«سرقات صيفية» ورسالة حب إلى الطفولة

أ. عمرو ممدوح
و
October 4, 2024

بينما يحاول يسري نصر الله أن يرسم بالكاميرا لوحاتٍ دافئة، كتحية خالصة لأيام الطفولة وبراءتها ونقائها، أحاول أنا جاهدًا أن أُسطّر بالكلمات تحية خاصة ليسري نفسه وفيلمه. هذه ليست مراجعة أو نقد بقدر ما هي رسالة حب لفيلم «سرقات صيفية» (1988).

هذا ليس فيلمًا عن ثورة يوليو وما بعدها، أو عن صراع الطبقات، أو عن الصراع بين الأجيال الكبيرة الجامدة والأجيال الجديدة والتي تعتنق الأفكار الثورية الخاصة بعصرها. بكل تأكيد هذه خطوط تُشكل وتنسج الحكاية، ولكن ما يوجد في منتصف كل ذلك هو الفارق بين طفولتنا وشبابنا وبين اللحظة التي ندرك فيها ذلك، أننا كبرنا، وأن كثيرًا من الأشياء التي اعتدنا رؤيتها وفعلها لم تعد موجودة، بين منازل تركناها وأحبّاء فارقونا وأصدقاء شتتتهم الحياة في أرضها وأسئلة تحيط بنا عن أنفسنا وعن العالم، لا نجد لها إجابة.

بين التسجيلي والروائي

يُعدّ فيلم «سرقات صيفية» هو أولى تجارب يسري نصر الله الروائية. تَبِعه بفيلم «مرسيدس» (1993) ثم الفيلم التسجيلي «صبيان وبنات» (1996) الذي ينطلق فيه من الحديث مع بطله، الممثل باسم سمرة، وعائلته، إلى رصد واقع الشارع المصري، وبالتحديد العلاقة بين الشباب والبنات، وبداخل كل ذلك حديث عن الحب، الحجاب، الذكورية، وعن سعينا الدائم لإيجاد شريك، فهو أقل الحقوق التي يمكنك الحصول عليها في الحياة عندما يُنتزع منك كل شيء.

يفعلها يسري هنا وفي «سرقات صيفية» بمنتهى الخفة والانسيابية: يتجول بالكاميرا راصدًا الواقع من دون أن تشعر أنه يتدخل؛ هو فقط يهمس في أذنك. لن تسمعه إلا إذا أنصتَّ بشدة. هو لن يخبرك برسالة أو هدف في نهاية الفيلم كما يفعل كثيرٌ من صانعي السينما في مصر، ظانين أنهم بجلوسهم خلف الكاميرا أصبحوا معلمين ونحن أمام الشاشة الكبيرة تلاميذهم.

يجلس هنا راصدًا ما يدور على السطح من دون أن يتورط. هو بارع في وضع الأُطُر ورصّ الصور بعضها خلف بعض، لتكون صورة أكبر عن حياتنا. ما يفعله يسري بكل بساطة أثناء هذا الهمس المشابه للنسيم الذي يدغدغ أذنيك، هو أنك تسمعه يقول لك: هل لاحظت ما لاحظته؟ فهو هنا يجلس على كرسي الراصد لا الأستاذ رغم أنه أستاذ خبير في صناعته، ولذلك فهو يدرك دوره ويؤديه بفاعلية ومهارة وشاعرية بالغة.

عالم يتداعى

تبدأ الحكاية عندما يتعرض عالَم الطفل ياسر إلى الانهيار. يسترق السمع إلى الخطاب المرسَل من أبيه لأمه، والتي يخبرها فيه أن رفضها لبيع الأرض وعدم مساهمتها برأس المال في افتتاح عيادةٍ قادرةٍ على توفير حياة مستقرة لهما ولأولادهما ما هو إلا دليلٌ على عدم ثقتها ورغبتها في عدم استمرار حياتهما معًا، وأن انحيازها الطبقي لعائلتها يؤثر فيها.

يستمع ياسر في البداية إلى رغبة والده في بدء إجراءات الطلاق، ولكنه لا يعي وقع ذلك جيدًا، لا يدري أن عالمه الذي عرفه سيتهاوى بلا رجعة، وأنه مقبل على حياة جديدة كليًا. يبدأ في الإدراك عندما يستمع إلى أمه «ريما» تخبر خالته «منى» أنها ستوافق على بيع الأرض من أجل زوجها لترد عليها منى في برود شديد بأن تترك الأطفال له وإن لم يستطع الإنفاق عليهم فليضعهم في مدرسة داخلية. من هنا يُصعق ياسر وينطلق في مسعاه للبقاء مع أمه، كل ما يحركه هو كيفية تحقيق هذا الهدف. بإمكانه فعل أي شيء أو الاستغناء عن أي شيء في مقابل تلك الأمنية.

بمَشاهد بسيطة يخبرنا يسري عن شخصياته، ملتزمًا بالقاعدة الأولى في السينما: «أرني ولا تخبرني»، القاعدة التي تهوى السينما والدراما المصرية كسرَها باستخدام التعليق الصوتي في التعبير عن مشاعر الشخصيات ورغباتها بصورة مبتذلة وركيكة، فنجد فجأةً أن كل الشخصيات تتحدث وتخبرنا بما تشعر من دون أن يكون أيٌ منهم هو الراوي بالأساس.

في الخلفية تشهد مصر حقبة جديدة بقيادة عبدالناصر ذي النزعة الاشتراكية، ويبدأ الصراع مع الإقطاعيين لانتزاع أراضيهم وإعطائها للفلاحين الذي يعملون بها. هنا نبدأ بالتعرف إلى الشخصيات رويدًا رويدًا، فالأخت الصغرى المترددة الضعيفة تلجأ إلى أختها الكبرى التي يبدو على طباعها القسوة والرغبة بالتضحية بأي شيء بما فيه حبها، في مقابل الاحتفاظ بالأرض وعدم الشعور أنها خسرت أمام مَن تظن أنهم أقل منها، فهم السادة الذي لن يستطيع أحد أن يصبح مثلهم مهما امتلك من أموال وأراضٍ، فهم يملكون الأصل الذي لا يُشترى.

يظهر الاختلاف بين الأختين عندما تحكي منى عن الحيلة التي عَمَّر بها الباشا -والدها- الأرض عن طريق إقناع البدو بأن هناك كنزًا ومَن يجده يكون من نصيبه. في النهاية لم يجد أحد الكنز، ولكن ببراءة الأطفال يسأل ياسر عمّا إذا كان الكنز لا يزال موجودًا. تجيب خالته: قطعًا لا، لترد أمه عليها: كيف عرفتِ؟ لترد الأخرى: ستظلين تحيين في أحلامك. ريما حالمة مثل ابنها، بسيطة ورقيقة رغم انفعالاتها الدائمة وصَبّ ما يحدث لها على ياسر، بينما منى صلبة جامدة تحاول أن تغلف أي مشاعر رقيقة بداخلها بقسوة مبالغ فيها كي لا تبدي ضعفها.

تختلف العصور ومصيرنا واحد

يبدأ ياسر رحلته في البحث عن الكنز لكي يظفر بالمال اللازم للبقاء في المنزل، وفي نفس الوقت تصل داليا ابنة خالته منى. داليا هي أقرب شخصيات الفيلم لجيلنا، ليس في نزعتها الاشتراكية الساخطة على عائلتها وأفكارهم، بل في نزعتها الثورية والرغبة في إصلاح ما حولها وإنشاء مجتمع متوافق مع أحلامها وطموحاتها، حتى لو ستُضحّي بفرصة السفر من أجل حياة أفضل في سبيل ذلك.

ولكن كما تُشبهنا في طموحها، تُشبهنا في خيباتنا، فبعد فترة، تدرك داليا استحالة تحقيق ذلك، لتسافر بلا عودة إلى الولايات المتحدة، الأرض التي تبتلع الجميع وتفترسهم، ولكن على الأقل تبتلعهم ولا تلفظهم.

لكن هل تتغلب الصداقة على الفوارق الطبقية؟

تمنع الأم ياسر من مقابلة صديقه ليل، ابن إحدى الفلاحات، ولكن رغم ذلك يقابله ياسر سرًا، وعندما يشاهد أحد الثعالب يخبر ياسر ليل أن الأغنياء يرتدون فراء الثعالب، وفي اليوم التالي وفي عيد ميلاد ياسر يحضر له فراء ثعلب بعد سلخه ويطلب منه أن يصوره متسائلًا: هل سأبدو مثل أهل مصر (القاهرة)؟

هذا أحد أجمل مشاهد الفيلم، فإن يسري قادرٌ على اختزال كل شيء في مشهد. ياسر يستنكر رائحة الفراء الكريهة، ويقابل ذلك غضبٌ من ليل الذي يشعر أنه مهما فعل، لن يتخطى السور الحائل بينهما، فرغم نقاء الصداقة، فإن كليهما لا يدركان فعليًا علاقتَهما. ياسر لا يستوعب عبارات وتصرفات طبقية تؤذي ليل، وليل لا يدرك أن صداقته مع ياسر بداخلها محاولة ترقٍّ طبقي. يحاول ليل جاهدًا أن يثبت لنفسه قبل ياسر أن باستطاعته أن يكون مثله.

وبكل براءة، يكلم ياسر الحائط، مرددًا بشكل متكرر: «هقعد مع ماما»، وكأنه بإصراره هذا يستطيع أن يُغيّر القدر، وكأن الحياة تنصاع إلى الإرادة القوية. لم يكبر ياسر ويعِ أن ما هذا إلا مجرد أحلام وأن الحياة ما هي إلا الصخرة التي تتحطم عليها إرادتك.

عندما يشعر ياسر أن الحلول قد نفدت وأن مصيره متجه إلى الذهاب للعيش مع والده، يُقدِم على تحويل قصة «روبن هود» -التي أحب قراءتها ولعبها- إلى حقيقة عن طريق سرقة بيوت الأغنياء. يحاول في البداية أن يقايض ليل أولًا بالصورة التي التقطها له لكنه يرفض، ثم يبتزه بأنه أنقذ حياته مرة وأن عليه رد الجميل. يوافق ليل، لا من باب التضحية بأي شيء في سبيل الصداقة، بل يوافق خوفًا من خسارة الصديق الذي اكتسبه والذي ربما كان يحلم بصداقته منذ زمن.

طاولة مليئة بالنساء

إخراجيًّا، يسري متألق في أولى تجاربه خلف الكاميرا؛ كل إطار مصنوع بعناية، الكاميرا حساسة للغاية، تتحرك بخطوات محسوبة ودقيقة، تعرف متى تقف ومتى تتحرك، لتلتقط كل شيء، راصدة في كادرات واسعة في الغالب حياةَ العائلة لتترك لنا الأحكام والتصورات، فهي مجرد راصد. يظهر أوجَهُ تألق يسري في مشهد الغداء: عشرة أفراد على الطاولة تتنقل الكاميرا بينهم بتمهل من دون قطعات مونتاجية مزعجة. يسري لا يحرك الكاميرا إلا بعناية وعند الضرورة ليجعل الصورة واقعية، ويتسرب بداخلك إحساس بأنك تشاركهم الطاولة.

ولإنك إذا أردت أن تنقل ثقافة عصرٍ ما بما يحمله أفراده من أفكار وآراء، فلن تجد أفضل من مشهد اجتماع على طاولة الغداء تَجَمَّع فيه كل الممثلين ليتحدثوا عن أي شيء وكل شيء. أذكر خصيصًا فيلمين نجحا في استخدام مشهد الطاولة في نقل روح الحقبة التي دارا فيها وهما «أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان» (2007) لكريستيان مونجيو و«امرأة القرن العشرين» (2016) لمايك ميلز، وربما الأخير يتشابه مع فيلمنا في كونه حكايةً تدور في عالم نسائي خالص. ربما أحد أسباب حبي لفيلمَي يسري وميلز هو شاعرية الحكاية، فما أجمل أن تتخيل عالمًا مليئًا بالنساء فقط! وكم يُكسب ذلك -عالم النساء- الحكايةَ كثيرًا من الرقة والجمال!

تجارب أولى، ولكن بديعة

الفيلم مليء بالأداءات التمثيلية الممتازة رغم كونها التجربة الأولى لهم جميعًا -والأخيرة لبعضهم- بما فيهم عبلة كامل ومحمد هنيدي في دور صغير للغاية. يذكر يسري في أكثر من لقاء رفْضَ نجوم كبار العمل في الفيلم خوفًا من اتهامهم من قِبَل الجمهور بأنهم ضد عبدالناصر الذي كان مقدَّسًا حينها وما زال.

بالإضافة إلى الأداءات الطازجة -لكونها تجربتهم الأولى- يضع يسري عديدًا من المَشاهد لإكساب الفيلم واقعية ساحرة. هو غير مكترث بأن يكون كل مشهد هدفه الأساسي تحريك الحبكة للأمام على غرار الأفلام الهوليوودية، بل المهم أنها تجعلك تشعر أنها حكاية عن أناس يشبهوننا وليست حكاية خيالية. لا تساهم هذه المشاهد في إكساب الفيلم مزيدًا من الواقعية فحسب، بل أيضًا في ترك مذاق حلو وشعور طيب بداخلك لما تحتويه من عذوبة ورقة، كمشهد المانجو والعسل، ومشهد المن والسلوى.

ربما -قبل الانتهاء من الحديث عن الممثلين- لا بد من ذكر أداءٍ ترك بصمة واضحة لصاحبه رغم صغر وقته، وهنا أتحدث بالتحديد على شهدي نجيب سرور. كانت هي التجربة الوحيدة لشهدي في عالم السينما والتي وددتُ أن تكون له فيها تجارب عِدّة، فهو يُشعرك أنه يمثل طليق اليدين، كما أن لحضوره طلة محببة للقلب. رحل شهدي منذ أكثر من ثلاث سنوات في السابعة والخمسين من عمره، فسلام لروحك يا شهدي، لعلك تجد في الموت الراحةَ التي لم تمنحها لك الحياة.

محاولة إصلاح الماضي

في النهاية، يتم القبض على ليل فقط، ثم يقفز بنا يسري عشرين سنة للأمام وبالتحديد إلى سبتمبر عام 1982 لنجد ياسر قد أصبح شابًا، ولكن لم يعد متوهجًا كما في الصغر. يمسك في يديه صورة ليل التي التقطها في صغره، ونرى الندم يتسرب إلى وجهه ببطء، ليبدأ رحلة البحث عن ليل، وخصوصًا بعد معرفته أنه مسافر في الغد إلى العراق، وذلك لكي يعطيه صورته، وهو أقل عرفان يقدمه من أجل صداقتهما في الماضي، وربما يستطيع استعادة ما تبقى منها.

يذهب ياسر إلى بيت ليل لكنه يتهرب من مقابلته، ثم يذهب لمكانهما السري الذي طالما كانا يجلسان فيه معًا، وعندما يلتقيان يفر ليل راكضًا، لكن يلحقه ياسر، ويحتضنه ويشرح له ما حدث. يخبره ليل أنه كرهه عندما ساومه بإنقاذ حياته، ويرد ياسر أنه لم يحب أحدًا مثله. ربما لم يستوعب الطفلان الحياة ومعضلاتها وتأثيرها فيهما وقتها، ولكن بكل تأكيد لحظات الصداقة النقية بين الطفلين هي صداقة خام في أجوَد صورها. لم يعد ياسر متوهجًا لأنه أدرك أن كل ما هو حوله يتبخر، البيت هُدم، داليا سافرت، عبدالله مات في الحرب، أرض أمه بيعت، عائشة مُصابة بالسرطان وستموت، وصديق طفولته سيسافر.

هذا هو جوهر الفيلم، الفارق بين إيماننا بالتغيير وقدرتنا على تحقيق المعجزات، رغم أننا لا نملك أي شيء ورغم صغر وضعف قدراتنا، وبين معرفتنا باستحالة حدوث ما نتمنى وأن أقصى ما في أيدينا التماهي معه، رغم أننا كبرنا وأصبح لدينا من الإمكانات ما يؤهلنا لإحداث فارق أكثر بكثير مما كنا عليه صغارًا، ولكن ما راكمناه من خبرات وخيبات هو ما أوصلنا إلى هذه القناعة.

شاعرية الطفولة وبراءتها

في اللوحة الكبيرة حكايات عن الطفولة وجمالها، عندما كانت أحلامنا بسيطة، نظن أننا قادرين بسهولة على تحقيقها، وأنه مهما واجهتنا الصعاب، توجد حلول وبإمكاننا تجاوز أي شيء بالدعاء أو بمخاطرة بسيطة.. عندما كان كل شيء زاهٍ ولامع ونقي -فإن نقاء الأطفال هو ما نبحث عنه وفقدناه- وكل ما يهمنا في الإنسان أن يكون طيّبَ القلب، أن يكون صديقًا عن حق وأن يقف بجانبنا عندما نحتاجه وخصوصًا في أوقات الشدة، ليخاطر بكل شيء من أجلنا دون أن يتردد أو يفكر، بلا أي اعتبارات لشكل أو جنس أو فوارق طبقية؛ تجمعنا جنسية مشتركة تؤلّف بين قلوبنا، وهي الطفولة.

هذا ما افتقدناه بمرور الوقت، ليحل محله شك مؤرق وشعور أن العمر يُسرق منا وأن الموت يقترب وأن الحياة تُسحب من تحت أقدامنا بِرَوية دون أن نشعر بتحوُّلنا لكائنات أشبه بالآلات تفتقر إلى المشاعر والأهم من كل ذلك تفتقر إلى راحة بال الطفولة ونقائها. مع اقتراب نهاية الفيلم، يراودني حنين إلى الماضي كما كان يراود ياسر حنين إلى البيت القديم وإلى اللعب مع ليل وإلى حياة بسيطة لا يُضطر فيها أحد الصديقين إلى ترك الآخر أملًا في فرصة أفضل للحياة، وفي خاطري -وربما في خاطر ياسر أيضًا- رجاءٌ وهو: يا ليت الطفولة تعود يومًا.. ولكن يبقى السؤال: هل يكفي يوم واحد؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى