذكراه في الأدب والسينما الفرنسية (المترجم).
33. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 611.
34. المرجع نفسه، ص 623.
35 أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 91.
36. المرجع نفسه، ص 92.
37. المرجع نفسه.
38. أنظر: J. Larcher, op. cit., p. 76.
39. أنظر: B. Eisenschitz, S. Toubiana et Ph. Truffault, op. cit.
40. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 9.
41. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 93.
42. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 16.
43. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 628.
44. المرجع نفسه، ص 634. وفي نفس السياق عام 1927، وفي غمار الفضيحة التي أثارها تطليقه لـ ليتا غراي، «(...) حظرت عدَّة ولايات أمريكية وبعض المقاطعات الكندية عرض أفلام تشابلن. فجأة اكتشف الجميعُ أنَّ جميع أعماله تحمل نفحاتٍ من الفوضوية وعدم الأخلاقية. بل وتمَّت محاولة طرد والدته من البلاد». أنظر:N. Simsolo, op. cit., p. 40.
45. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 12
46. المرجع نفسه.
47. المرجع نفسه، ص13.
48. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 69
49. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 423-424.
50. أنظر: N. Simsolo, op. cit., p. 43.
51. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 13
52. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 88
53. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 13.
54. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 88
55. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 582
56. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 88.
57. المرجع نفسه.
58. قانون مان (Mann Act) هو تشريع فيدرالي أمريكي صدر في عام 1910، يُعرف رسميًا باسم "قانون تجارة الرقيق الأبيض" (White-Slave Traffic Act). صُمم القانون لمكافحة الاتجار بالبشر، خاصة تهريب النساء عبر حدود الولايات لأغراض الدعارة أو أي أنشطة جنسية أخرى غير قانونية. اكتسب القانون شهرة واسعة بسبب تطبيقه المثير للجدل على مدى العقود، حيث استُخدم أحيانًا لتوجيه اتهامات في قضايا سياسية أو شخصية، بما في ذلك علاقات جنسية بالتراضي. من أشهر القضايا المرتبطة بهذا القانون قضية لاعب البيسبول جاك جونسون، التي أثارت الجدل بشأن التمييز العنصري (المترجم).
59. المرجع نفسه.
60. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 594
61. أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 88
62. أنظر: N. Simsolo, op. cit., p. 45
63. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 15.
64. يُطلقُ هذا المصطلح (بالإنكليزيَّة witch hunt) على الحقبة التي عُرِفت في أمريكا بـ "المكارثيَّة" (بالإنكليزيَّة McCarthyism)، وهي حقبة سياسية في أمريكا خلال خمسينيات القرن العشرين، قادها السيناتور جوزيف مكارثي، وشهدت حملة ضد المشتبه بارتباطهم بالشيوعية أو الأنشطة "غير الأمريكية". تميزت بجلسات استماع علنية واتهامات غالبًا بلا أدلة، مستهدفة سياسيين وفنانين وأكاديميين، في أجواء من الخوف والشك بسبب الحرب الباردة. أدت الحملة إلى فقدان الوظائف وتشويه السمعة دون محاكمات عادلة. بلغت ذروتها بجلسات متلفزة كشف فيها مكارثي عن قوائم مزعومة. انتهت بتوبيخه من مجلس الشيوخ عام 1954، لكنها أثارت جدلاً دائمًا حول الحريات المدنية وحقوق الأفراد (المترجم).
65. أنظر: J. Larcher, op. cit., p. 77-78.
66. هذا الخطاب مستنسخٌ في العمل الذي أعدَّه جويل مانيي. أنظر: J. Magny, op. cit., p. 130-133
67. من ناحية أخرى، يشير تشابلِن إلى أنَّه جرَّ على نفسه «كلَّ هذه المتاعب» من خلال «تقديم خدمة [للحكومة الأمريكية] »، حيث كانت أولى تدخُّلاته لصالح روسيا بناءً على طلبها. فقد وافق على استبدال السفير الأمريكي في موسكو، الذي كان من المفترض أن يلقي خطابًا خلال مظاهرة لدعم الإغاثة الحربية لروسيا لكنه كان مريضًا. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 642.
68. بالإنكليزيَّة House Committee on Un-American Activities، وهي لجنة دائمة في مجلس النواب الأمريكي تأسست عام 1938 للتحقيق في الأنشطة التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، خاصة تلك المرتبطة بالشيوعية والفاشية. اشتهرت خلال فترة الحرب الباردة، حيث ركزت على كشف النفوذ الشيوعي في المؤسسات الأمريكية مثل الحكومة وهوليوود والاتحادات العمالية. أُثارت جلسات الاستماع الجدل بسبب اتهامها بانتهاك الحريات المدنية وخلق أجواء من الخوف. من أبرز الأحداث كان التحقيق مع شخصيات هوليوودية في 1947، مما أدى إلى إدراج العديد في "القائمة السوداء". أُلغيت اللجنة عام 1975، لكن تأثيرها ظل مثيرًا للجدل. (المترجم).
69. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 14.
70. أنظر: J. Larcher, op. cit., p. 73
71. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 624-625.
72. المرجع نفسه، ص 640-642.
73. أنظر: J. Magny, « Chaplin et l’Amérique », op. cit., p. 15.
74. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 653.
75. للاطِّلاع على نصِّ هذا البيان الصحفي، أنظر: D. Robinson, op. cit., p. 101
على سبيل المثال يوضح تشابلن: «أرادت مصلحة الضرائب الأمريكية فرض ضرائب عليّ عن كل ما حققه فيلم «أضواء المسرح» في أوروبا حتى عام 1955، مدعية أنني ما زلت مقيمًا في أمريكا، على الرغم من أنه تم منعي من دخول أراضي الولايات76. المتحدة». أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 675.
77. وفي وقتٍ لاحقٍ وبنفس السياق، يؤكِّد بوب ديلان في فيلم «لا اتِّجاه للمنزل» (No Direction Home) لـ مارتن سكورسيزي (2005) أن الدفاع عن المظلومين لا يعني بالضرورة الانخراط في السياسة. ففي أوائل الستينيات، كان ديلان قد دافع عن الحقوق المدنية للسود، لكنه واجه أيضًا اتهامات بالشيوعية.
78. ربما تكون هذه الصورة ذات طابع رمزي وساخر مزدوج: قد يكون تشابلن يمارس نوعًا من السخرية الذاتية هنا، من خلال إظهار الطريقة التي فسّر بها بعض الأمريكيين منفاه في سويسرا.
79. أنظر: Ch. Chaplin, op. cit., p. 652.
80. أنظر: M. Chion, op. cit., p. 106.
81. أنظر: N. Simsolo, op. cit., p. 47-48.
المراجع:
- Charles CHAPLIN, Histoire de ma vie, Paris, [Robert Laffont] Le Livre de Poche, [1964] 1966.
- Michel CHION, Les Lumières de la ville, Charles Chaplin : étude critique, Paris, Nathan, 1994.
- Edgardo COZARINSKY et Jérôme DE MISSOLZ, Limelight, A king in New York, CNC Images de la Culture, 2002 et 2003 (DVD documentaire).
- Bernard EISENSCHITZ, Serge TOUBIANA et Philippe TRUFFAULT, Modern Times, The Great Dictator, Monsieur Verdoux, CNC Images de la Culture, 2003 (DVD documentaire).
- Mariange LAPEYSSONNIE, Charlot prend la parole aux mots, Lyon, Aléas, 2008.
- Jérôme LARCHER, Charlie Chaplin, Paris, Cahiers du cinéma / Le Monde, 2007.