مقالات

استيقظ غريغور سامسا، قائًلا: ميرا!

فلنتفذلك يا بسطاءُ

مثّلَ السطر الأول من نوفيللا فرانز كافكا «التحوّل»1 صدمةً للأدب العالمي: «استيقظ غريغور سامسا، إثر أحلام مزعجة، وقد ألفى نفسه متحولًا إلى حشرة عملاقة». هكذا، بلا مقدمات ولا تفسيرات لاحقة. إن هذه الدخلة الصادمة في الرواية مثّلت حالةً مستمرّة للوضع البشرية الحديث والمعاصر؛ حيث يمر الفرد بحوادث وحالات شتى لا يجد لها سببًا مقنعًا: خبطات متتالية، وعليك التصرف أو التكيُّف، ومن ثمّ محاولة فهم ما حدث. والفهم بذاته مشكلة، إذ ما من تفاسيرَ قطعية ولا شروحات ترضي اليقين ولو قليلًا: ما ثمةَ إلا تأويلات والسلام. إذن، من المنطقي أن هذه الخبطةَ، هذا السطرَ، يُوقع «ماركيز» من أريكته.2
بما يشبه هذا يخبطنا فيلم «ميرا ميرا ميرا» من إخراج «خالد زيدان» وكتابة «عبدالعزيز العيسى» -ولهذه الثنائية الفنية عودة- وإنتاج «بكر الدحيم» لهذا العام 2024. حيث عُرض الفيلم عرضه العالمي الأول من خلال فعاليات مهرجان البحر الأحمر. نقول: بما يشبه الطريقة الكافكاويةَ يخبطنا فيلم «ميرا» وإن كان على مستوى مختلف. إذ نشاهد بطل الفيلم، لأول مرة، مستيقظًا من النوم وقد "تحوّل" من كائن متكلّم إلى كائن "مُردِّد"، قائلًا: ميرا. هذه الحالة العجيبة التي وُضع فيها بطل الفيلم تضعنا، نحن المتلقين، أمام بُعدين شديدي التعقيد بخصوصه، الأول: ما الإنسان إذا ما فقد اللغةَ؟ والثاني: هل يظل الشرط الإنساني قائمًا بفقدان اللغة؟3
«الإنسان حيوانٌ ناطق» كما نُقل عن أرسطو، وشراحه من الفلاسفة العرب القدماء. والحيوان هنا، بطبيعة الحال، تعود للجذر اللغوي «حيا» أي أنه «حيٌّ»، وليس إلى معنى «الحيونة» كما في الاستعمال المعاصر؛ ومن هنا نقول بـ«التحوّل» وليس «الانمساخ». إلا أن شرط هذا الكائن -وهنا سنتجوّز ونتجاوز مشكلات فلسفية كثيرةً بالتفريق بين «الحيوان» و«الكائن» لا تعنينا في سياقنا- هو النطق، أي اللغة. أم أن النطق واللغة أمران مختلفان؟ لهذا نقول إن مجرّد الافتتاح في الفيلم بهذا الشكل يفضي إلى أبعاد شديدة التعقيد. لكن الأكيد أن البطل لم يفقد النطق في أقل حالاته، إنما فقد اللغة: وكأنه قد طُرِدَ من «بيت الوجود» بحسْب «مارتن هيدغر».. وهذا حقٌّ!
لقد طُرد بطل الفيلم وجوديًّا من حياته بالفعل. إذ يقرر ألّا يخاطب زوجته تمامًا، في اختيار للسلامة، مما يعطي الزوجة إيحاءً بأن الزوج غاضب عليها؛ وهو ما يعكس حالة الطرد على الزوجة، فكأنه هو من طردها من حيّزه. غير أن السلامة هشّة دائمًا؛ وهذا ما يحدث إذ يخطئ البطل ويرد على زوجته بـ ميرا. هنا يشتد الطرد الوجودي من الزوجة التي تطالبه بمعرفة من هي هذه المدعوة «ميرا». تأخذها الظنون ويأخذه الهرب. طرد وانزياحات: هذه هي النتيجة الطبيعية لفقدان اللغة.. يا «أمل»!
و«أمل» هو اسم زوجة البطل التي تعمل، لمساعدة الزوج ماديًّا، كما يتضح من حال طبقتهم الاجتماعية في سردية العمل، خيّاطةَ «كروشيه». و"الأمل" في مفهومه الفلسفي هو خيّاط وجودنا إلى الغد، لولاه لما أكمل المرء وجوده. إنما «أمل» الزوجة تطالب زوجها بمعرفة من هي «ميرا» هذه، مؤشرة في خطابها الحاد والمنزعج من تصرفات الزوج، لأكثر من مرة، على "الرجولة": "لو رجّال قول لي مين ميرا؟" تقول بما معناه «أمل» للزوج. هذا التكرار على عدم "رجولة" بطل الفيلم يأخذ الذهن في التأويل إلى جهة أخرى مختلفة تمامًا: إن فقدان اللغة هنا فقدانٌ للتواصل الجنسي بين الزوجين؛ فقدان للحب. في هذا الابتعاد المفاجئ لتأويلية الفيلم من اللغة إلى الجنس نُلفي أنفسنا قريبين جدًّا.
في نهاية المطاف، ما اللغة إن لم تكن عملية حسيّةً من التواصل؟ أي نعم، في سطحها الظاهر هي مجموعة من الرموز المتفق عليها صوتيًّا، أو كتابيًّا، لإيصال معنى زيد إلى عبيد. بيد أن الأمر أبعد من هذا وأوغر. قد يذهب بالُ المرء إلى الحسيّة بمعناها الجنساني، وهو ما لا ننفيه ولا نقتصر عليه. لنأخذ كلامَ الأصدقاء مثلًا، إن حوارًا بين صديقين صدوقين يحمل من الحسيّة والعاطفة ما قد يفوق مغازلات عاشقين؛ خصوصًا لو كانت الحالة متقاربةً. وهذا، بذاته، ما نلحظه في علاقة بطل الفيلم مع العم «صواب» (لاحظ اختيار الاسم). والعم «صواب» هذا رجل من شِيب الحارة مقعد على كرسي متحرك، أي أنه يعاني إعاقةً مثل بطل فيلمنا. وبرغم اختلاف الإعاقتين على المستوى العضوي إلا أن الإطار واحد. نلاحظ، في إحدى أذكى مشاهد العمل، أن التواصل الوحيد الفعّال بين البطل وأيّ من شخصيات الفيلم من حوله يتم مع العم «صواب». يقول العم لبطل الفيلم في المشهد الذي نعنيه، بعدما تورّط في التواصل معه: إذا أردت أن تقول نعم، قل «ميرا» واحدة، وإن أردت قول لا، قل «ميرا» مرتين. بهذه البساطة تُحلّ معضلةٌ، لا بسبب عبقريات لغوية ولا فذلكات كبرى بل بفضل الحسيّة المشتركة من الحالة الجامعة لهاتين الشخصيتين: هنا يعود بطل الفيلم إلى فردوس اللغة والشرط الإنساني لوهلة. وهلة وحسب تضيء «الأمل»، على النقيض من كرت «أمل» الذي أسقطه البطل سهوًا عند باب البيت.

فلنتبسّط أيها المتفذلكون

إن الحل البسيط الذي ابتكره العم «صواب» ينطوي، بالنسبة لنا، على مفهوم أوسع للبساطة ينطبق على العمل برمته. فليتفذلك المتفلذكون وليمرحوا بمعارفهم، إنما الدنيا أبسط من هذا بكثير، والفن للجميع؛ أو هذا ما يُفترض به. لم تكن محاولاتنا أعلاه في تأويل أجزاء من الفيلم فذلكات وحسب…
أي أن فيها فذلكات؟
ابتُلينا يا صديقي!
…بل هي محاولة لفتح شبابيك جديدة للفهم، وللتأكيد على أن العمل السعودي الجاد والأصيل قادر على أن يتفرع بين حقول عدة في الفهم والاشتباك من الفلسفة واللغة وعلم الاجتماع (هدد مدينة جدة بمقابل الهدد الحاصل لحياة البطل). كل هذا في شكل خارجي شديد البساطة يُمتع المتلقي البسيط -على ما في هذه التقسيمات من عبط- كما يحفّز الناقد والسينمائي على التفكير في مضمرات العمل الفني. إن تضافر هذين المستويين في الفيلم السعودي هو أشد ما تحتاجه الصناعة السينمائية عندنا في الوقت الراهن. أما المراهنة على التجاري البحت والسطحي الخفيف، فستخلق جوًّا من منتجين صغار يسلكون ما سلكته السينما المصرية مع «أفلام المقاولات»، والركون إلى «فذلكات المحنّكين» ستنفر عموم الجماهير من أفلامنا. لهذا فالتحية واجبة للعناصر الثلاث: المخرج، الكاتب، والمنتج. لأن هذا العمل دفعةٌ للحراك السينمائي إلى الجهة الصحيحة.

دويتو

هذا التعاون بين المخرج والكاتب ليس الأول. وإن كان التعاون السابق بفيلم «عثمان» يختلف اختلافًا كبيرًا عن تعاونهما في تجربة «ميرا ميرا ميرا» فالمؤكد والجامعُ بين التعاونين أن الرجلين وجدا خطًّا عميقًا من التفاهم الفني بينهما. يتضح هذا لمن قرأ القصة القصيرة التي أُخذ عنها الفيلم، فهي تكاد تكون قصة مختلفة عما يجري في الفيلم لولا العقدة الرئيسة (وللمفارقة، هي عقدة في لسان البطل!) في الحالة العجيبة لبطل الفيلم وبعض التفاصيل الصغيرة. الباقي تأثيث جديد لفضاء مفتوح في القصة، تأثيث بصري وسردي. وهذا يوحي بتفاهم كبير بين المخرج والكاتب، والأهم فهمُ كل واحد منهما على حدة لأدوات الآخر الفنية. هل يحتاج أن نقول إننا نحتاج هذا من أجل الصناعة السعودية؟ لكن تاريخها قصير بالعموم ولم تُفرز بعدُ كل أصواتها؛ وهذا بعينه مبشّرٌ في أن يكون لدينا هذا الدويتو برغم التاريخ القصير. من معاني هذا: أننا موعودون بأعمال أصيلة ترتقي لطموحاتنا في المستقبل. بين مخرج مختلف في رؤيته ومتكن من أدواته وبين كاتب ذكي في التفاصيل ولعُوبٍ مع اللغة؛ فخذ مثلًا هذه السخرية الذكية، كتابيًّا: إن اسمَ البطل، بعد كل هذه الغربلة التي مر بها هو: سعيد.. يا ميرا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.«التحول» وليس «الانمساخ» أو «المسخ» كما فضلت ترجمات أخرى معروفة. في نظرنا الأمر يتعلق بالتحولات من حالة إلى أخرى أو من كائن إلى آخر، وليس الانمساخ الذي فيه ضربٌ من التحقير بمقابل التحول الذي لا يدين. كما أن المفهوم في الثقافة الغربية، وعند كافكا، يتقاطع مع قصيدة الشاعر الروماني «أوفيد» وكتابه «التحولات». ومن هذا المفهوم تنطلق المقالة مع حالة بطل الفيلم.
2.يحكي «غابرييل ماركيز»، الروائي الشهير، أنه عندما قرأ «التحول» لأول مرة في حياته كان يستلقي على أريكة؛ وبمجرد إتمامه للسطر الأول وقع عنها لشدة صدمته. يردف «ماركيز» أن هذه النوفيللا هو ما جعل منه أديبًا.
3.بطبيعة الحال نقصد هنا اللغة بوصفها التواصل، في حدها الأدنى، ما يشمل لغة الإشارة التي تخص الصم والبكم. وهذا يضمّن الشرط الإنساني.
أ. سلطان محمد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا