«الأب» والنسيان كلغة حياة

عتيق عبدالله
و
April 16, 2025

لا يكون الألم واضحًا وملموسًا في المشاهد التي توثِّق ضياع الذاكرة، وإنما في الإدراك المروِّع أنَّ الضياع ذاته قد يلازمكَ لبقيَّة حياتك، وكذلك في أن يعيش الإنسان داخل عالمٍ يتفكَّك دون أن يلاحِظ ذلك. لا توجد لحظةٌ محدَّدةٌ يبدأ فيها التلاشي، لا إنذار، ولا فاصلٌ واضحٌ بين ما هو حقيقيٌّ وما هو متخيَّل، بل انزلاق بطيء نحو الفراغ، نحو العدم. وفيلم «الأب» (The Father - 2020)، من بطولة أنتوني هوبكنز (أنتوني الأب) وأوليفيا كولمان (آن الإبنة)، لا يروي لك حكايةً عن الخرف، بل يدفعُكَ إلى تذوُّقه، يجبرك على التلمُّسِ بأطراف أصابعك هشاشة الإدراك قبل أن ينكسرَ بين يديك.

لم تُتَح لي فرصة مشاهدة الفيلم إبَّان فترة عرضه الأوَّل. شاهدته متأخرًا بعد سنوات من صدوره، بعد أن فاتتني فرصة رؤيته على الشاشة الكبيرة، حيث كان يمكن للصورة والصمت أن يمْلآ القاعة بثقلهما. شعرتُ أنَّني فوَّتُّ شيئًا عظيمًا، ليس الفيلم فحسب، بل اللحظة التي كان يجب أن أعيشه فيها، أن أتركه يبتلعني وأنا في الظلام، محاطًا بغرباء، كما لو أنني واحد من الأشخاص الذين يعبرون حياة أنتوني دون أن يتذكرهم. ولكن ربَّما هذا التأخير، بحدِّ ذاته، كان مناسبًا، فالفيلم جاء في وقتٍ لم أعد أنتظره فيه، تمامًا كما تفقد الأشياء معناها حين تصبح خارج زمنها.

تخيَّل أن تستيقظ داخلَ غرفةٍ لا تعرفها، محاطًا بوجوهٍ تبتسمُ لكَ وكأنَّها تعرفك، فيمَ أنتَ عاجزٌ حتَّى عن تذكُّر أسمائها. تخيَّل أن تُمسِكَ صورةً من ماضيك، فتشعر بشيءٍ ما مألوف، لكنَّه يتلاشى قبل أن تتمكَّن من القبض عليه. هذه ليست مجرَّد لحظاتٍ سينمائيَّة، بل هي محاكاةٌ حيَّةٌ لأعمق المخاوف الإنسانية بدائية: أن تفقد ذاتك وأنت ما تزال على قيدِ الحياة.

يأخذنا الفيلم إلى داخل عقل أنتوني، لا كمراقبين، بل كمشاركين في دوَّامة معاناته. لا تسير المَشاهِد وفق خطٍّ زمنيٍّ ثابت، فالأثاث يتغيَّر، والوجوه تُستَبدل بأخرى دون تنبيهٍ مسبق. وخلال لحظةٍ واحدةٍ يجدُ نفسَه في مكانٍ آخر، محاطًا بأشخاص آخرين، كأنَّ الزمن ينكمشُ ويتلاشى أمامه. وبينما أكتب هذا السطر، يتبادر إلى ذهني مثال حيّ يجسد هذا الشعور.

أكتب هذا الجزء من المشهد داخل مقهى في المدينة المنورة وحولي الكثير من الوجوه الغريبة والأحاديث المتداخلة. أرفعُ عيني عن الشاشة للحظة، وعندما أعيد النظر، أجدُ نفسي في الرياض، في العمل تحديدًا. لم يكن رحلةً ولا انتقالًا حقيقيًّا، بل  قفزة مفاجئة عبر الزمن والمكان. ما إن أستوعب ذلك حتى تأتيني مهمَّةٌ ويبدأ الجميع في الشرح والحديث عن مشروعٍ ما، وتملأ الكلمات الغرفةَ وكأنَّها امتدادٌ لحياةٍ كنت أعيشها دون أن أدري. وبعد خمسِ دقائق أجدُ نفسي في البيت، والغرباء الذين رأيتهم في المقهى يسكنون معي، وكأنَّ الواقع نفسه يتلاشى مع وعيه. كلُّ شيءٍ يبدو حقيقيًا للحظة، ثم يتبدد ليصبح موضع شك، لا يوجد يقينٌ أو شيءٌ يمكنكَ الإمساكُ به، ولا وجهٌ مألوفٌ يبقى كما هو. في عالم أنتوني، لا يوجد أمس ولا يوجد غَد، فقط لحظاتٌ منفصلة، معلقةٌ في الفراغ، تائهةٌ بين الحقيقة والوهم.

هنا تكمن قسوة الفيلم: لا أحد يشعر بما يمر به أنتوني. الأشخاص من حوله يتحدَّثون إليه بلطف، يبتسمون بحنان، لكنَّهم غرباء، حتى لو كانوا أبناءه. لا أحد يرى المتاهة التي يعيش فيها، لا أحدَ يسمع صرخته الصامتة وهو يتشبَّثُ يائسًا بأيِّ شيءٍ مألوف، أي شيء يمكنه أن يثبِّت قدميه وسط هذا الانهيار البطيء. هذه ليست مجرد مأساة شخصية، بل انعكاس لذاك الخوف الدفين في أعماقِ كلِّ إنسان: ماذا لو كنت يومًا ما على قيدِ الحياة، لكنَّك لم تعد موجودًا؟

حين ينطق أنتوني بجملته البسيطة «أنا لا أعرف من أنا بعد الآن» في نهاية الفيلم، لا تبدو مجرَّد كلمات، بل سقوطًا كاملًا، لحظةَ استسلامٍ وانهيارٍ لإنسان تجرَّد من كلِّ شيء، حتَّى من ذاته. هنا لا يمكن للدموع أن تعيد الذكريات، ولا يمكن للعناقِ أن يعيد الزمن إلى الوراء. كل ما يبقى هو الفراغ والوحدة، وصوتٌ خافتٌ لطفلٍ صغير يبحثُ بيأس عن والدته وسطَ عالم غريب، عالمٌ لم يعد لهُ وجود.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى