«نحو مستقبل مستقل تُقتسم فيه السلطة، يمكن أن تُستبدل فيه العلاقات الهرمية بعلاقاتٍ مبنية على التبادل المؤسس على احترام عميق للإنسانية والترابط الكوني» أليس لافي
لا يمكن فهم الإشارات النسوية واللاهوتية في فيلم «عيد بابيت» (1987) - Babette's Feast دون الرجوع إلى حياة الكاتبة كارين بليكسن، بالإضافة إلى أعمالها الأدبية، إذ إننا في فهم السينما المشتقة من القصص والروايات، لا نعود إلى الصانع المخرج في البدء، بل نتعرض للفيلم وننقده وفقًا لنظريات النقد الأدبية، بما أنها مادة الفيلم الأساسية الخام قبل التحويل إلى السيناريو والصورة، لأنه مهما تمت تعرية الفيلم من ملامحه الأدبية ظاهريًا، فإننا وبوضوح، نرى الأساس دومًا مطبوعًا في جوانبه، وهذا مجرد سبب ثانوي لتركيزي على الكاتبة وأدبها بل وحتى خطاباتها. إن السبب الرئيسي والأول هو أنني أستدل بتاريخ الأديبة كارين لأبين مدى تأثر الفيلم بأفكارها النسوية، وأتتبع ما جاء في كتبها ورواياتها لأثبت صحة تلك العلامات، ومدى تأثر القصة التي بُني عليها الفيلم، وبالرغم من أن تلك المنهجية قاصرة -نوعاً ما- إذا ما استخدمت في المجال السينمائي، إلا أنني أزعم بأنها أنسب ما يكون لهذا الفيلم بالذات، إذ أن التركيز على الكاتبة هنا والنظر في تصريحاتها ليس محاولة عبثية لتسليط الضوء على شخصها، بقدر ما هو وسيلة تفضي إلى فهم أعمق وأدق، ومنظور أوسع لرسالة فيلم «عيد بابيت»
عاشت كارين بليكسن -كاتبة القصة- حياة متقلبة، وكانت تكتب تحت اسم إسحاق دنسن لفترة طويلة وهو ما اشتهرت به، حيث وُلدت في السابع عشر من إبريل عام 1885 في الدنمارك، منحدرة من عائلة أرستقراطية. ابتدأت معاناتها في عمر العاشرة حين انتحر والدها بعد أن أنجب فتاة خارج إطار الزواج، وبسبب تلك الحادثة ترعرعت في كنف أمها، في بيئة تسودها التقاليد الدينية وبعض الخطابات النسوية الحقوقية التي كانت تلقي بها عمتها بين حين وآخر. تزوجت من أخ الرجل الذي تحب، وفي سنة الزواج الأولى نقل إليها مرض الزهري إثر خياناته المتعددة، وحين أحبّت شخصًا آخر غيره، الصياد الإنجليزي دينيس فينش هاتون، تُوفي في حادث تحطم طائرة، ورافقها تعثر أعمالها في البُن بعد الكساد العالمي. خلال تلك الأحداث المتغيرة، تنقلت «البارونة» كثيرًا بين البلدان، حيث عاشت فترة طويلة في شرق إفريقيا قبل أن تعود إلى الدنمارك، وبدأت تكرس نفسها للكتابة بجدية. نشرت عديدًا من الأعمال التي نالت إعجاب الجمهور ولاقت التقدير، من أبرزها «خارج إفريقيا» (1985) و«عيد بابيت» (1987) الحائز على الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية وكلا العملين تحولا إلى أفلام عظيمة.
«خارج إفريقيا».. وأخرى
في أعمال كارين الأدبية، نلاحظ إسهابًا في توصيفها للطبيعة على نحو تفصيلي؛ لأنها في الأصل طالبة فنون، وامرأة حساسة وعاطفية وتحب الموسيقى، إذ تقول عن حبها للرسم: «لقد كشف لي الرسم باستمرار الطبيعة الحقيقية للعالم. لقد واجهت دائمًا صعوبة في رؤية كيف يبدو المشهد حقًا ما لم يعطني رسام عظيم مفتاحه»، وقد نالت إعجاب الكاتب همنغواي الذي كان من أشد المحبين لأسلوبها الأدبي الرصين، وانطلاقاً من خلفيتها الفنيّة وحساسيتها العالية فلقد كانت جيدة جدًا في فهم المجتمعات المعزولة، وفهم تركيبتها الاجتماعية حين تقدمها في إطار سوسيولوجي عميق وسلس، مثل ما يتضح في أشهر رواياتها «خارج إفريقيا» والتي أُخذ عنها فيلم «خارج إفريقيا» الحائز على جائزة الأوسكار عام 1958. كتبت بليكسن في تلك الرواية عن الفترة التي عاشتها في كينيا من خلال معاشرتها للقبائل الأفريقية هناك. لقد كانت الرواية مليئة بالخطابات النسوية واللاهوتية على حد سواء وعلى نحو متفق مع سياقات وحقيقة هؤلاء الأشخاص المسلمين منهم والمسيحيين، ففي فصل «نساء صوماليات» من الرواية ذاتها كانت تقول: «لدى كل النساء الصغيرات شعور بقيمتهن، إذ لا يمكن لعذراء من أتباع محمد أن تتزوج برجل دون مستواه». كانت تضع المرأة في سياقاتها، بل الإنسان عمومًا، على نحو منضبط، وأجادت قراءة وضع النساء من حولها وتوصيفه بدقة كما جاء في قولها: «في هذا العالم النسائي المغلق، إن جاز القول، فيما وراء حوائطه وحصونه، كنت أشعر بوجود هدف عظيم، من دونه لن تستمر القوات الحامية في عملها بهذا الوهج؛ فكرة الألفية حيث ستحكم النساء، ويتولين السلطة في هذا العالم. في مثل تلك الأزمان، سيتخذ نموذج الأم القديم شكلاً جديدًا، وستجلس متوجة بوصفها رمزًا داكنًا ضخمًا لتلك القدرة الألوهية الأنثوية التي وُجدت في الأزمنة القديمة، قبل عصر الرسل. لم يغب نظرهم عنها قط، ولكنهم قبل كل شيء، أناس عمليون حريصون على احتياجاتهم اللحظية، مستعدون بشكل لانهائي لتلبية تلك الاحتياجات». ومن خلال ذلك الوصف، يتضح لنا موقفها تجاه المرأة المتدينة والذي تتفق معه تماماً بل وتسلط الضوء عليهن بشكل نسوي مباشر، إذ كشخص عاشر تلك المجتمعات لفترة طويلة، قد أحسنت كارين الكتابة عن المرأة في تلك البلاد دون وصم سلبي أو استشراقي، بل إنها حاولت كتابته بحساسية وحذرٍ شديدين، وأسهبت في استعراض أدق التفاصيل عن حياة النساء الأفريقيات، ودورهن في مجتمعهن، آخذة بعين الاعتبار كل من التأثير الديني والعقائدي الذي شمل جوانب مختلفة من حياتهن البسيطة، وكيف عاشت هؤلاء النسوة متبعات النهج الديني كأسلوب أساسي يحكم حياتهن برضى واعتناق تام كما هو ظاهر.
أما في خطاباتها خارج الروايات والأدب، فلقد كانت لها رسالة موجهة إلى خالتها ماري عام 1962 جاء فيها ما ينفي أي اتهامات باطلة، تدعي تغيرًا في مواقفها تجاه المرأة والحركة النسوية كما أشيع عنها في تلك الفترة، مثبتةً فيها اتساقها مع كل ما كتبت سابقاً، ومعلنة اتفاقها الصريح مع الحركة النسوية بقولها: «أعتقد أن الحركة النسوية ربما ينبغي اعتبارها الحركة الأكثر أهمية في القرن التاسع عشر، وأن الاضطرابات التي تسببت بها لا تزال بعيدة عن الانتهاء منها في اللحظة الحالية لأنها لم تصل إلى هدفها من خلال تمكين النساء من أن يصبحن محاميات وطبيبات وكهنة وما إلى ذلك من خلال قانون زواج جيد ومساواة في حقوق الميراث للنساء والرجال، كل هذه الأمور ليست سوى تجليات الحركة الأكثر عمقًا»(1).
فيلم «عيد بابيت».. نسوة راهبات
بالرغم من ارتباط الرهبنة بعديد من الأديان، وبالأخص المسيحية، حيث إن الكلمة ذاتها ودلالتها ترتبط بالدير والرهبان، فإن الرهبنة نفسها كانت محرمة على النساء المسيحيات. مثل أغلب الديانات، لم يكن هذا الدور موجهًا إلى النساء رسميًا، إذ إن الخطابات الدينية كانت تُفسَّر من قِبل الذكور ورجال الدين حصراً، الذين بدورهم كانوا يهمّشون دور المرأة في الكنيسة والواجبات الدينية، مما تسبب في تهميش المرأة وعزلها عن الأدوار الفعالة في الإطار الديني زيادة على ظلمها في العديد من التأويلات، وذلك تسبب كثيراً من احداث انتفاضة وارتداد الكثير من المسيحيات عن دينهن، كردة فعل ناشئة عن ذلك العزل والاضطهاد، لكن ماذا عن الذين لا يستطيعون الانفلات من تلك المجموعات، ولا يرون إمكانيةً لانفصال ذواتهم عن تلك الدعائم الروحية كالأديان؟ ماذا تفعل النساء في حالة كهذه؟ هل يستطعن التحرر من داخل المنظومة التي ساهم أفرادها باضطهادهن، أم أن الحلول الراديكالية دومًا ما تكون الخيار الوحيد؟
إلى حين 1977 لم تكن أي من الكنائس الكاثوليكية الرومانية ولا الأرثوذكسية تسمح بترسيم النساء، بسبب أنهن لم يكنّ معدّات لاهوتيًا، ولكن بعدها قد نجح المسار الحقوقي في إدخالهن مسار التعليم اللاهوتي(2) وصاحب ذلك عدة تغييرات أخرى في العديد من الأديان، قد تتباين النتائج حسب الدين نفسه وقابلية جماعته، إلا أنه يمكننا أن نرى تغييرات كبرى حصلت منذ بداية الحركات، فقلد زادت مشاركات المرأة لتولي القيادة الدينية الكهنوتية كما عند الكنيسة الأسقفية (لا أشير هنا لرهبنة النساء في فيلم «عيد بابيت»، لأن الرهبنة أصلاً في ذاتها محط نقد شديد وهي ممنوعة للطائفة البروتستانتية التي صوّرها الفيلم، ولكني أستخدم المصطلح -كما هو واضح- للإشارة إلى تشدد النساء في الفيلم والإعراض الشديد عن ملذات الحياة، الذي يشابه في جديّته وغلظته سلوك الرهبان). بالرغم من كثرة الانتقادات والتحفظات الشديدة على هذا التيّار النسوي سواءً من داخل الحركة النسوية ذاتها أو من المتدينين، إلا أنه يمكن القول بأنه صادر من منطلق انساني أولاً يؤمن بأهمية الروحانية للفرد بغض النظر عن نوعه الجندري، كما أن النسويات اللاتي آزرنَ هذا النوع من الحراك أو انطلقن منه قد دافعن عن حقهن الخاص بالعبادة وحريتهن العقائدية أي كان الدين الذي يتبعنه.
يصور فيلم «عيد بابيت»، الحائز على جائزة الأوسكار، مجتمعًا متدينًا بحذر وخفة. على النهج ذاته لا يقترب بشدة من الأوجه البشعة، حيث نراه مبتعدًا عن التراجيديا الحزينة، للمجتمعات المتزمتة دينيًا، بل كانت حبكة القصة تسير بشكل متفهم مسبقًا، ولكنه يكتفي بالسلبيات السطحيّة فقط. بالمقابل أيضًا لا يصور حياة المتدينين على أنها خالية من المشقة ومكتملة بالروحانية والمثاليات، بل إنه أكثر واقعية وحذرًا.
يستعرض الفيلم تفاصيل حياة عائلة صغيرة تنتمي إلى طائفة بروتستانتية تعيش في شمال الدنمارك. ابنتان لقسٍ شديد التدين، داخل مجتمع فقير شّكل التدين الشديد فيه ركيزة البقاء والتلاحم، وفي كل أسبوع يفتح القس بيته ليقدم أهالي القرية على طاولة طويلة، يترأسها هو بالطبع بحكم مكانته، وبجانبه الابنتان (فيليبا ومارتين) وبقية الضيوف، ويشرعون في غناء الترانيم. تقف الخادمة الصغيرة وراء الباب منتظرة الجماعة المغنية أن تصمت قبل أن تتخذ صمت الترانيم إشارةً لها لفتح الباب وتقديم الطعام، مما يظهر احترامًا شديدًا للمقدسات المقروءة.
أما الطعام، فلم يكن إلا آداة لسد الجوع لا الشبع. تبين لنا كاميرا «غابرييل أكسل» مظاهر التقشف والمحدودية في طريقة العيش، حين تلتف حول طريقة صنع تلك الوجبة الوحيدة التي يأكلونها، ابتداءً بالسمك المنشور على حبل الغسيل كأوعية بالية لغرض التجفيف، وتلك الطريقة معروفة لدى القبائل والقرى التي تعاني من الفقر وشح الموارد، إضافة إلى بضع خطوات أخرى غير النشر (تساعد على حفظ السمك و تخزينه لفترة طويلة تمتد لأشهر حتى مع غياب أجهزة التبريد) ومن ثم تنتهي الكاميرا الوثائقية بالخبز المنقوع في حساء لا «يُسمن ولا يُغني من جوع» وتلك المَشاهد تحمل في حقيقتها إعراضًا شديدًا عن الحياة وزهدًا في ملذاتها التي لم تكن في متناول اليد أصلا.
القس بدوره قد سخّر ابنتيه بدور بطريركي ديني في ظاهره، إذ لا بد من استشعار الخضوعية التي تتسم بها البنتان، فيليبا ومارتين، حيث تخدمان أهل القرية بإخلاص وتفانٍ عظيم، تطهوان الطعام، وتسيران في نهج لا تبدو عليه ملامح الاختيار، مثلما أنهما لا تبديان أي معارضة، ويتمثل ذلك في الإيماء المستمر الذي تبديانه عند أي شيء يُطلب منهما، الانصياع التام لتقاليد الجماعة وأوامر الأب، حيث تلبّيان رغبات الأب والمجتمع على نحو فدائي خالص، حتى على حساب حياتهن الخاصة مثل الحب والزواج، بل وحتى الثروة والشهرة. يطرح الفيلم قصتان رئيسيتان، وهما بمثابة خيار أو اختبار، نصل دائما معهما إلى نتيجة تتمثل في رفض الحافز مهما كان مثالياً! سواء كان علاقة حب، أو مال وشهرة ونفوذ، أو حتى تذكرة يانصيب…
إذ في قصة الحب الأولى، يصل جنرال شديد البأس إلى شمال الدنمارك لزيارة عمته، متجولاً على خيله، يلاحظ فتاة جميلة، فتتفتح بذور العشق بينهما، وهي عاطفة تتعارض مع أسلوب حياتها ومعتقداتها. وأثناء سعيه للاندماج في عالمها، يجد الجنرال نفسه وسط المتدينين، بلا حول ولا قوة وبشكل يتعارض مع شخصيته التي تنزع إلى التمرد يرى نفسه ينشد الترانيم ويجلس بجوار القس، ويتناول طعامهم الرديء، كله من أجل أن تلتفت إليه تلك الجميلة وليفوز فيها، إلا أن مساعيه لا تكون كافية للفوز بها كزوجة وإن كانت معجبة به أيضا، إذ تقابله مارتينا بالرفض بسبب تدخل والدها وانصياعه له -ظاهريًا- وهكذا، محملاً بخيبة الأمل، يعود إلى موطنه مجروحاً وخائباً من رفضها له.
أما في القصة الثانية وعلى نحو مطابق لقصة مارتينا في النهاية ولكن أكثر شاعرية في بداياتها، تنشأ مشاعر رومانسية بين فيليبا ونجم الأوبرا آشيل بابين الذي يكتشف موهبتها الغنائية في الكنيسة مثلما اُكتشفت كوكب الشرق، معتبرًا إياها وموهبتها هدفًا ومعنىً جديدًا لحياته المهنية التي أوشكت على الانتهاء. يأخذ على عاتقه تدريبها وإيصالها إلى الأوبرا في فرنسا لتحقق الشهرة والثراء، وفي خضم مراحل التدريب يجد نفسه يقع في حبها. الحب والشهرة والثراء كلها في كأس واحدة، ومع ذلك وعلى نحو مباشر وعلى عكس المرة الأولى، فإن الرفض هذه المرة يأتي من قِبل فيليبا نفسها دون أي تدخل من والدها.
والتساؤل المطروح هنا: هل كان تم اجبارهما على الرفض في كلا القصتان؟ أم أن رفضهما-وهذا ما أرجحه- قد جاء كرمزية تدل على أهليّة الفتاتين وصرامتهما في الالتزام الديني منذ البداية؟ تقول جوديث بتلر: «إن الذات المورطة ثقافيًا هي تفاوض بناءاتها حتى عندما تكون تلك البناءات هي المحاولات نفسها التي تستند إلى هويتها الخاصة»(3) توضح بتلر هنا أهمية الثقافة والإطار الاجتماعي الذي يوضع فيه الفرد، ودورهما في تشكيل هويته ومفاهيمه حول ما يفترض أن يكون عليه، كما أن سياقه الثقافي الذي ينتمي إليه، والذي يتفاوض معه الأفراد بشكل مستمر يشكل جزءً كبيراً من هويتهم، إذ أن هوية الفرد نتاج تفاوض وإعادة بناء مستمرة.
ولكن بالرغم من أن المرأة لا تعطى دوراً رئيسيا في المجتمعات المتدينة، ولا يمكنها قيادة طائفة متدينة بأكملها وتولي شؤونهم، ولا تتولى منصباً كهنوتي مهماً أو تؤدي واجبات مقدسة عادة لا يكلف بها إلا القساوسة والباباوات من الرجال، على عكس ما نشاهده، وذلك لأن ثقافة فليبيا ومارتين وسياقهما الاجتماعي التي صنعته كارين بليكسن كان مؤهلاً لهذا الدور المحظور على النساء-على عكس المتوقع- بل وكأنه منذ البداية يجهزهما لتولي القيادة، وفي المقابل فإن الفتاتان لا تبديان أي رفض أو محاولة للخلاص، ولا نراهما في موضع مقاوم ودراماتيكي أو غاضب، بل إنهما متسامحتان كثيرًا مع الأحداث من حولهما، وفعالتان بشكل ايجابي وقانع، إذ لا يبدوان في موضع قهري نهائيًا، بل يكونان في أفضل حال وأتم استعداد وتحمل للمسؤولية من البداية إلى ما بعد موت القس واعتلائهما جبل السلطة عوضا عنه.
لقد امتلك فيلم «عيد بابيت» الكثير من خصائص الفيلم النسوي، ابتداء من البطولة النسائية لثلاث ممثلات، والأدوار الرئيسية المهمة في حبكة الفيلم والتي أوكلت إليهن في ذلك الوقت، كما أننا لم نعتد رؤية فيلم بطابع ديني ترأسه مجموعة نسوة، إذ لطالما كانت الادوار الرئيسية في الأفلام ذات الطابع الديني إما محصورة على الرجال، أو أنها تتمثل في دور الراهبة الشريرة على شاكلة فيلم"الراهبة" مثلا، نادرًا ما نشاهد فيلماً بطابع كهذا تمثل فيه المرأة دوراً قياديا وفعّال مثل ما نشاهد مع فيلم «عيد بابيت» إذ بعد موت القس بالتحديد، تؤكد بليكسن على دور المرأة المسؤولة تماما في المجتمع المتدين، بل وتؤصّل أهميتها فيه وتصادق على موقفها الثابت الذي لا ينجرف وراء العواطف -الحب أنموذجًا- مهما كان مثالياً وحالماً، متمثلاً هذا الثبات في شخصية فيلبيا ومارتين، وكأن كل مظاهر الانصياع والقبول المبالغ فيه في حياة القس لم تكن إلا مرحلة تأهيلية لتولي القيادة بعد موته، والتي آتت ثمارها بعد كل شيء. إذ لا تتخلى الفتاتان عن أي من طقوسهم أو واجباتهم تجاه أهل القرية منذ وفاة القس، بل تكملان مسيرته على أكمل وجه، كما أنهما على الرغم من موته لا تسعيان إلى التحرر، بل إنهما تصيران خير خلفٍ له.
وهذا مناقض تماما للصور النمطية للمرأة خصوصاً في الأوساط الدينية، والتي تدعي دوما فشلها في مقاومة مغريات الحب والصد عنه؛ بسبب عاطفتها الزائدة وإن كان في سبيل السعي لرضى الرب، ولذا يتم دوماً التذرع بهذا لمنعها من تولي أدوارٍ قيادية مهمة تتطلب رجلاً حكيم ترجح عنده كفة المنطق
في الجزء التالي من القصة، والذي أراه مكملاً للمسيرة الأولى، واختبارًا تتفوق فيه المرأتان مجدداً، تطرق بابيت الشيوعية الفارّة من حرب فرنسا باب المرأتين، حاملة في يدها برقية حب وطلب لمن يعطي قبل السؤال، وقد خطت تلك البرقية بيد الموسيقيّ آشيل -حبيب فيلبيا القديم- بنبرة استجدائية يشرح فيها حاجة بابيت الماسة إلى مأوى، إذ بسبب الحرب لم يتبقى لها مكان تلجأ إليه، فطلبت المساعدة من آشيل الذي لم يكن بيده سوى إرسالها لبيت فليبيا ومارتين ريثما تنتهي الحرب، ولم يكن يحمل أدنى شك بأنهما ستقدمان لها المساعدة، ثقة منه بالمنظومة الأخلاقية التي يؤمنانِ بها والتي تدفعهما حتماً لإيواء أي محتاج -إذ أنهما يؤمنان بمبدأ التكافل كواجب أخلاقي نظراً لمكانتهما الاجتماعية في ذلك المكان- ثم بعد ذلك خصص الجزء الأخير من رسالته تلك، مساحة يعبر فيها عن مشاعره الصافية لفلبيا والتي لم تتلاشَ قط، فيما تظهر كاميرا المخرج تأثر فيليبا الشديد بكلماته على الرغم من أنها هي مَن رفضته. وبطبيعة الحال لا يتضح لنا مثلاً حسرتها وحزنها على من رغبت به، بل يؤكد الفيلم على روحانية الفتاتين العالية وعاطفيتهما الشديدة التي سخرت لدواعٍ إيمانية وأهداف دينية فقط، إذ أن زهدهما النسكي كان أولوية عظمى مؤداة برضى من طرفهما وتسليم.
بعد تردد واهن سببه عدم توفر السيولة الممكنة لإعطاء بابيت مرتبٍ أو حتى تأمينها بوظيفة، تأوي المرأتان بابيت وتسخّرانها خادمةً لهما كمقابل لمكوثها معهن، فعلّماها أكل النساك الفقراء، لكي تطعم أهل القرية يوميا والذي كان جزءً من مهام أخرى كلّفت بها بابيت تجاه أهل القرية والكنيسة، مكملاتٍ بذلك مسيرتهن التي لم تتوقف منذ بدأت بحياة الأب وبعد موته، إلى بعد 12 سنة من ظهورها أمام عتبة منزلهن. لكن بالرغم من جهودهن يتصاعد التوتر فيما بين أفراد القرية، وتنشأ شجارات عنيفة و جدالات فارغة تحتد في القداس والعشاءات إثر مشاعر محتقنة ناتجة عن صعوبة العيش وشح اللقمة، وفيما تستمر الفتاتان -برفقة بابيت- محاولة الإبقاء على التلاحم والود والإخلاص الديني بصعوبة وعسر، ودون جدوى حقيقية. كل شيء بسيط كان يتحول إلى نزاع دون وجود مشكلة أو سبب ظاهر، وما عادت حتى الروحانية الدينية التي كانوا يتشبثون بها في تلك المرحلة قادرة على مواساتهم وشد أزرهم، نظرا لأمورعيشهم التي لم تكن على ما يرام، وهذا يضع الكثير من الضغط على الشخصيات الثلاث، إذ أن الصمود في تلك البيئة، وبمستوى العطاء ذاته، بدأ يشكل تحديا أصعب مما مضى حتى كاد يكون مستحيلا.
بابيت.. وخيار العودة
ألا تشتاقين إلى فرنسا؟ تجيب بابيت بزهد وصدود: «لا يربطني بفرنسا إلا تذكرة اليانصيب». بسخرية شديدة تجيب ذلك السؤال، حيث صرحت بابيت بأنها تركت مالاً في فرنسا عند أحد الأصدقاء ليكمل لها عادتها في شراء تذكرة اليانصيب، بأمل مقطوع رجاء تحقيقه غير أن وجوده خلفها مع علمها باستمرارية تلك العادة، يضفي لحياتها معنىً لا ترغب بخسارته، خصوصا مع الشكل الذي آلت إليه حياتها، فهي تخدم لمدة 12 سنة لدى المرأتين بلا عائد مادي يؤمن معيشتها، ولا حياة هانئة حولها، ومع وضع يزداد سوءًا رغم الجهد الذي تبذله، لكن فجأة تحدث المعجزة وتصل إلى بابيت رسالة فوزها باليانصيب بيد فارسٍ على حصان. وتشكل تلك التذكرة مهربًا حقيقي للعودة إلى ديارها التي غادرتها، وتعويضًا عن كل ما فقدته من ترف وهناء في تلك القرية، ويطرح سؤال الاختبار المصيري الأخير: كيف يتصرف شخص متدين بغنيمة مادية كتلك؟ وما الذي ستفعله بابيت؟ هل تعود بها إلى فرنسا؟ هل تشتري حريتها؟ أو تفعل بها أي مما تشاء لتحسين وضع معيشتها؟ وبالرغم من أن هذه التساؤلات قد راودت الجميع بما فيهم فليبيا ومارتين، لكن تأتي الإجابة على شاكلة عشاء أخير تحضرها بابيت لكل أهل القرية، تحوي كل ما لذ وطاب، وما يعرفونه وما لا يعرفونه، بثمن تلك التذكرة التي كان بوسعها أن تذهب بها إلى أي مكان ترغب به، إذ بسخاء شديد وسعادة تامة، تحرق بابيت تذكرة عودتها إلى ديارها معلنةً ولاءها للمرأتين ولهذا المجتمع الصغير بكل عيوبه إلى الأبد
إنها قيم نسائية دينية أصيلة، تمتحن بمواقف صعبة رسمتها كارين بدقة من يعرف نقاط الضعف التي مرجح أن تسقط أمامها المرأة كالحب والثروة، لكن المرأة الجديرة والصادقة لا تفعل، وقد أثبتت كارين من خلال قصتها ذلك، وصادقت على أهلية المرأة وجدارتها في إتمام دورها في الإطار الديني، وتسخير الذات للعبادة، وتحمُّل التبعات القائمة على ذلك القرار مهما كانتفي غاية الصعوبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. من كتاب «رسائل من أفريقيا».
2. بنات ابراهيم الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام-إيفون يازيبك حداد ، جون إسبوزيتو.
3. قلق الجندر النسوية وتخريب الهوية-جوديث بتلر.