النقد

تجليات القضية الفلسطينية في «ليباوسكي الكبير»: قراءة في الرمزية والمضامين

يشتهرُ الأخوان كوين بأعمالهما السينمائيَّة التي تحملُ صبغةً فلسفيَّةً ورمزيَّةً عالية، كما يظهرُ في أفلامٍ لهما على غرار «فارغو» (1996) Fargo و«بارتون فينك» (1991) Barton Fink. لكن رغمَ هذه الرمزية، غالبًا ما بقيت أفلامهم بعيدةً عن الخوضِ المباشر في القضايا السياسيَّة. مع ذلك، شكل فيلم «ليباوسكي الكبير» (1998) The Big Lebowski استثناءً هامًا، حيث يقدِّمُ رؤيةً سياسيَّةً عميقةً ومبطَّنةً تتجلى في إشاراتٍ ورموزٍ متعدِّدة. من خلال هذا الفيلم، يعكسُ الأخوان كوين رؤيتَهما لمعضلةٍ سياسيَّةٍ شائكة، ألا وهي القضيَّة الفلسطينية، وذلكَ ضمنَ إطارٍ من الكوميديا السوداء والدراما المليئة بالإشارات الرمزية.

العتبة: "ما الذي يصنع الرجل؟"

تمثِّل العتبةُ الأولى للفيلم قاعدةً رمزيَّةً تنطلق منها الحجَّةُ السرديَّة. في مشهدٍ افتتاحي، يطرحُ ليباوسكي الكبير سؤالًا محوريًا: "ما الذي يصنعُ الرجل؟" فيجيب: "أن يفعل الصواب". هنا يضعُ الأخوان كوين أساسًا فلسفيًّا لأحداث الفيلم، مشيرين إلى أهميَّة تحمُّل المسؤولية، حتى لو كانت تكلفتُها باهظة. هذا المشهدُ يدعو المتلقي للتأمُّلِ في جوهرِ الفيلم ورسائله، ويفتح الباب لفهم التزام المبدعين بنقلِ رسالةٍ مشفَّرةٍ تتجاوز سطحَ الكوميديا إلى عمقِ القضايا الإنسانيَّة والسياسيَّة.

النهج المسرحي: رمزية الحكاية الأزلية

يتخذ «ليباوسكي الكبير» شكلًا ملحميًا يتماشى مع المسرحيات الكلاسيكية، حيثُ يقدِّمُ الراوي العليم القصةَ والشخصيَّات وينهيها بخاتمةٍ متماسكة، كما تفعل الجوقة المسرحية في الأعمال الكلاسيكية. في هذا الفيلم، يقع الاختيار على الراوي كشخصيَّةِ راعي بقرٍ أمريكيٍّ شعبويٍّ بدلًا من جوقةٍ إنجليزيَّةٍ فخمةٍ تتكلَّمُ بلغةٍ شعريَّةٍ مليئةٍ بالإشارات كما هو المعتاد. في هذا الاختيار يكسر الأخوان كوين التقاليد، وبذلك يُضفونَ بعدًا شعبيًّا وسرياليًّا على الفيلم. أضف إلى ذلك إدخال الراوي في القصَّة كشخصيَّة راعي بقرٍ بشاربٍ كثٍّ يلتقي بـ "ذا دود" ويتكلَّم معه، وبهذه الحركة، ألا وهي كسر الجدار الرابع، تتَّضح رغبة المخرجَين جليةً في تحدِّي القوالب السينمائيَّة المعتادة، مشيرةً إلى رغبةِ الأخوين بإحداثِ تغييرٍ في التقاليد والمعالم التي لطالما أحاطت بالقوالب السرديَّة الفنيَّة، وإيصالِ رسالةٍ إلى المتلقِّي مفادُها أنَّ المخرجَ والكاتبَ غيرُ مهتمَّيْن حقًا بكسر أيِّ قيدٍ من أجل التعبير عن فنهما. أيضًا يُعتبرُ اختيار شخصيَّةَ راعي البقر لتقديمِ القصَّة اختيارًا دقيقًا للغاية يعكسُ تأثُّر الأخوين بتيَّارِ الحداثةِ وأنماطِها، حيثُ إنَّ راعي البقر هو الشخصُ الذي تجري على لسانِه معظمَ أعمالِ الروائي الحداثوي الأمريكي الشهير ويليام فوكنر، الروائي الذي كان لهُ تأثيرٌ كبيرٌ على فنِّ الأخوَين لدرجة أنَّهما اقتبسا شخصيته (و.ب. مايهيو) في فيلمهما المهم «بارتون فينك». نستنتجُ من هذه التفصيلة أنَّ الأخوين كوين بصددِ الحديثِ عن قصَّةٍ أزليَّة (القالب الكلاسيكي للفيلم)، لكنَّها تحدثُ في وقتنا الحاضر هذا (أن يكون الراوي العليم راعي بقر).

معالم القضية الفلسطينية: قراءة في الرموز والإشارات

على الرغم من السرد الظاهري للفيلم، إلَّا أنَّ «ليباوسكي الكبير» يحمل إشاراتٍ رمزيَّةً متعدِّدةً تمثِّل خريطةً رمزيةً لمعالم القضيَّة الفلسطينية. من بين هذه الإشارات:

شخصية والتر سوبتشاك: أمريكا والصهيونية

يشير والتر، الجندي الأمريكي السابق، في أولى لحظات ظهوره في الفيلم إلى «تيودور هرتسل»، مؤسِّسُ الحركةِ الصهيونية، قائلًا: "إنَّها ليست حلمًا بعد الآن، إنَّها دولةُ إسرائيل". يستهلُّ والتر هنا بناءَ نفسِه كشخصيَّةٍ محوريَّةٍ في سياقِ الفيلم كصديقٍ مُحِبٍّ لبطلِ الفيلم "ذا دود"، وفي الوقت ذاته يبدأ بتمثيلِ نفسه كرمزٍ للولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل بشكلٍ أعمى رغم إيذاءِ إسرائيل لها وإحراجِها أمامَ المجتمعِ الدولي. ولكن كيف يمثِّل والتر سوبتشاك كلَّ هذه الأمور؟ تتجلَّى شخصيَّةُ سوبتشاك أمامَنا كجنديٍّ أمريكيٍّ عفا عليه الزمن، لا يبرح مكانًا حتى يُذكِّر نفسَه ومن حوله بفضائِله حينما كان جنديًا في فيتنام، ونراه أيضًا طليقًا لفتاةٍ يهوديَّةٍ جعلته يتركُ المسيحيَّة ويعتنقُ ديانتها، وحتى بعدَ الطلاق ما زالت تتحكَّم به وتجعله يرعى كلبَها بينما تنعم هي وزوجُها الجديدُ بعطلة ما. هذا التمثيلُ السرديُّ لشخصيَّة والتر سوبتشاك يوضح لنا القالبَ الرمزيَّ له، إذ يعكس أمريكا: الدولة التي تحارب كلَّ العالمِ دائمًا، والتي ترعى طليقَتها إسرائيل ولا تتركُها أو تتخلَّى عنها البتة.

الاعتداء على السجادة: سلب الأرض الفلسطينية

في بداية الفيلم، يعتدي غرباءُ على بطلِ الفيلم ذا دود ويتبوَّلون على سجَّادتِه دون سبب. لكن لماذا السجادة بالتحديد؟ يستطيعُ الغرباء أن يدنِّسوا أيَّ شيءٍ في بيتِ ذا دود. السجادة هنا ليست مجرَّد قطعةِ ديكور؛ بل إنَّها رمزٌ للأرضِ المسلوبة والمغتَصَبَة التي دُنِّسَت من أناسٍ غرباء، في حين أنَّ ذا دود، المواطنُ المسالمُ وبطل القصة، والذي لا يبدي تهجُّمًا طوالَ الفيلمِ على أيِّ شخص، يرمزُ إلى الشعبِ الفلسطيني الذي يطالب فقط بحقِّه المسلوب، دون أن يسعى للصراعِ أو التصعيد. بيد أنَّ محاولاته لاستعادةِ السجادة تقودُه إلى متاهةٍ من الأكاذيب والمؤامرات التي تديرُها شخصيات أخرى، أبرزها ليباوسكي الكبير، والذي يمثل القوى الاستعمارية التي زرعت إسرائيل وساهمت في تعقيدِ القضيَّة.

ليباوسكي الكبير وزوجته: أمريكا وإسرائيل

أمَّا شخصيَّة ليباوسكي الكبير، المحتالُ الذي يدَّعي العظمة بينما يعتمدُ على أموالِ زوجته الراحلة، فتمثِّل الوجهَ المخادِع لأمريكا، الوجهَ الآخر الذي يقوم بالأعمالِ القذرة وغير الأخلاقية بينما يدَّعي المثاليَّة أمام الناس. أمَّا زوجته الشابة اللعوب، والتي تسبِّب الأزمات وتخلقُ المشاكل، فهي تجسِّدُ إسرائيل. معًا يعملان على استغلال الآخرين وتوريطهم لتحقيقِ مصالحهما من سرقةٍ واختلاس، دون أدنى شعورٍ بالمسؤولية. وللمفاجأة، فإن الاثنين يعزوان جرائمَهما وأفعالَهما القذِرة إلى الألمان! إلى ثلَّةٍ من ممثِّلي الإباحية العدميِّين الألمان الذين اعتادت زوجة ليباوسكي الكبير أن تلهو وتلعبَ معهم. في هذه المقاربة نرى الشخصيات ووضوح مقصَد الأخوين كوين، إذ أنَّ مبرِّر إسرائيل لقيامها بكلِّ ما تفعله هو أنَّها تعرضت لمحرقةٍ قاسيةٍ من ألمانيا النازية، وهذه ليست حجَّةً حقيقيَّةً للقيام بأيِّ شيء، وإنما هي شمَّاعة تعلِّق إسرائيل عليها كلَّ المشاكل.

ثنائيات الزواج: أوجه أمريكا

إن ثنائية والتر سوبتشاك وزوجته، وليباوسكي الكبير وزوجته، هي نقطةُ تحوُّلٍ في محور القصَّة، وهي أيضًا، بصورةٍ أو بأخرى، أمريكا وإسرائيل وازدواجيَّة علاقتِهما. هذه الثنائيَّات ربَّما تتحدَّث عن اختلافيَّة تعاملُ الحزبِ الجمهوري والديمقراطي مع إسرائيل، أو ربما هي علاقة الشعب بإسرائيل وعلاقة الحكومة بإسرائيل. عمومًا، هذه الثنائية مفتاحٌ للعديدِ من عمليَّات التفسيرِ التي تقبلُ أوجهًا عديدة.

السجادة: الرمز المركزي

لا تُعدُّ السجادة مجرَّد تفصيلةٍ عابرة؛ إنَّها المحورُ الرمزيُّ الذي تدور حولَه القصة. إنَّ بُعدَها السيميائي يعكسُ الأرض والوطن، حيثُ تُظهر السجادة كيف أنَّ فقدان الأرض يجعلُ صاحبَها يدخلُ في دوامةٍ لا تنتهي من المشاكل، تمامًا كما هو حالُ الشعبِ الفلسطيني الذي نُهِبَت أرضه. نرى في السجادة فكرةً خصبةً تربطُ كلَّ الفيلم ببعضه، نراها تارَّةً مسروقةً من بيتِ ليباوسكي الكبير، نراها مرَّةً أخرى في بيتِ ابنته مولي، وتبقى على هذا الحال حتى يضيعُ دمها بين القبائل، كما حدثَ لأرضِ فلسطين المسلوبة.
ختاماً، ليس «ليباوسكي الكبير» مجرَّد فيلمٍ كوميدي؛ إنَّه عملٌ فنيٌّ مشحونٌ بالرمزيَّة والرسائلِ السياسيَّة. من خلالِ بناء شخصيَّاتٍ معقَّدةٍ وأحداث متشابِكة، يقدِّم الأخوان كوين نقدًا لاذعًا للسياسة الأمريكيَّة ودورِها في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. عبر الفيلم، يكشفُ المخرجان كيفَ أنَّ هذه القضيَّة تمثِّل معضلةً أخلاقيَّةً مستمرَّة، حيثُ تظلُّ الضحيَّة الحقيقيَّة، مثل ذا دود، تعاني في صمتٍ وسطَ زحام المصالحِ والاعتداءات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. ياسر سبعاوي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا