يُستعمل مفهوم التجريب على نطاق واسع في الأنماط السينمائية وأجناسها المختلفة. ومع ذلك، يظل غامضًا، ملتبس الاستعمال، ويبقى قسم كبير من تاريخ السينما التجريبية مجهولًا. ولكن تشير المباحث إلى أنّ الوصل بين مصطلحي«سينما» و«تجريبي» والربط بينهما عبر علاقة وصفية قد وقع لأول مرة في عام 1930 بإصدار المجلة الأمريكية «السينما التجريبية» التي أعيد نشرها سنة 11969. ويعود بعض مؤرخي جماليات السينما بالمفهوم إلى البدايات الأولى لظهور السينما الطليعية الموازية للسينما التخييلية والرافضة لأساليبها في التعبير وللقيم التي تنشرها، فقد نشأت هذه السينما متأثرة بخلفية أدبية وأخرى فنية تشكيلية مستمدّة من التيّارات السريالية والتكعيبية والدادائية. فكانت تستهدف كسر الأنماط القائمة وتتغاضى عن كل القواعد المحددة مسبقًا، وكانت تحاول من خلال انفتاحها على بقية الفنون أن ترتقي بمحتواها إلى مضاف الفنّ الأصيل وأن تجعل الجمالي منها يوازي الصناعة والاستثمار والاقتصاد الربحيّ.
ولا يقتصر اللبس في معنى التّجريب على السينما وحدها، فقد أشكل المفهوم على النقّد في مختلف الأنماط الفنية، وظل محلّ جدل من جهة رؤاه الجمالية ومن جهة وظائفه حينًا ومحل خلط معرفي في الأحايين الكثيرة، فهو، عند منظّريه، «تجربة في الإبداع لم تطرق من قبل» يحاول صاحبها «الخروج عن القوالب من جهة البناء الفني والجمالي» أو هو «تمثيل للواقع بشكل مختلف مناهض للأساليب التقليدية». ومن تعريفاته التي تتناقلها الكتابات عن بعض البعض، أنه نظرة نقديّة للفن تضع رواسم إنتاج المعنى والتّقبل، وعمل المؤسسة النقدية موضع السؤال، وتضع الإنسان وقناعاته، تبعًا لذلك، موضع هذا السؤال. أما عند منتقديه، فهو «انصراف إلى الجانب الإنشائي-التشكيلي من الأثر».
وبما أن السينمائيين التجريبيين يفهمون العملية الإبداعية على أنها فتح للأثر على عدد لا متناه من احتمالات المعنى، منحوا أنفسهم الحق في حرية الاكتشاف، وتطرّقوا إلى كلّ الموضوعات بأساليبهم الخاصّة، عبر كسر ترتيب الزمن أو تغيير إيقاعه تسريعًا أو إبطاءً أو تكرارًا. أما من جهة التصوير فقد بحثوا عن سلم اللقطات أو زوايا التصوير غير المستهلكة، كالتركيز على اللقطات المقربة والإدراج واللقطات الكبيرة2، وعملوا على استخدام الصور التي التُقطت بواسطة صانعي أفلام آخرين، وحولوا أغراضها الأساسية عبر لعبة المونتاج، وكانوا يسعون إلى أن يتقبّل المتفرّج أعمالهم بحرية بعيدًا عن تأثير التجارب الذائعة أو الرقابة النقدية، مانحين الأولوية للمشاعر والأحاسيس.
إنّ التجريب السينمائي والفنيّ عامة، اتجاه جمالي غير محدد في الزمن3، يقصده السينمائيون على اختلاف مشاربهم، يتأثرون به لخلفيات جماليّة وفكريّة على صلة بمراجعة الإنسان المعاصر لمنزلته في هذا الوجود وأدواره فيه. ولعّلنا أن نجد في تعريف معجم لاروس للسينما ما يساند تصوّرنا، فقد ورد فيه ما يلي: «تعتبر السينما فنًا شخصيًا شأن الرسم أو الشعر. وبشيء من التّبسيط هي مجمل الأعمال التي تتعلق بمفهوم السينما هذا انطلاقًا من كيفيّة إخراجها أو من خصائصها الجمالية. وليست كلمة "تجريبية" هنا سوى تسمية اعتباطية: فلطالما كانت في منافسة مع مصطلحات مثل صافية أو مطلقة أو متكاملة أو أساسية أو شعرية أو فنية أو الحجرة أو طليعية أو مختلفة أو مستقلة أو سرية أو شخصية. وليس لهذا المصطلح الذي استُخدم من قِبَل زولا في الأدب ومن قبل كوليشوف أو فرتوف في السينما بعدُ، من سمة غير تواضعه أو بالأحرى عدم أهميته، فهو يعني المحاولة أو عدم الاكتمال بقدر ما يعني علميًا أو متقدمًا: فيعيّن نوعًا محددًا من الفن فحسب -حرفيًا أكثر ممّا هو صناعي- وينصرف عن السّرد أكثر مما يقترب منه»4.
لعلّ مقارنتنا للتجريب الفنّي بالتجريب العلمي أن تذلّل شيئًا من صعوبات التّمثل وأن تقرب المفهوم أكثر، فغاية التجريب العلمي هي التحقّق من الفرضيات العلمية تحقّقًا يرتقي بالحدس إلى مستوى الحقائق، ويتمّ ذلك عبر الملاحظة أولًا ثم الاختبار وإجراء التجربة وتقييم النتائج ثانيًا، فيكون مسار التجريب إذن الانطلاق من الفرضيات بحثًا عن المسلمات. أما في حال الإبداع فلا يصدر الفنان عن قواعد صارمة في تجريبه ولا يهدف أبدًا إلى إدراك قوانين الكون النهائية الثابتة، فهو ينطلق من مسلّمة مدارها على أن قدر الفنّ «ضِيق بالمعلوم» و«اقتحام للمجهول»، بحيث تكون التجربة مغامرةً مقصودة بذاتها.
ولئن كان التجريب العلمي مأخوذًا بمقولة النجاعة التي تثبّت النّتائج وتجعلها تامّة فإنّ التجريب الفنّي مأخوذ بمقولةِ «لاجدوى التّام والكامل والمطلق». لذلك لا يكف الفنّان عن «تثوير الحقائق» و«تهديمها»، ولا يعمل على تقييم منجزه مع الانتهاء من أثره بقدر ما يسعى إلى تجاوزه إلى منجز آخر أكثر فتنة وأكثر تحديًا للنظريات المحنّطة للإبداع ولدكتاتوريّة المؤسسة النقدية، وأكثر إثارة للأسئلة، فيستأنف بحثه عن «سبل لم تُسلك بعد» وعن كتابة لم تطرق قبل، بحثًا يتجاوز الظواهر الجماليّة إلى البحث في الإنسان وجعله المبتدأ والمنتهى والوسيلة والغاية.
بيّن إذن أنّ التجريب تقنية في الإنشاء والإبداع واختيار جمالي وموقف فكري واعٍ في آن، وأنّه أبعد ما يكون عن صَرعات الموضة وأن الانخراط فيه يقتضي -عمليّا- أن يكون المبدع على بيّنة بتراكمات المنجز السّابق متمثّلًا لخلفيات النصوص الجماليّة ولقوانينها المؤسسة وشروطها الأجناسية حتى يعمل من ثمّ على كسر عادات تقبّلها وعلى «اختراق المجهول» و«تحويل العملية الإبداعية إلى مغامرة» كما يعلن، فلا «زعزعة لتقاليد الإنشاء القديمة» ولا «عمل على خلخلتها» دون المعرفة العميقة بأعمدتها الصلبة وبسياقاتها الحضارية.
ثمة شيء من التلازم اليوم بين مقولة التجريب ومقولة التجديد، فكلاهما يتّخذ موقفًا متجاوزًا للمنجز الإبداعي القائم. والمجرّب مجدّد بلا شك. غير أنّ المجدّد ليس مجرّبًا بالضرورة لأنّ التجريب يرتبط بالمغامرة واختراق المجهول شكلًا ومحتوىً كما أسلفنا. إنه رؤية للوجود وللإبداع. وليس التجديد كذلك دائمًا. وعليه، فكثيرًا ما تتمّ المُماثلة بين مقومات التجريب وإنجاز الأفلام تحت تأثير مذهب فنيّ ما، كالرّمزية والسريالية والتعبيرية وما تقوم عليه من قوانين في الإنشاء وسمات الإبداع ورؤى الوجود، فنعتقد أنّ التجريب هو الكتابة من أفق سريالي أو تجريدي أو غيرهما.
إنّ التجريب أشمل من المذهب، ولذلك فهو يستوعب هذه الحركات إذا ما كانت تعمل على اختراق المجهول وتحويل العملية الإبداعية إلى مغامرة، ولكنه لا يبقى حبيس رؤاها الفكرية أو خلفياتها الجمالية. ولنستدعِ كتاباتنا السابقة ضمن هذه السلسلة لتوضيح الفكرة أكثر، فالسريالية نشأت عن تيار فكري يقدّر أنّ العالم الواقعي ليس غير مظهر خادع وأنّ الإبداع الحقيقي يعمل على اختراق حجبه نحو عالم آخر أكثر غموضًا وأكثر كمالًا، ويوظّف الرمز لتجسيد عوالمه المجرّدة أو السريالية التي تعمل على النفاذ إلى الأحلام واختراق اللاوعي حتى يقع على ما هو مستبعد التحقق ويجعله سبيله لفهم الحقيقي أكثر. ونتيجة لذلك عمد سينمائيو هذا التيار إلى التخليّ عن رواسم الأفلام التقليدية، من حبكة وبناء أحداث وخلق شخصيات، ونزعوا إلى شاعرية الحلم والهلوسة والجنون. أما السينما التعبيرية فأبدعت أفلامًا تناهض المحاكاة العاجزة عن الخلق وتعتقد أن ما هو جدير بأن يكون موضوعًا للفن ليس ما نراه في العالم وإنما ما يخلقه هذا الخارج فينا، أي الرؤى والمشاهد الداخلية. ومن ثمّ جعل التعبيريون غايتهم القصوى إعطاء شكل للتجربة التي نعيشها في أعماق الذات كما بيّنا في مقالتنا السّابقة. هكذا يتّضح أنّ هذه التيارات المغامرة تمثّل جزءًا من تاريخ التجريب السينمائي، ولكنها تظل مرتبطة بسياقات معرفية وحضارية بعينها، فلا تختزّله كلّه.
لا ينظر النّقد السينمائي دائمًا إلى التجريب بعين الرضا، وهذا بديهي، فالتجريب في جوهره تمرّد على مؤسّسة النّقد التي تنمّط التجارب وتصوغ القوانين، غير أنه يجد شعارات المجرّبين رنّانة مغرية شأن «البحث على أساليب إبداعية جديدة قادرة على التعبير عن الواقع» و«الثورة على الأساليب البالية المستهلكة»5 وبالمقابل يجد خطابه شموليًا مغرقًا في التعميم ممّا يُفقده خصوصيته، ويجده، إلى ذلك، مغرقًا في الدوغمائية، فكثيرًا ما يُضحي «المجهول» معلومًا، بحكم تكرار الممارسات الإبداعية وفق تقليبات مختلفة ونقل التجارب بعضها عن بعض، فيفقد بريقه ويتحوّل إلى نمط قائم مستمدّ من التجارب السابقة للمبدعين أو للتيارات الفنيّة بأسرها ومعتمد لتأويل الأعمال اللاحقة، فيشكل أفق انتظار يستبطنه كل من المبدع والجمهور، وعندها تسقط كل تلك الشعارات الرنّانة التي يردّدها متشيعو التجريب على مسامعنا. أمّا الأثر ذاته فكثيرًا ما كان يفرّط في منطقه الداخلي الذي يمنحه الانسجام المطلوب مما يضير بالحكاية ويفتح بها على التهويم، فلا توجد تحت القشرة إلا القشرة وإذا الإنسان فيه بصَلة لا لب فيها، على عبارة المغربي أحمد بوزفور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.University Film Association Vol. 30, No. 1, TOPICS IN AMERICAN FILM HISTORY (Winter 1978), pp. 27-35 THOMAS BRANDON:"The Advance Guard of a New Motion Picture Art": Experimental Cinema, 1930-1933, Journal of the.
2.يقول المخرج السوفييتي دزيغا فرتوف في مقالته «السينما- عينًا» مفصلًا زوايا التقاط مشاهده: «إنني أحرر نفسي منذ اليوم وإلى الأبد من سكون الحركة الإنسانية. إنني في حركة دائمة أبتعد وأقترب [كذا] من المواد. أنبطح وأزحف تحتها. أهجم عليها. إنني أتحرك موازيًا لوجه الحصان وهو يعدو. أندفع بسرعة فائقة بين الجموع. أركض أمام الجنود الرّاكضين. أنام على ظهري وأرتفع مع الطائرات. أسقط وأهبط مع الأجسام الساقطة والهابطة». عدنان مدانات: السينما التسجيلية – الدراما والشعر، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان 2011، ص- ص 250-251.
3.نقترح قائمة من أهم الأفلام التي يصنفها مؤرخو السينما والباحثون في جمالياتها بالتجريبية، وهي قائمة غير مرتبطة بعصر سينمائي دون غيره، متواصلة من ثلاثينيات القرن الماضي حتى اليوم:
1- «كلب أندلسي» (1929) Chien Andalou، فيلم صامت، لويس بونويل
2- «الرجل صاحب الكاميرا» (1929) L'Homme à la caméra، فيلم صامت، دزيغا فيرتوف
3- «شبكات العصر» (1943) Meshes of the Afternoon، فيلم قصير لمايا ديرين وألكسندر حميد
4- «الرصيف» (1962) La Jetée، فيلم قصير لكريس ماركر
5- «الجبل المقدس» (1973) La montaña sagrada، أليخاندرو جودوروفسكي
6- «كويانيسكاتزي» (1983) Koyaanisqatsi، جودفري ريجيو
7- «تيتسو» (1989 Tetsuo). فيلم شينيا تسوكاموتو
8- «بينما كنت أمضي قدمًا ، كنت ألمح أحيانًا ومضات قصيرة من الجمال» (2000) As I Was Moving Ahead, Occasionally I Saw Brief Glimpses of Beauty، جوناس ميكاس
9- «الإمبراطورية الداخلية» (2006) Inland Empire، ديفيد لينش
10-«أدخل الفراغ» (2010) Enter the Void، لجاسبار نوي
4.La Rousse, Dictionnaire du cinéma, ed 2001 P 520.
5.كان فرتوف مثلًا يعبّر في جريدته «الحقيقة السينمائية» عن رفضه لأسلوب السينما الهوليوودية ويجدها ضربًا من الابتذال والسطحية، ولم يكن يرى في تعويلها على المناظر الطبيعية المدهشة أو الحبكات النفسية أو البوليسية شيئًا من الفن السينمائي، وكان يصف مخرجيها بـ«القطيع من لمامي الخرق الذين يتاجرون بالثياب البالية»، دزيقا فرتوف: الحقيقة السينمائية والعين السينمائية، ترجمة عدنان مدانات، منشورات مجلة الهدف، ط1 ، بيروت 1975 ص 17.