مقالات

سينما الممثل أم سينما المخرج؟

بداياتنا مع الأفلام والسينما تختلف وتتشابه في الوقت نفسه. ربما كثيرٌ منا يتذكر أول فيلم شاهده، وعايش تغير ذائقته السينمائية وتفضيلاته ومعرفته بالصناعة السينمائية مع الوقت، إلا أنه يغلب على المشاهدين طريقين لاختيار الأفلام التي يشاهدونها، الأولى الاعتماد على أسماء الممثلين والنجوم، والثانية الاعتماد على المخرجين، وهناك طريقة ثالثة ترتبط بأنواع الأفلام لن أتحدث عنها كثيرًا، وهنا أجادل أن أفضَل طريقة للتنبؤ بطبيعة الفيلم الذي تود مشاهدته تعتمد على البحث عن المخرجين لا من خلال متابعة الممثلين، مع أن المسارين يتداخلان بصورة مستمرة مع تأرجح الأعمال السينمائية بين الفن والطابع التجاري الباحث عن الربحية.
عند متابعة مسيرة ممثل بصورة مستمرة، قد تشعر بالإحباط من الأفلام السيئة أو العادية التي قام بالتمثيل فيها، فعلى سبيل المثال، وعند الحديث عن ممثل كبير حائز على جائزتي أوسكار مثل أنتوني هوبكنز، سنرى أن مسيرته الفنية تأرجحت وتطورت عبر أكثر من ستة عقود، وتخللها كثيرٌ من الإخفاقات والنجاحات، فبعد مسيرة طويلة في الأفلام التليفزيونية والمسلسلات والأعمال المسرحية، لم تُنتج بدايات هوبكنز السينمائية أدوارًا مهمة، وربما لن ينجح هوبكنز بدور رئيس حتى فيلمه «الرجل الفيل» المنتَج في عام 1980، ولم يلمع اسمه ممثلًا مهمًا في هوليوود إلا بعد دوره الأشهر في فيلم «صمت الحملان» في بدايات التسعينيات الميلادية من القرن الماضي، عندما قام بدور القاتل هانيبال لكتر بصورة مميزة ومفزعة رسخت اسم هوبكنز في صفوف أعظم الممثلين في تاريخ السينما، كما تُوِّج أداؤه في الفيلم بأخذه أوسكار أفضل ممثل.
لاحقًا مثّل هوبكنز أدوارًا جانبية ورئيسة جيدة، لكنه تميز بالتأكيد بفيلم «بقايا اليوم» (1993) من خلال أدائه المتقن لتقاليد صارمة تتعلق بخدمة النبلاء وذوي النفوذ، إلا أنه شارك في أفلام فاشلة مثل «الفجر» (1988) أو «ساعات اليأس» (1990) أو «البريء» (1993) ولزمه كثيرٌ من الوقت حتى عاد بأفلام مميزة مثل «أساطير الخريف» (1994) أو «نيكسون» (1995) أو «تَعَرَّف إلى جو بلاك» (1998) أما أفلامه الأخيرة بعد أن جاوز السبعين فكانت ضعيفة بصورة عامة، إلا أنه فاجأ الجميع بفيلمين رائعين هما «الباباوان» (2019) ثم عمله الذي حاز فيه بأوسكاره الثاني «الأب» (2020)، وهنا نحن نتابع مسيرة سينمائية عريضة تخللها كثيرٌ من الإخفاقات والأعمال المتواضعة أو الأعمال التي يهدف الممثل منها إلى «سداد فواتيره» بعد أن حقق ما يرضيه في مسيرته السينمائية.
الأمر نفسه قد ينطبق على المخرجين، إلا أن المحددات تختلف نوعًا ما، فعند متابعة مسيرة مخرج قد تتبلور رؤية أو توقعات معينة مع الوقت، فيمكن الحديث طويلًا عن نوعية ومستوى مخرج كبير مثل مارتن سكورسيزي، أو فرانسيس فورد كوبولا، وهنا لن أتحدث عن تاريخ السينما بقدر الإشارة إلى بعض النماذج المميزة وإن لم تكن مدارس سينمائية كبيرة مثل أندريه تاركوفسكي أو ألفريد هيتشكوك وغيرهما.  
عند مشاهدة أفلام مارتن سكورسيزي أو فرانسيس فورد كوبولا، نستطيع توقع مستوى معين من الإتقان، طريقة في التصوير والإخراج، أسلوب سينمائي يمكننا التواصل معه والحديث عن سماته والاستمتاع بمخرجاته، فأفلام روبرت دي نيرو التي أخرجها سكورسيزي تختلف تمامًا عن غيرها من الأعمال التي مثلها دي نيرو وينطبق عليها ما تحدثتُ عنه في مسيرة أنتوني هوبكنز.
عند الحديث عن مخرج مثل وودي آلن، وهو لا يُعدّ من المخرجين المُحتفى بهم عالميًا، وإن كانت أعماله مميزة ويُعدّ من المخرجين الأمريكيين ومخرجي نيويورك المهمين، فعند مشاهدة أفلامه نستطيع الحديث عن أسلوب سينمائي مميز وثيمات محددة ميزت سينما آلن، من الحديث المباشر إلى الكاميرا، والتواصل مع المُشاهد وتوجيه الكلام إليه، والاستطرادات خلال الحوارات، وتناول موضوعات ترتبط بالحب والعلاقات العاطفية والجنس، ومدينة نيويورك، والسياسة الأمريكية في دول أمريكا اللاتينية، ونحوها من الثيمات المكررة في أعماله، لكن تناول قضايا الحب والعلاقات والوجود سيختلف جذريًا عندما نتحدث عن مخرج رائد ومدرسة سينمائية كبيرة مثل مدرسة السويدي إنغمار بيرغمان الذي أعطى العلاقات الإنسانية أبعادًا أخرى في مجمل أعماله السينمائية.
في سينما المخرج الأمريكي ويس أندرسون يمكن توقع إخراج مميز وصور سينمائية مبهرة وألوان زاهية مع تناول عادي للأفكار، بينما نتوقع من المخرج السويدي روي أندرسن أفلامًا تلامس الوجود بمعناه الشامل والأعمق عبر إخراج مميز أيضًا وقوالب فنية مبتكرة تستطيع أن تؤثر في أغلب البشر بغض النظر عن اختلاف الثقافات.
رغم أن التفاوت في أعمال المخرجين حتمي بطبيعة الحال -فالجهود البشرية تتفاوت وتتطور مع الوقت وتتخللها الإخفاقات كما النجاحات- فإن متابعة الأفلام السينمائية بناء على المخرجين قد تدير توقعاتنا عما سنشاهد بصورة أفضل، وأفضل تعبير عن هذا ما قاله إيان كاميرون ونقله مايكل وود في كتابه «الفيلم» إذ قال: لا توجد أفلام ناجحة وأخرى سيئة، هناك فقط مخرجون ناجحون وآخرون فاشلون.
ويتناول مايكل وود في كتابه هذا العلاقة بين سينما الممثلين وسينما المخرجين، فيؤكد أن كثيرين من رواد السينما لم يفكروا في أهمية المخرجين في إنتاج الأفلام إطلاقًا، وأن أغلب رواد صالات السينما لا يعرفون المخرجين ولا يهتمون بهم، وكأن هذا الاهتمام منصب على «المولعين أو الشغوفين» بالسينما، إلا أن هناك عاملًا حاسمًا يتدخل في الموضوع أيضًا، وهو جذب الاستثمارات وتمويل إنتاج الأفلام السينمائية، وهي صنعة مكلفة جدًا، وهذا العامل الحاسم يقوم بصورة كبيرة على الممثلين ونجوم الأعمال السينمائية أكثر من المخرجين، وهذا مبرَّر عند النظر إلى الصناعة السينمائية باعتبارها صناعة تجارية تهدف إلى تعظيم الأرباح.
هناك طريقة ثالثة يتبعها مشاهدو الأفلام السينمائية، لم أتطرق إليها ها هنا، وهي طريقة رائجة أيضًا، وهي متابعة الأفلام السينمائية بناء على أنواع الأفلام، فتجد الشغوفين بأفلام الأكشن والجرائم، أو المحبين لأفلام الرعب، أو الكوميديا، وهذه الطريقة في تقديري من أكثر الطرائق عشوائية، وربما تُنتج مشاهدًا يرى كثيرًا من الأفلام دون أن يكون له أي اهتمام بالصناعة السينمائية أو السينما باعتبارها فنًا يقدم ما يفوق قضاء ساعة ونصف أو ساعتين وتناول الفشار في إجازة نهاية الأسبوع، فهنا يكاد أن يكون هدف مشاهدة الأفلام الوحيد هو إضاعة الوقت والقضاء على الملل، وهذا أيضًا هدف له معنى ولا يمكن لأحد التقليل من قيمته. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. بدر الراشد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا