مقالات

«سينما التحرير»: بدايات سينما النضال الفلسطيني

انطلقت السينما الفلسطينية ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية لتعبر عن نضال الشعب الفلسطيني لتحرير الوطن المُغتصب وإلحاق الهزيمة بالاحتلال، بعد تأسيس وحدة أفلام فلسطين التابعة لحركة فتح والتي كانت أول وحدة سينمائية تعمل من خلال تنظيم فلسطيني مقاتل بدأ ينشط مع بدء الكفاح المسلح عام 1965 وارتبط به حتى أصبح صوت وصورة البندقية. عملت الوحدة على توثيق الأحداث الثورية الفلسطينية لتصبح أرشيفًا سينمائيًا فوتوغرافيًا يحوي مواد متعلقة بأحداث الثورة الجماهيرية والثورة العسكرية جنبًا إلى جنب لتُستخدم عند الحاجة. لم تكتفِ الوحدة بتوثيق الأحداث المتعلقة بالثورة الفلسطينية في فلسطين فقط، بل توسَّع نطاقها إلى حيث سجلت النشاطات التي تحدث في الأردن ولبنان وسوريا. 
في نهاية عام 1968 استطاعوا الحصول على جهاز تصوير سينمائي 16 مم وآلة لتسجيل الصوت (الأمر الذي تحدثنا عنه في مقالة سابقة) وعليه أتمّوا أول الأعمال الوثائقية «لا للحل السلمي» في عام 1969، وتبعه في عام 1970 فيلم «بالروح بالدم» للمخرج مصطفى أبو علي، وهو أول الإنجازات الهامة للوحدة، وكان بمثابة تمهيد للطريق الذي سارت فيه هذه السينما.
أنتجت وحدة أفلام فلسطين 15 فيلمًا، وفي عام 1973 ساعدت في إنشاء وتأسيس جماعة السينما الفلسطينية التي انضمت فيما بعد إلى مركز الأبحاث الفلسطينية، وكانت نتاجًا لتجارب السينما من خلال التنظيمات الفلسطينية، وتضمنت هذه الجماعة أعضاء كافة التنظيمات والسينمائيين التقدميين العرب، وانطلقت لتجميع الجهود من أجل سينما فلسطينية توثق نضال الشعب الفلسطيني. أنتجت هذه الجماعة فيلمًا واحدًا، ثم توقفت عن الإنتاج لأسباب تنظيمية مثلما تم تكوينها لأسباب تنظيمية أيضًا، ولكن الحقيقة هي أن الجماعة كانت امتدادًا فعليًا لعمل وحدة أفلام فلسطين، ومع توقف عمل الجماعة تابعت الوحدة العمل باسم «أفلام فلسطين - مؤسسة السينما الفلسطينية». وعلى الرغم من حداثة هذه السينما والكم القليل الذي يمكن الإشارة إليه كأمثلة والتنوع المحدود في الإنتاج، فإن لهذه السينما أهمية خاصة لانفرادها بتجربة متميزة عن بقية ممارسات هذا الفن في الأنحاء العربية الأخرى باستثناء الجزائر، فهي تجربة نبعت من خلال الكفاح المسلح وارتبطت به فاكتسبت خصائص الحرب الشعبية الطويلة الأمد باللون والخصائص الفلسطينية لهذا النوع من الكفاح.
اهتمت السينما الفلسطينية منذ بدايتها اهتمامًا كبيرًا بالحدث، حيث كانت تتبعه وتناقش أسبابه وتبعاته، ومن بين تلك الأحداث: مشروع روجرز (1969)، أحداث أيلول في الأردن (1970)، عملية معالوت والهجوم العسكري على الثورة الفلسطينية في جنوب لبنان وكفر شوبا (1972-1974). كان هذا الاتجاه يعتمد كليًا على الحدث ويتصل به اتصالًا وثيقًا، وهو الاتجاه الذي امتازت به وحدة أفلام فلسطين حينذاك.  
كانت هناك اتجاهات تسجيلية أخرى لدى السينما الفلسطينية، بعضها اعتمد بشكل كامل على الأرشيف السينمائي متنوع المصادر، سواء كليًا أو جزئيًا. أما الاتجاه الآخر، فاعتمد على تسجيل واقع الحياة الفلسطينية في المخيمات والقواعد، وهو الاتجاه الذي امتازت به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث أنتجت أفلامًا مثل «النهر البارد» و«بيوتنا الصغيرة». وضمن هذا الاتجاه كان هناك أعمال اعتمدت على اللوحات الفنية، مثل فيلم «شهادة الأطفال في زمن الحرب». أما الاتجاه الروائي، فقد انقسم إلى نوعين: نوع يناقش واقع وحقائق عن الشعب الفلسطيني والثورة المسلحة، وهو الاتجاه الجاد الذي انحصر في عدد قليل من الأفلام، مثل «المخدوعون»، «كفر قاسم»، و«سنعود». أما الاتجاه الآخر والذي كان تجاريًا نوعًا ما، تضمّن أعمالًا مثل: «فدائيون»، «كفاح حتى التحرير»، و«أجراس العودة».
أما على النطاق الأوروبي، كانت هناك محاولة هولندية عُرضت على منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت محاولة تنوي عرض خطف إحدى الطائرات التي تُقل مجموعة من ملكات العالم، ورفضت منظمة التحرير الفلسطينية هذا العرض.
كانت العروض تُقام عادةً في أماكن تجمعات الفلسطينيين، سواء في المخيمات أو القواعد العسكرية الثورية، وتُنفذ في أي أماكن متوفرة، سواء كانت مغلقة أم كانت مفتوحة. كانت هذه العروض تحظى بشعبية كبيرة، حيث كان يحضرها النساء والرجال والأطفال والمثقفون والأُميون. فيما يتعلق بالقواعد العسكرية، كانت العروض تُعقد لصالح المقاتلين وكان يُشرف عليها مفوض سياسي، ولم تقتصر هذه العروض على التجمعات الفلسطينية فقط، بل امتدت أيضًا إلى القرى في سوريا ولبنان والأردن، وكانت متاحة أيضًا للطلاب في الجامعات والعمال والاتحادات، ولم تكن العروض مقتصرة على الأفلام الفلسطينية فقط، بل شملت أيضًا أفلامًا تتناول موضوعات الكفاح من أجل التحرير، مثل الأفلام الجزائرية والكوبية والفيتنامية.
كانت الجهات المنتجة لدى منظمة التحرير مسؤولة عن إنتاج الأفلام وتوزيع إنتاجها. وقد تميزت مؤسسة السينما الفلسطينية بتوزيع الأفلام التي أنتجتها جهات أجنبية عن الثورة الفلسطينية وأفلام أخرى حققها أصدقاء الثورة الفلسطينية من غير العرب، من أهمها: «فتح» للمخرج لويجي بيرللي وإنتاج الحزب الشيوعي الإيطالي، «ثورة حتى النصر» من إنتاج مجموعة نيوزريل الأمريكية، وعديد من الإنتاجات الأخرى. وكانت نوعية التوزيع المتبعة نوعية توزيع نضالية لا تكترث للربح التجاري ولا لأي شيء سوى محاولة التعريف بالقضية الفلسطينية وكشف الوجه الحقيقي للمحتل الصهيوني. وكانت عمليات التوزيع تتم على يد ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، ومن خلال التعاون مع جماعات وأحزاب تقدمية مهتمة بعرض الأفلام الفلسطينية، كما تم توزيع بعض الأفلام عن طريق جامعة الدول العربية.
كان التوزيع يتم عن طريق دفع ثمن تكلفة النسخة مع تحقيق ربح كافٍ لتغطية الإنتاج أو بالتبادل مع الجماعات والأحزاب التقدمية في العالم. كان معدل حجم التوزيع يصل إلى 100 نسخة من كل فيلم، وُزِّعت في كافة أنحاء العالم. كانت مؤسسة السينما الفلسطينية تُعدّ الفنانين ضمن منهج واضح، فمثلًا ترسلهم إلى العراق في دورات تدريبية في المؤسسة العراقية للسينما، والتخطيط لإرسال البعثات السينمائية إلى الدول الصديقة، والاستفادة من المهرجانات والمؤتمرات السينمائية على الصعيد العربي والدولي، والاتصال بالوفود السينمائية من كافة الأنحاء والإنتاجات المشتركة، كما استطاعت تدريب اثني عشر مقاومًا من اليمن لمدة سبعة شهور للتخصصات الآتية: التصوير، المونتاج، السيناريو والإخراج، الصيانة، التصوير الفوتوغرافي.
الحديث هنا عن تجربة وحدة أفلام فلسطين، التي تأسست في عام 1968 واستمرت حتى الآن، بتميزها وثراها في مجال السينما. منذ بدايتها، أدرك العاملون في هذه الوحدة أن نشاطهم السينمائي سيندرج ضمن سياق حرب الشعب الطويلة الأمد وظروف الثورة الفلسطينية المسلحة. كان لديهم تحديات هامة مثل التواصل مع الجماهير التي تعرفت إلى الثورة المسلحة. هل يمكن استخدام الأساليب نفسها التي درسوها في لندن والقاهرة؟ أم يجب أن يبتكروا أساليب جديدة لمخاطبة الجماهير الفلسطينية والعربية؟
لم يقتصر التساؤل على ذلك، بل تعدى إلى مفهوم السينما عامةً. هل يجب اتباع الأساليب والأشكال التي استخدمتها السينما المستعمرة، أم ينبغي تطوير لغة سينمائية مميزة تندرج ضمن التراث العربي وتعبّر عن خصوصيات الثورة الفلسطينية وظروفها؟ هذه الأسئلة ساهمت في توجيه العمل السينمائي نحو تطوير «سينما الشعب» التي تنعكس فيها حرب الشعب ووقائعها بأسلوب مميز يلتزم بالتراث الثقافي العربي والسياق الفلسطيني على وجه الخصوص.
خلال أحداث أيلول 1970 في الأردن، نجحت وحدة أفلام فلسطين في تصوير جوانب من هذه الأحداث مع الصوت المرافق. استُخدمت هذه المواد لاختبار الأفكار حول السينما النضالية. للأسف، بعد تلك الأحداث، انحصرت الوحدة في عمل شخص واحد -مصطفى أبو علي- بسبب إصابة المصورة سلافة جاد الله برصاصة أدت إلى شلل جزئي، وظروف أخرى منعت الزميل الثالث هاني جوهرية من الانضمام. في هذا السياق، دار نقاش حول ما إذا كان يجب تقديم تحليل سياسي لأحداث أيلول أم فقط يتم التركيز على المواد الوثائقية. اُختيرت السينما النضالية بدلًا من الوثائقية، وأصبح التحليل السياسي هو الأساس للعمل، مما أدى إلى وضع التحليل هذا بديلًا للسيناريو التقليدي.
تمت مشاركة أكبر عدد من الكوادر الثورية في وضع التحليل السياسي وتمت ترجمته سينمائيًا. استمرت الاستشارات والمونتاج لمدة أربعة أشهر، وجرت تجارب حول مونتاج بالإيقاع البطيء والسريع. تم استبدال الرسوم بمشهد تمثيلي أقرب للواقعية. بعد إجراء استفتاء شعبي، تم إلغاء الأسلوب الرمزي تمامًا. كانت وحدة أفلام فلسطين تقوم بلقاء جميع السينمائيين الذين شاركوا في تصوير أفلام أو تقارير عن الثورة الفلسطينية. هذه اللقاءات ساعدت في مقارنة الأفكار وتطويرها. جان لوك غودار كان أحد السينمائيين المهمين الذين قدِموا إلى الأردن بأفكار حول السينما النضالية وكان قد حقق ثلاثة أفلام ثورية حتى عام 1970، أحدها عن العمال في إيطاليا وآخر عن عمال بريطانيا والثالث عن أحداث تشيكوسلوفاكيا.    
منذ بداية عام 1971، أُتيحت الفرصة للوحدة لاستكشاف التجارب السينمائية النضالية والتقدمية العالمية في مهرجانات ومؤتمرات سينمائية دولية. تمت لقاءات مع عدد من السينمائيين العالميين للتعرف إلى آرائهم وملاحظاتهم حول التجربة السينمائية الفلسطينية، واكتشفت الوحدة أنها كانت تسير في الاتجاه نفسه مع السينما النضالية والثورة العالمية، ولم يكن هذا الاختبار الوحيد للوحدة مع نفسها، حيث تألقت بوصفها جزءًا من الفنون الفلسطينية الأخرى مثل الشعر والأدب والموسيقى والفن التشكيلي، وكانت متفاعلة ومتصلة اتصالًا وثيقًا مع الثورة المسلحة.

اتسمت تلك الفترة بعدة أساسيات نحاول تحديدها كالآتي:

  • الفريق السينمائي النضالي يجب أن يتولى جميع المهام الضرورية لإكمال فيلمه، بدءًا من كتابة السيناريو وانتهاءً بالإخراج والتصوير والمونتاج. 
  • يجب أن يعتبروا أنفسهم جزءًا من الاستراتيجية والتكتيك النضالي للقضية التي يعملون عليها في أفلامهم.
  • إن إنتاج الأعمال السينمائية النضالية يجب أن يكون له طابعان: الأول يتعلق بالتزامها بالمرحلة النضالية والثاني يتعلق بالتطابق مع استراتيجية النضال. 
  • يجب أن يكون الفيلم النضالي مفيدًا وضروريًا مثل الخبز، وليس لمجرد الترفيه.
  • عرض الأفلام على الجماهير المعنية بالنضال له دور أساسي في اكتمال العمل السينمائي النضالي. على السينمائي أن يذهب بنفسه لعرض أفلامه للجماهير سواء في العلن أو في السر، استنادًا إلى متطلبات المرحلة النضالية.
  • إن السينما النضالية تتطلب اعتماد تقنيات ولغة بسيطة وواضحة لنقل المضمون بطريقة مباشرة. يجب تجنب التعقيدات واستخدام لغة تناسب فهم الجماهير وتعبيرها عن طموحاتها وآمالها في التحرر.
  • العمل السينمائي النضالي يتطلب دراسة عميقة للعلاقة بين الفيلم والجماهير، وفهمًا جيدًا للأوضاع الاجتماعية والسياسية. يجب أن تعكس الأعمال النضالية رؤية الجماهير وتتطور مع تطور هذه الرؤية.
  • هذه الأفلام يجب أن تتصدى للسينما الإمبريالية التي تهدف إلى الربح ونشر القيم الاحتكارية والسياسية للإمبريالية والاستعمار. 
  • على السينمائيين النضاليين أن يبتعدوا عن الأطر التقليدية ويعتمدوا على الأساليب والإمكانات الخاصة بالسينما النضالية.
كانت تلك السينما تجربة جديدة في العالم، وقد نشأت مع الثورات الشعبية المسلحة، مثل فيتنام وكوبا والجزائر وفلسطين. بدأت تنمو أيضًا في بلدان أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا. في هذه البِلدان، تقوم جماعات بإنتاج أفلام تكشف عن أنظمة الإمبريالية وعملائها وتمجد نضال الشعوب من أجل التحرر وأن الفيلم النضالي يعتبر سلاحًا يخدم الثورة في مهامها، سواء من خلال التعبئة الجماهيرية أو التحريض والتثقيف السياسي، وكذلك فضح العدو، وأي فيلم يثبط عزيمة الجماهير أو يحرضها ضد الثورة أو يدعو إلى التخاذل والسلبية أو ينشر فكرًا سياسيًا استعماريًا يتعارض مع طموحات الجماهير وقيم حرب التحرير الشعبية هو فيلم مضاد للثورة.
حرب الشعب والأفلام النضالية يشتركان في الهدف، حيث يهدف كلاهما إلى تحقيق فعل سياسي. وكما أن الأسلحة الخفيفة تلعب دورًا أساسيًا في حرب الشعب، فإن الكاميرا الخفية 16 ملم و8 ملم كانت السلاح والأداة المثلى لإنتاج أفلام نضالية ناجحة حينذاك، وبهذا نصل إلى أن الإرادة هي المفتاح في تحقيق الفيلم النضالي أمام آلة السينما الإمبريالية، تمامًا كما هي الإرادة في حرب الشعب أمام آلة الحرب الإمبريالية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. زياد سليم
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا