كيف تكون الحياة إذا كان بإمكانك فصل ذكريات عملك عن ذكرياتك الشخصية؟ بالنسبة إلى كثيرين، فإن فكرة عدم إحضار عملك إلى المنزل بمثابة حلم، حيث يتسنّى للمرء أن يعيش حياته الخاصة من دون هموم ومشاغل الوظيفة، لكن مسلسل «شَطْر»، الذي كتبه دان إريكسون وأخرجه بن ستيلر وأنتجته منصة «آبل تي في بلس»، يثبت أنه كابوس.
تجري معظم أحداث «شطر» داخل جدران شركة «لومون»، التي تقوم بشطر ذاكرة موظفيها، بعد أخذ موافقتهم، عن طريق القيام بعملية جراحية وزرع شريحة إلكترونية تعمل فور دخول الموظفين مصعد الشركة. بطل المسلسل مارك (آدم سكوت) الذي فقد زوجته مؤخرًا، يعتقد أن فصل الذاكرة هذا سيساعده في التغلب على وفاة زوجته. لا يملك أحدٌ في الشركة أي ذاكرة عن الحياة خارج مكان العمل، أما الموظف خارج الشركة فلا يتذكر أي شيء. وليس لدى الموظف أي فكرة عما يفعله بوقته، وأي مخاوف وأعباء يتحملها في الخارج. كل موظف محاصَر في عبودية مستمرة للشركة الغامضة، ولا يعرف سوى جدران المكتب الصارخة والمضاءة.
يعمل مارك في قسم تحسين البيانات الذي يحمل عنوانًا غامضًا، جنبًا إلى جنب مع ديلان (جاك شيري)، وإيرفينغ (جون تورتورو) ورجل الشركة المتطلب ميليتشيك (تراميل تيلمان) وهيلي (بريت لوير) التي تظهر عليها علامات الملل على الرغم من كونها جديدة في الشركة. يتلخص عمل الفريق في وضع سلسلة من الأرقام في «صناديق» رقمية لمدة ثماني ساعات يوميًا. ليس لديهم أي فكرة عن الغرض الأكبر من هذه المهمة، ولا يُسمح لهم بالتواصل مع بعضهم خارج مقر العمل، بل إنهم ممنوعون من أخذ قصاصة من الورق معهم عندما يغادرون عملهم إلى المنزل.
يعمل الفريق جاهدًا للحصول على امتيازات عادية محبطة: استراحات الرقص، مكعبات الكريستال، أطباق البيض، وحفلة «الوافل» التي تُعتبر أيضًا عرضًا هزليًا. إنها وسائل إلهاء رخيصة لمنع مارك والآخرين من طرح الأسئلة التي طرحها عديدٌ من العمال في حياتهم: ما الذي نفعله هنا بالضبط؟ ومع ذلك، بطبيعة الحال، يبدأون في الغضب من القيود المفروضة على عملهم، فيما يشرع مارك خارج العمل بالتحقيق في الشركة التي عرض عليها نصف عقله. يبدأ صراعه مع الشركة حين يقابل «بيتي»، وهو موظف قديم اختفى في ظروف غامضة وكان يُحذّره من الشركة، ومن ثم يحاول البحث عن طبيعة المكان الذي يعمل به، إلا أنه لا يملك أي ذكريات عن طبيعة عمله، وكذلك تحاول هيلي -التي خضعت مؤخرًا للشطر- أن تهرب، وكلما يعيدونها تحاول الهرب مجددًا. كل هذا يساعد مارك في كشف الطبيعة الحقيقية للمكان والوظيفة الغامضة التي يؤدونها.
يتميز المسلسل بعددٍ قليل من الشخصيات وأماكن التصوير، ما يجعله يعتمد أكثر على تطوّر الشخصيات، ولكن من الواضح أنه في هذا العمل التلفزيوني قليل الكلام والحركة والإثارة، تمتلك الكاميرا السلطة العليا، ففي جميع حلقات مسلسل، نرى الموظف في طرف الصورة، أو في الصورة من بعيد، أو يتم تصويره من أعلى، أو بشكل مقرب بعدسات مشوهة، وتنجح الكاميرا دومًا في تقديمه كموظف نكرة وبلا أهمية. وطبعًا، كلما ازدادت درجة الفرد الوظيفية في الشركة يقترب من قلب الصورة، توضيحًا لسلطته.
تترك المساحات الفارغة والردهات البيضاء الطويلة والمتشابهة، وتصميم الشركة الداخلي المبني على نحو غير مريح وخانق، انطباعًا أن المكان عبارة عن متاهة أو سجن أو مقر عمل للأشباح. ممرات لا نهاية لها، مساحات مقفرة وزوايا نظيفة وأبواب موصدة، تُربك مَن بداخلها وتخفي المدى الكامل لها، وتظهر جميعها باللون الأبيض والرمادي والأخضر. ومن خلال الموسيقى واللقطات الفردية الطويلة نسبيًا، تشيع الكاميرا بمهارة وبشكل غير شعوري جوًا مستمرًا من التهديد. تُثبت الكاميرا، التي تستجيب لسلطة الشركة الغامضة، أن الرعب يكمن في الأشياء الأنيقة والمنظّمة والتي تبدو مثالية. يستفيد بن ستيلر من أجواء فيلمه «ليلة في المتحف» من حيث المساحات الفارغة والردهات الطويلة والأحداث العجائبية في هذا العمل، إذ يتعمق الشعور بالجهل والفزع حول طبيعة الشركة، ليس بسبب جهل الموظفين فقط، بل أيضًا ببعض المشاهد الغرائبية مثل مشهد راعٍ يرتدي فوق بزته الرسمية مِئزرًا ويقوم بإرضاع أغنام صغيرة في إحدى غرف الشركة .
تتواءم اللغة البصرية بشكل مثالي مع الحوارات، إذ إنه برغم جدية المسلسل في جوهره، تتخلله روح دعابة جافة وباردة. وإلى جانب التوكيد البصري على ضآلة الموظف، يلجأ المخرج إلى تقنية التلصص في تصوير الشخصيات للتدليل على أن أفراد الشركة الغامضة تحت الرقابة طوال الوقت. تقنية التلصص تُذكّر بسلطة الأخ الأكبر في رواية 1984 لجورج أورويل، وتقترب من مسلسلَي «بلاك ميرور» و«مستر روبوت».
الولاء الوحيد في المسلسل هو ولاء الفرد للنظام، وليس العكس، ومن المفارقة أن المقابلات اليومية لمعرفة مشكلات الموظفين الشخصية هي للتنكيل بهم وليس «لمعالجة» أمورهم. مهما أقنعوا الموظف بأن شركته هي «بيته الثاني»، عندما يسيء الموظفون التصرف، ترسلهم الإدارة إلى مكان يُسمّى غرفة الاستراحة، حيث يُمارَس العنف النفسي، ويُكرَه الموظف على طلب المغفرة مرارًا وتكرارًا، بوجود آلة تشبه جهاز كشف الكذب تختبر صدقهم. الجزء المرعب حقًا هو أن كفاحهم وتمردهم يبدو خياليًا، ولكنه يتحدث عن شيء حقيقي، مع تشابهات مثيرة للقلق مع حياة كثيرين منا.
ورغم أن الكاميرا تُعبّر عن سلطة الرقابة في الشركة، من الملاحظ أيضًا أنها تخضع إلى عملية «شطر» بدورها، ففي النهاية من كل حلقة، يتعدل التصوير الخانق والمشوه والمتحيز إلى الوضع الطبيعي حينما يعود الموظفون إلى منازلهم، وتنتقل الكاميرا من ذات الرقيب إلى الموظف، حيث تحتفظ بألوان دافئة وغنية وإضاءة متفرقة إلى حد ما، وكذلك تتحرك الكاميرا أكثر في الخارج، على عكس حالة الثبات الدائم في الشركة، وهو تعبير بصري عن المساحة الآمنة التي لا تخضع للرقابة والتلصص والسيطرة. ينتهي الموسم الأول بكثيرٍ من الأسئلة وقليلٍ من الإجابات، ولكن حتى يصدر الموسم الثاني الذي تأخر عرضه وطال انتظاره، ما زال هناك كثيرٌ من الأحداث المشوقة والتفاصيل التي تستحق المشاهدة والكتابة عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش