تُمثّل سينما المؤلف أهم حركة سينمائية ناهضت نظام الاستوديو. ظهرت سينما المؤلف في منتصف القرن العشرين، وفرضت نفسها باعتبارها رؤية جمالية متكاملة وذات رؤية مختلفة لمجمل عناصر العمل السّينمائي وأطرافه، وتُعد مقالة المخرج والنّاقد الفرنسي ألكسندر أستروك «ولادة [سينما] طليعية جديدة: الكاميرا قلمًا» بداية تَشَكُّل هذه الرؤية، فقد نبّهت إلى المستوى التّواصلي من الصورة وإلى اعتبار السّينما وسيلة تعبير فنية شأنها شأن بقية الفنون. ثم دافع «أندريه بازان» ومن يحيط به من المحرّرين الشّباب لمجلة «كراسات سينمائية» لاحقًا، عن انتساب الفيلم إلى مخرجه، وعن حقّه في فرض رؤيته الجمالية، فيكون المخرج مؤلفًا يستعمل الصورة السّينمائية للتّعبير عن رؤيته للعالم من حوله. ومن تبعات هذا التّحوّل النّظري الجذري الحدُّ -في سينما المؤلف- من سلطة «المصوّر الأكبر» الأبويّة الشّبيهة بسلطة الرّاوي كلّي المعرفة، «فَكَتب» روّاد الموجة الجديدة أفلامهم «بضمير المتكلم المفرد»، وجعلوا منها أداة لتُفسّر تجربة الفرد الحية ولتغوص فيما هو حميمي منها. ورغم نزعة التّمرد على السّينما النّمطية التي كانت تحرّك «نقاد الكراسات» لم يرفضوا سينما هوليوود مطلقًا، فقد احتفوا بكثير من المخرجين الأمريكيين من داخل هذا النّظام واعتبروهم مخرجين مؤلفين، ولكن غالبًا ما كان هؤلاء مخرجين مؤلفين بالفعل، فقد كانوا ينتجون أفلامهم بأنفسهم، ومن هذا المنطلق كانوا يمنحون أنفسهم هامشًا كبيرًا من الحرية الإبداعية، ومن هؤلاء «هيتشكوك» و«هوكس» بوجه خاص.
يشمل هذا التّمرد خصائص السّينما النّمطية من عدة مستويات، فقد رفض «الشبان الأتراك» نظام الإنتاج السائد عندئذ، وكان هذا النّظام يفرض على المخرج أن ينفذّ سيناريوهات جاهزة، ويمنعه من أن يتعامل معها بحرية ليضفي عليها من رؤيته، وأشاروا إليه بكناية قدحية هي «سينما أبي» التي تعكس رغبة الأبناء المتمردين في ارتكاب جريمة قتل الأب. أما على مستوى الشّكل، فقد فرضوا أسلوبَ كتابة جديدًا يغلّب ضمير المتكلم المفرد، لجعل التّجربة الحية أكثر حميمية. ومثّلت المضامين ثالث مستويات الثورة على «سينما الآباء»، فجعلت من طبيعة العلاقات بين الرجال والنّساء مدار اهتمام واسع النّطاق وركّزت على بناء الهويات الجنسية بجرأة كانت السّينما السّائدة في فترة ما بعد الحرب تفتقد إليها، وأدانت منع النّساء من الحقّ في الإجهاض أو في استعمال وسائل منع الحمل. وإجمالًا، مثّلت الحراك الممهد لثورة مايو 1968 التي قام بها شباب يتطلّع إلى قدر أكبر من الحرية السياسية والأخلاقية. وسريعًا ما عَبَرَ تيار سينما المؤلف حدودَ فرنسا ليصل إلى السّويد وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه استهدف خاصّةً أنظمة الإنتاج الهشّة التي تفتقر إلى سوق سينمائية ضخمة.
تُردُّ مباحث جماليات السّينما في سينما المؤلف إلى عوامل مختلفة منها ما له صلة بالرفض المستمر الذي كانت تواجهه السّينما النّمطية من قِبَل تيارات السّينما اللانمطية، ومنها ما له صلة بالمؤثرات الرومنسية القديمة التي تعلي من قيمة المبدع وتجعله مركز العملية الإبداعية، ومنها ما له صلة بالتّحولات السوسيولوجية والوسائطية والتّكنولوجية في فرنسا، التي جعلت الصناعات الثّقافية تنتصر إلى الطّابع الفردي للظواهر الثقافية منذ الخمسينيات. ووفق هذا التّصوّر، تتبنى «سيليير جينيفيف» أطروحة الأمريكية «كريستين روس»، فتصل بين ظهور الموجة الجديدة في فرنسا وعملية التّحديث الاقتصادي والاجتماعي التي قادها الرئيس الفرنسي «منديس فرانس» .لا يمكننا أن نغفل، فضلًا عن هذه المؤثرات، عن تأثير المراجعات النقدية للعلاقة بين الحاكي والمحكي في الأدب أو الرائي والمرئي في الفنون البصرية، فالظواهر الفنية لا تتطوّر معزولة عن بعضها بقدر ما يتأثر جميعها بالتّفاعل بين التّحولات الفكرية والجمالية والتّقنية التي يعيشها المجتمع، والاطلاع على النّقاشات التي خيضت حول الراوي كلّي المعرفة في السّرد الأدبي يكشف المؤثرات البعيدة التي أسهمت في ظهور هذه السّينما.
فقد ظهرت حركة نقدية أدبية في ألمانيا وقادها «فريديريتش سبيلهاغن» -بين سنتي 1864 و1898- تدعو إلى ضرورة جعل الرّاوي محدود المعارف يتأثر بالعوائق الموضوعيّة، وكان واقعًا تحت تأثير مبحث المنظور ووجه النّظر الذي تطوّر كثيرًا في الممارسة التشكيلية وفي نقدها، وكان لكتابات «سبيلهاغن» صدى أول في اختيارات رائد الرواية الأنجلوساكسونية الحديثة «هنري جيمس» الجمالية، منذ بداية القرن العشرين، لمّا رفض الرّاوي العارف بكل شيء وعمل على تجاوزه في كتاباته، وجعل من اختفائه مقياسَ الجودة الإبداعية في التّجربة الرّوائية، وصدى ثانٍ في منجز «جون بيون» ضمن أثره «الزمن والرّواية» (1946) لمّا قدّر أن ليس للسارد إلا أن يكون ضمن أحد الموقعين: أن يغوص في تجليات العالم الداخلي النّفسي للشخصية أو أن يظلّ على السّطح ملتزمًا بعالمها الخارجي، فكل هذه التّحوّلات الجمالية ستظهر في دعوة «أندريه بازان» ورفاقه لابتكار أسلوب سينمائي جديد حميم يستند إلى ضمير المتكلم المفرد ويعرض وجهة نظر المخرج المؤلّف.
انتشرت الرؤية الجمالية التي تدعو إليها سينما المؤلف وفرضت نفسها خلفيّة يستند إليها المخرجون في شتى أنحاء العالم على نحو لم يتحقق لكل التّيارات أو الحركات المناوئة للسينما النّمطية، حتى بات الانتساب إليها عنوانًا للانتماء إلى السّينمائيين المثقفين المناضلين، وأُنجزت في ظلها أبدع الأفلام، خاصةً بالنّسبة إلى السّينما العربية. ولكن هذا النّمط الوليد شهد تحولاتٍ عميقة قسّمت أتباعه إلى اتجاهين، فانصرف اتجاه أول إلى البحث سينمائيًا عن طرائق مختلفة للتّعبير تجعلنا ندرك ما يوجد حولنا ولكننا لا ننتبه إليه بفعل تأثير أنساق فكريّة تعمي وتُصمّ، وأعلن تبنيه لسينما مناضلة تقطع مع الأكاذيب التي تُطوقنا وتكشف تلاعب المؤسسات الاقتصادية، ومن يقف خلفها من المتنفذين، فيقاوم هذه الأنساق ويكشف زيفها، وأمعن الاتجاهُ الثاني في البحث عن اللغة السّينمائية المبتكَرة حتى وقع أسير شكلانيّته وأضحى يتغافل كليًا عن مشاغل اليومي ليخوض في الحياة الباطنة لمخرجه وليعرض أحلامه وهلوساته. وفي الاتجاهين أصبح المخرج هو مركز الجذب في الفيلم، «وبمعنى ما فإن المخرج المؤلف حلّ محل النّجوم، أو أصبح معادلًا لهم بما يعنى وجود علامة تجارية للمخرج».
لسينما المؤلف ميلٌ خاصّ لمضامين بعينها شأن قضايا الجسد والحريات الجنسية وحرية الضمير، وهي الموضوعات ذاتها التي دعا إليها «الشباب الأتراك» إبان ثورتهم على «سينما أبي» منذ خمسينيات القرن الماضي. ولا شكّ أن كل الموضوعات مهمة وأنّ قيمتها من كيفية تناولها سينمائيًا، ولكنّ تكرار الموضوعات نفسها وفق المقاربات الجمالية ذاتها جعل هذه السينما المناوئة للنّمط المتحجّر تخلق أنماطها المتحجّرة الخاصّة. والمفارقة هنا أنّها انتشرت خاصةً في بلدان أوروبا الشرقية وفي بلدان الجنوب حيث يعاني الفرد الاستبداد والمجاعة والحروب الأهلية. لذلك، كثيرًا ما تُتهم بكونها سينما أنانية أسيرة لنرجسية مؤلفيها وتعمل على بسط مشاغلهم الخاصّة، فلا تأخذ انتظارات المتفرّج «المشروعة» بعين الاعتبار، ففضلًا عن هذه الاحترازات الفنية والمضمونية، باتت سينما المؤلف تواجه معضلة أخلاقية، فشأنها شأن كلّ السّينماءات المناوئة للسينما النّمطية، تظلّ عاجزة عن تغطية نفقاتها، فلا تستطيع أن تعيش دون دعم الدولة، ودون إسهام دافع الضرائب الذي تتجاهله وتتعالى عنه ولا تأخذ مشاغله بعين الاعتبار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1 نظام الاستوديو هو النظام المعتمد في السّينما الهوليوودية أساسًا، وقوامه على إنتاج أفلام روائية نمطية يبلغ طولها 90 دقيقة، فتعوّل على ممثلين نجوم تربطهم استوديوهات إنتاج بعقود احتكارية وتختارهم بمواصفات معينة لتضمن استدراجهم للجمهور إلى شباك التّذاكر. يكون المنتِج في هذا النّظام المتحكّمَ في العملية الإبداعية، وهذا ما يجعل الهواجس الرّبحية في المقام الأول، فيعدّ فريق الإنتاج للفيلم جيدًا وإذا ما تأكدت جدواه المالية يقرّر المنتج تنفيذه ويقترح لهذا الدور المخرجَ الذي يراه مناسبًا.
2 تمثّل. وفيها يقول: «لقد أصبحت السّينما وسيلة تعبير بكل بساطة، وهذه حال كل الفنون قبلها، ما كان عليه الرسم والرواية خاصّة.. بعد أن كانت تباعًا، عنصرَ جذبٍ للعروض أو وسيلة ترفيه شبيهة بمسرح الشوارع أو وسيلة لحفظ صور من العصر، أصبحت لغة شيئًا فشيئًا. و[أن تصبح] لغة يعني أن تصبح شكلًا يمكن للفنان -ضمنه ومن خلاله- التّعبيرَ عن أفكاره، مهما كانت مجرّدة، أو ترجمة هواجسه تمامًا كما في المقالة أو الرواية اليوم. لهذا أُسمي هذا العصر الجديد للسينما عصر الكاميرا قلمًا، فلهذه الصورة معنى محدد بدقّة. هذا يعني أن السّينما سوف تنتزع نفسها شيئًا فشيئًا عن هذا الاستبداد البصري، من الصورة لأجل الصورة، ومن الحكاية المباشرة، ومن الملموس، لتتحول إلى وسيلة للكتابة لها من المرونة والدقة ما يماثل اللغة المكتوبة» Alexandre Astruc : Naissance d'une nouvelle avant-garde: la caméra-stylo, L'écran français, n° 144, 30 mars 1948.
3 وهم «كلود شابرول» ، «جان لوك غودار»، «جاك ريفيت»، «إريك رومر» و«فرانسوا تروفو».
جيم هيليير: نظرية المؤلف، ضمن موسوعة السّينما (شيرمر)، الجزء الأول، ترجمة أحمد يوسف المركز القومي للترجمة ط1 القاهرة 2015، ص4384.
5 انظر Sellier Geneviève :LA NOUVELLE VAGUE, Un cinéma au masculin singulier, CNRS Éditions, Paris 2005، عامة الفصل الأول.
6جيم هيليير: نظرية المؤلف، ضمن موسوعة السّينما (شيرمر)، الجزء الأول، ص 390.