«هناك عفن في الفاتيكان». إن كان لنا أن نستعير جملة مارسيلوس هذه عن الدانمارك في مسرحية هاملت لشكسبير، وذلك عند حديثنا عن فيلم «كونكلَيف» (Conclave) للمخرج إدوارد بيرغر، فذلك لأنَّ خلْف عظمةِ كاتدرائيَّة القديس بطرس، وتحتَ السقوف الجداريَّة لكنيسة سيستينا، تتجمَّع بوادرُ عاصفة. لقد مات البابا، وأغلق الكرادلة، المُرتَدِين للأحمر والمتمتِّعين بالسلطة، والذين أقسموا قبل كلِّ ذلك على خدمة الله، الأبوابَ على أنفسهم استعدادًا لاختيار خليفةٍ له. لكنَّنا لسنا أمام اختيارٍ إلهيٍّ هنا، ولا دعوة مقدَّسة، بل هي حربٌ كما يقولُ أحد الكرادلة.
هؤلاء المجتمعونَ هنا ليسوا مجرَّد كهنة؛ بل هم سياسيُّون، ملوكٌ بلا تيجان، يحكمونَ إمبراطوريةً ليست مبنيَّةً على الأرض، بل على الإيمان. والآن، بينما تقفُ الكنيسةُ على مفترقِ طرق، يخوض الكهنةُ هذا الصراع من أجل تحديد مستقبلها. فإمَّا أن تسقط الإمبراطوريَّة الكاثوليكية، وإمَّا أن يحدث تطوُّرٌ داخليٌّ في السلطة السياسيَّة، يواكبُ التوجُّهَ التقدميَّ الراهن.
بعد أن تم رسم خطوط المعركة داخل جدران الفاتيكان، صار مُحتّمًا على الكاردينال توماس لورنس (رالف فاينْس)، أن يترأس انتخاباتٍ ليست سلميَّةً على الإطلاق، إذ ينبغي عليه أن يكون محايدًا أثناء إشرافه على العمليَّة. ليس عليه أن يوازن بين المصالح المتباينة للكرادلة فحسب، بل عليه أيضاً أن يتجاوز شكوكه الخاصة تجاه الكنيسة وقيمها. وبينما يكون واضحًا، من البداية، إلى أيِّ جانبٍ يقف الكاردينال لورنس، إلا أنَّ السؤال يبقى قائمًا حول حقيقة استعدادِه للقيام بما يمنعُ الطرف الآخر من الاستيلاء على السلطة. والحقيقة أنه يصبحُ - في سياقِ الانتخابات - ضحيَّةً لما وصفه هو نفسه فيما مضى بالخطيئة الكبرى: اليقين الذي يتجلى بوصفه انعكاسًا للغطرسة البشريَّة، تمامًا مثل عيوب جميع أولئك الذين يتنافسون في النهاية على أعلى منصبٍ في الكنيسة.
يؤمنُ الكاردينال ألدو بلِّيني (ستانلي توتشي)، وهو إصلاحيٌّ ودبلوماسيٌّ بارع، بأن على الكنيسة أن تمضي قُدُمًا لتظلَّ ذات شأن، محذرًا من أنَّ الجمود قد يؤدي إلى تلاشي أهمِّيتها، فتراه يتحدَّث عن الاندماج والحداثة، وعن كاثوليكيَّةٍ تتكيَّف مع التغيُّرات بدلًا من أن تنهار أمامها. هذه الميول الإصلاحيَّة لدى الكاردينال بلِّيني يعارضها - بنفسِ القدر من الحماسة - الكاردينال غوفريدو تيديسكو (سيرجيو كاستِلِّيتو)، وهو رجلٌ لا ينظرُ إلى ماضي الكنيسةِ كعبء، بل يراه طريقًا لخلاصها. هذا الأخيرُ يتوقُ إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ومحو الإصلاحات الليبراليَّة التي حدثت في العقود الماضية وبالتالي استعادة ما يراه قوَّةَ الكاثوليكية المفقودة. فبالنسبة له يمثِّل التغييرُ انحرافًا، في حين أنَّ التقاليد هي جوهر الحقيقة. وعلى هذا النحو ستصبحُ الكنيسة مرَّةً أخرى - إن حالفه الحظ وفاز بالإنتخابات - قلعةً حصينةً في مواجهة العالم الخارجي، وستقفُ صامدةً أمام تيَّار التقدُّم والإصلاح.
وهكذا، تُدلى الأصوات، وتُنسج التحالفات في الظلال، عبر اجتماعاتٍ سريَّةٍ تُعقد في الممرات المعتِمة والكواليس البعيدة، حيث لا مكان للشفافية، وتُصبحُ السلطة هي الحقيقة المطلقة التي تُحدِّدُ مسارَ كلِّ شيء.
يجد الكاردينال جوزيف تريمبلاي (جون ليثغو)، وهو رجلٌ ذو خبرةٍ واسعةٍ ودهاءٍ هادئ، نفسه في قلب فضيحةٍ كبرى، حيث يُتَّهمُ بالتورُّط في شراءِ النفوذ داخل أروقة الفاتيكان. هذا التورُّط الذي يؤدِّي إلى سقوطه السريع، ولكن ما يتراءى لنا أنه النهاية ليس سوى البداية لفصولٍ مأساويَّةٍ أخرى. يشاهد الكاردينال جوشوا أدييمي (لوسيان مساماتي)، الذي يُعتبر صوتًا محافظًا، تطلُّعاته الخاصة وهي تنهارُ أمامه تدريجيًا، بينما يبدأ ماضيه في الظهور على السطح؛ حيث تتكشَّفُ علاقةٌ سريَّةٌ دامَت لعقود، ليُكشف عن سرٍّ أبويٍّ غير متوقعٍ في أعماقِ تلك العلاقة. فجأةً يظهر الأسقف بينسنت بينيتِث (كارلوس دييث)، المرشَّحُ غير المتوقع الذي أرسله البابا الراحل، ليقلبَ المعادلةَ تمامًا، فدعوته للسلام والمصالحة تتناقضُ بشكلٍ صارخ مع دعوةِ تيديسكو الرجعيَّة للحرب الدينية، خاصَّةً بعد التفجير الانتحاريِّ في روما الذي يهز أركانَ الكنيسة، مغيرًا مسار الصراع، ومحولًا الحرب الأيديولوجية إلى تهديدٍ أكثرَ خطورةً بكثير. يصبحُ الهجومُ بمثابةِ صرخةٍ حاشدةٍ لتيديسكو، الذي ينتهزُ الفرصةَ للمطالبةِ بالعودة إلى الكاثوليكيَّة المتشدِّدة؛ المجسَّدة في صورةِ هذه الكنيسة التي لا تعتذرُ ولا تستسلم. وفي الوقت ذاته يدعو بِلِّيني إلى المصالحة، مُؤكدًا على ضرورة فتح طريق نحو رأب الصدع بدلًا من الاستمرار في الانقسام.
يتأرجحُ المجمَّع على حافة الفوضى، وتقفُ الكنيسةُ على شفا هاوية. ثمَّ بعد ذلك، وفي تطوُّرٍ لم يكن لأحدٍ أن يتنبَّأ به، يُنتخبُ بينيتث بابا جديد. يصمتُ كلُّ من في القاعة من كرادلةٍ وحضور، بما في ذلك بينيتث نفسه. وبينما يُوشكُ التاريخ أن يُصنع، يقدِّم البابا الجديد، الذي سيطلقُ على نفسه اسم "البريء"، كشفًا يهزُّ أركان الكنيسة:«أنا ما خلقني الله عليه!». سأقف هنا لأترك فرصة اكتشاف ذلك من خلالِ مشاهدة الفيلم.
يمثل المتنافسون الأربعة الرئيسيون على منصب البابوية أقطابًا أيديولوجية متمايزة: الإصلاح التقدمي (بلِّيني)، والمحافظة المتشدِّدة (تيديسكو)، والبراغماتيَّة المعتدلة (تريمبلاي)، والتنوع الثقافي (أدييمي). ومن خلال نقاشاتهم ومناوراتهم يسلِّط الفيلمُ الضوءَ على المعضِلات المجتمعيَّة في نطاقها الأوسع، انطلاقًا من الشموليَّة وصولًا إلى الخوفِ من فقدان الهويَّة في عالمٍ سريع التحديث. لا يصوَّرُ هؤلاء الكرادلة على أنَّهم قدِّيسون معصومون من الخطأ، بل كأشخاصٍ يواجهون نقاط ضعفهم وأخطائهم البشريَّة، فهم مبتَلون بالغرور والطموحِ والشك. نرى الكرادلة يدخلون واحدًا تلو الآخر، واقفين في مجموعاتٍ صغيرةٍ كالشباب، يدخِّنون سيجارةً تلو الأخرى، حتى تتراكم أعقاب السجائر سريعًا في زوايا الفناء الحجري، ويحدِّقُ العديد منهم في هواتفهم الذكية، وهم ليسوا بمنأى عن التفتيش الأمني المشدَّد قبل دخول القاعات المقدسة. يعاني معظم هؤلاء الكرادلة من مشاكل شخصيَّة: لورانس يعاني من أزمةِ إيمان، والكاردينال بلِّيني يشكُّ في صلاحيَّته للمنصب الرفيع، ويُشاع عن منافسِه تريمبلاي أن البابا قد طرده قبل وفاته مباشرةً لسوء سلوكه الفادح، وأيضًا يعاني رئيس الأساقفة يانوش فوجنياك (ياتسيك كومان) من الإدمان على الكحول والذي يصعب إخفاؤه.
في جوهره، يمكن اعتبار الفيلم انعكاسًا مصغَّرًا للصراعات المعاصرة حول السلطة وآلياتها داخل الكنيسة الكاثوليكية، والتي تشكِّلُ مؤسَّسةً عالميَّةً على الرغم من طابعها الديني. ويستعين الفيلم بالانتخابات البابويَّة السريَّة كأداةٍ لتشريح هذه التوتُّرات وكشف تعقيداتها.
جدل مؤدلج أم دراما سطحية؟
يقدِّم الفيلم نفسه على أنَّه فيلمٌ تشويقيٌّ مكثَّفٌ عن الفاتيكان، واعدًا باستكشافٍ مثيرٍ للسلطة والإيمان والانشقاقات الأيديولوجية داخل الكنيسة الكاثوليكيَّة. ومع ذلك، وعلى الرغم من بنائه المصقول، إلا أنَّه يقدم في نهاية المطاف مُعالجةً سطحيَّةً للقضايا التي يطرحها. يتطرَّق الفيلم إلى الفسادِ ودور المرأة والسلطة المؤسسيَّة، لكنَّه يكتفي بتوظيفها كعناصر سرديَّة داعمة، دون التعمُّق في تحليلها أو تقديمها كمادَّةٍ للنقاش الجاد. والنتيجة فيلم ينشغلُ بخلق أجواءٍ من التشويق أكثر ممَّا يسعى إلى تقديم دراسةٍ جادَّةٍ لمضمونه.
يكمن أحد أبرزِ عيوبِ الفيلم في تبسيطه المفرط للصراع الأيديولوجي، حيث يقدَّمُ الانقسامُ بين المحافظين والإصلاحيِّين بأسلوب مُختزل يُضعف عمقه. يُصوَّرُ الكاردينال تيديسكو كرجعيٍّ مبالِغٍ في تقليديَّته، وتتَّسم شخصيَّته بتشدُّدٍ مفرطٍ يجعله أقربَ إلى صورةٍ كاريكاتوريَّةٍ منه إلى شخصيَّةٍ متكاملة. في المقابل يظهرُ الكاردينال بلِّيني كمصلحٍ حسن النية، حيث يُقدَّمُ على أنَّه محورٌ للأخلاقيَّات في الفيلم دون أن يواجه تحدِّياتٍ حقيقيَّة. هذه الثنائية الجامدة تسلبُ القصَّةَ من تعقيدها الممكن، فيبدو كما لو أنَّ الفيلمَ يتبنَّى موقفًا سياسيًا بدلاً من طرحِ استجوابٍ جادٍّ للمعضلاتِ التي تواجهها الكنيسة. وبدلًا من استكشاف صراعٍ أيديولوجيٍّ غنيٍّ ومتعدِّد الطبقات، يسيرُ الفيلمُ في مسارٍ متوقَّعٍ يخلو من الغموض، والذي كان من الممكن أن يضفي عليه مزيدًا من الإقناعِ والواقعية.
في فصله الثالث، يقوِّضُ الفيلم التوترَ الذي بُنيَ بعنايةٍ في الثلثين الأولين منه، فبعد تمهيده لساحة معركةٍ أيديولوجيَّةٍ معقَّدة، يحسمُ "كونكليف" صراعاته بشكلٍ مفاجئٍ بكشفٍ أخير يبدو أقرب إلى بيانٍ يتماشى مع روح الأفكار المعاصرة حول الجندرة أكثر من كونه تطوُّرًا سرديًّا عضويًّا. وبدلًا من التعمُّق في الانقسامات الأيديولوجيَّة للكنيسة، يفرض هذا الكشف خاتمةً مصطنعةً تتجنّب الصراعات التي أمضى الفيلم الكثير من الوقت في إعدادها. ما كان يمكن أن يكون صراعًا مؤثرًا على السلطة يُختزلُ فجأةً إلى لحظة واحدة مصممة لإحداث الصدمة. يقدِّم الفيلم نفسه كما لو أنه يجسِّرُ الفجوةَ بين التيارين المحافظ والتقدُّمي، ولكن بحلولِ الوقت الذي يصلُ فيه إلى هذا المنعطف، يكون الفيلم قد انحاز بالفعل وبوضوحٍ إلى أحد الطرفين، لدرجة أن أي إحساسٍ بالنقاش الحقيقي يبدو كأنَّه وهم.
بعيدًا عن عيوبه الموضوعيَّة، تعاني بنية الفيلم من التوقُّعيَّة المفرطة، إذ تلتزم بشكلٍ صارمٍ جدًا بتسلسليَّة السرد الفيلمي التقليديَّة، ممَّا يجعله مفتقرًا إلى عنصر المفاجأة. كما أن السيناريو يصوغ شخصيَّاته بطريقة نمطيَّةٍ تجعل من السهل التنبُّؤ بالتطورات الرئيسيَّة للفيلم، وهذا ما يحدُّ من إمكانيَّة خلق لحظاتٍ غير متوقَّعةٍ حقيقيَّة. وعلى الرغم من محاولة تضخيم المكائد الداخليَّة للفاتيكان بغية تعزيز التأثير الدرامي، إلَّا أنَّ هذا الميل يؤدِّي في بعض الأحيان إلى المبالغة، فيُقدَّم المكان وكأنَّه إعادة تخيُّلٍ هوليووديٍّ منمَّقٍ أكثرَ من كونِه تصويرًا واقعيًّا لسياساتِ الكنيسة. كما يُفاقمُ الاستخدام المفرط للموسيقى الدرامية هذا الانطباع، بحيث يُفرضُ التوتُّر في مشاهدَ كان يمكن أن تكتَسب قوَّتها من بساطتها، بدلًا من إثقال كاهلها بإيقاعٍ مُصطنع.
في سعيه لتحقيقِ التوازنِ بين الأهمية السياسية وراهنية القضايا السائدة، ينتهي الفيلم إلى منطقةٍ وسطى غير مرضية، فهو يعملُ على تقديمِ نقدٍ جادٍّ لهياكلِ السلطة في الفاتيكان، إلَّا أنَّه لا يجرؤ أبدًا على تحدِّيها بشكلٍ حقيقي. كما ويطمح إلى أن يكون فيلمًا تشويقيًّا مثيرًا، إلَّا أنَّ قابليَّته للتنبُّؤ تُقلِّلُ من حدته. ورغم محاولته تقديمَ صورةٍ تمثِّلُ هذا الصراع الأيديولوجي، إلا أنَّه يفعل ذلك بطريقةٍ تجعلُ النتيجةَ تبدو محدَّدةً سلفًا. وبدلًا من أن تحفيز الجمهور على التفكير في شيءٍ ما، فإنَّه يقدِّم فيلمًا مسليًّا لكنَّه يفتقرُ إلى العمق والجرأة التي كان يُفترضُ أن يتحلَّى بهما.