«أنا هروح بعيد بجد». -عبدو
في «شرق ١٢» تأخذنا المخرجة هالة القوصي في رحلة ساحرة ومثيرة -بالأبيض والأسود- داخل عالم من الكوميديا السوداء والفانتازيا الساخرة. يدور الفيلم في عالم مغلق خارج الزمن، حيث يحاول الموسيقار الشاب عبدو (عمر رزيق) التمرد على شوقي البهلوان (أحمد كمال) الذي يدير المكان بقبضة من العبث والعنف، وتخفف جلالة الحكاءة (منحة البطراوي) عن الناس بحكايات خيالية عن البحر الذي لا يعرفه أحد. يتعاون عبدو مع الشابة ننة (فايزة شامة) لكسر قبضة شوقي والبحث عن الحرية في عالم أرحب.
يجد عبدو نفسه محاصرًا في عالم يسيطر عليه شوقي البهلوان، عالم مغلق مليء بالعنف والقسوة. يعمل عبدو حفّارًا، ويصنع الموسيقى، ويبحث عن الكنز، ويحب الفتاة ننة التي تحرضه على مغادرة هذا العالم، حيث تتمنى أن تعيش في عالم أفضل تتمكن فيه من الاحتفاظ بالطفل الذي ينمو في بطنها… لا يعرف عبدو ماذا يفعل، فقد مل من حياته، ويستخدم الموسيقى للحفاظ على الأمل، لكنه يجد نفسه عالقًا في هذا العالم، غير راغب في ترك سِتّه وحدها. تكرر ننة على مسامعه مرارًا: «سِتك هي اللي حبسانا. نموت جنبها يعني؟» مما يخلق نقطة للصراع بين الشخصيتين.
كلتا الشخصيتين ترغبان بالحرية، وبمغادرة هذا العالم، لكنهما يدوران في عالم مغلق ومسوّر بأسلاك حديدية، يقبعان تحت سيطرة البهلوان الذي يسيطر عليهم جميعًا في جو من العنف والقسوة، والاضطهاد الجنسي للفتاة ننة.
أداء عمر رزيق في دور عبدو ينبض بالحياة، فهو يجسد الشاب الطموح والمتمرد. أما أحمد كمال، فيقدم شخصية شوقي البهلوان ببراعة، حيث يمزج بين الطابع العبثي والعنف بمهارة فائقة، مما يجعل شوقي شخصية معقدة ومثيرة للاهتمام. منحة البطراوي، في دور جلالة الحكاءة، تضفي على الفيلم بعدًا شاعريًا وسحريًا، حيث تقدم حكاياتها عن البحر بعمق وخيال، ذلك البحر البعيد الذي لا يعرفه أحد، وهي تدرك قوة الحكاية، فتستغلها للتهديد أحيانًا لحماية عبدو، وتستخدمها أيضًا لمنح الأمل للناس، كما فعلت أمها وجدتها من قبل، جيلاً بعد جيل.
تُظهر هالة القوصي براعتها في خلق عوالم فانتازية مميزة، حيث تمزج بين الواقعية والسحر وتستخدم الديكورات والتصاميم الفنية بذكاء لتعكس الحالة المغلقة والمتحكم فيها لهذا العالم. تضيف تقنيات التصوير والزوايا المستخدمة عمقًا بصريًا للفيلم، مما يعزز من تجربة المُشاهد ويجعله يشعر وكأنه جزء من هذا العالم الخيالي.
في «شرق ١٢»، لا تُعد الموسيقى مجرد خلفية، بل هي جزء أساسي من القصة، تسهم في بناء الجو العام وتعزيز التوتر الدرامي. يتميز التصوير السينمائي بالإبداع، حيث يخلق عالمًا بالأبيض والأسود يعزز الأجواء الفانتازية والسحرية. تنقل حركة الكاميرا بدقة الحركات الداخلية للشخصيات وصراعاتهم، مما يضفي على الفيلم بُعدًا إضافيًا. من جانب آخر، يقدم الفيلم رسائل عميقة حول الحرية والتمرد ضد الظلم. عبدو، بشخصيته المتمردة، يعكس الصراع الأبدي بين القوة والرغبة في التحرر. حكايات جلالة الحكاءة عن البحر ترمز إلى الأمل والحرية المفقودة، وتعبر عن تطلع الشخصيات إلى عالم أكثر انفتاحًا وأقل قسوة.
«شرق ١٢» ليس مجرد فيلم، بل هو تجربة سينمائية غنية تأخذ المُشاهد في رحلة عبر عالم خيالي مليء بالرموز والرسائل العميقة. تُثبت هالة القوصي مجددًا أنها مخرجة مبدعة قادرة على دمج الكوميديا السوداء مع الفانتازيا لتقديم رؤية سينمائية فريدة. من خلال أداء قوي وإخراج متقن، ينجح الفيلم في نقل رسائل مهمة حول الحرية والتمرد، مما يجعله تجربة تستحق المشاهدة.
في حديث مع المخرجة هالة القوصي لمنصة «ميم»، تتحدث عن استلهامها لفكرة الفيلم فتقول: «من وجهة نظري -كإنسانة قبل أن أكون فنانة- الخيال شيء مهم للغاية، واللحظة التي نفقد فيها قدرتنا على تخيل واقع مختلف هي اللحظة التي نصبح فيها موتى، حتى لو أننا ما زلنا على قيد الحياة. ومن هنا كانت البداية، فقد بدأت أسأل: ما الذي يحدث حينما يتوقف الإنسان عن رؤية ما هو أبعد من تحت قدميه وعندما يفقد هذا البراح لفعل شيء مختلف، أي ماذا سيحدث لو اختفى الخيال؟»
وعن تجربتها في العمل مع الممثلين والنجاح في جعلهم جميعًا جزءًا من عالم حالم مثل «شرق ١٢»، تقول هالة: «في الحقيقة أنا محظوظة بالعمل مع ممثلين لم يكونوا منغمسين في العمل في السوق التجاري، فهم أناس قادمون من خلفيات مسرحية وفنية ولديهم مساحة للتقبل والتجريب، فأحمد كمال مسرحي قديم، ومنحة البطراوي كذلك، وقد عملت مع كبار المخرجين المجربين قبلي مثل يوسف شاهين ويسري نصر الله، أما عمر زريق فهو ممثل مسرحي ويمثل منذ الصغر، وفايزة يُعد هذا ظهورها الأول لكنها أيضًا من خلفية مسرحية وهي راقصة.
«وعودًا إلى العمل مع الممثلين، فإن الممثل بطبيعته يتعاون مع المخرج عندما يرى أن المخرج يصدق ويؤمن بما يقوم به، وهنا تكون المعادلة الصعبة، فعندما يرى الممثل مدى تصديق وإيمان المخرج فإنه أيضًا يصدق ويؤمن، حتى لو طلبت منه أن نصنع فيلمًا غرائبيًا للغاية، فسيقوم بذلك. ثم إن الممثل عندما يحترم المخرج فإنه يتبعه، ولا أعني بذلك أن يكون خلفي، فنحن نمسك بأيدي بعضنا، لكنني أعني أنني دليله في هذه الرحلة.
«وبالنسبة إلى إجراء البروڤات فقد اضطررنا للعمل عليها لوقت طويل للغاية، لأنه كانت هناك رقصات يجب أن يتدرب عليها الممثلون، كما كان هناك عزف على آلات موسيقية، فالممثل لم يكن يتظاهر بالعزف وإنما كان يعزف بالفعل. الشخصيات كان يجب أن يكون بينها هذا النوع من التلاحم حتى نصدق أنهم أقرباء وأحباء، وكان يجب عمل ذلك على نحو مضاعف لأننا صورنا بسينما "خام" وليس ديجيتال، لذلك فإن الإعادات ستكون مكلفة جدًا».
وعن اختيارها لعمل الفيلم بالأبيض والأسود تقول هالة: «هذا لأنني افترضت أنه عند اختفاء الخيال، فإننا سنتوقف عن رؤية الألوان».
صُنف فيلم «شرق ١٢» بوصفه فيلم كوميديا سوداء، وتقول هالة بأنها لم تقصد ذلك، موضحة: «كتبتُ ما يشبه هذا العالم وحسب، وكُتبت الشخصيات ببساطة شديدة. الشخصية الوحيدة التي تغيرت كثيرًا بعد الكتابة هي شخصية جلالة الحكاءة، لأنها كانت في البداية شخصية مثالية للغاية وترى نفسها كذلك، فهي لا تفعل شيئًا سوى التخفيف عن الناس»، وتضيف هالة أن ذلك قد يعود لكونها كانت ترى نفسها كذلك، وما جلالة الحكاءة إلا انعكاسًا لرؤيتها لذاتها، فهي تصنع أفلامًا تروّح فيها عن الناس، تجعلهم يسعدون ويفكرون. لكنها بعد النسخة الأولى من الكتابة بدأت تعي أكثر لدور الفنان، فأصبحت ترى الفنان -بما في ذلك نفسها- جزءًا من المنظومة الأكبر وعضوًا مساهمًا فيها.
أما بالنسبة إلى الديكورات في الفيلم فتقول هالة بأن السيناريو كان في البداية بسيطًا جدًا، فهم لم يعرفوا أين سيجدون هذا العالم. فكروا ربما في البحث عن قرية مهجورة، أو ما يشابهها، حتى وجدوا ذلك المصنع القديم، ومنه شُكِّل ذلك العالم على مقاسه، فلم يكن باستطاعتهم بناء الديكورات بسبب الميزانية، كما أن ذلك جاء في صالح القصة لأن الشخصيات تعيش في عالم مبتور وترضى بما لديها، فهي تأخذ مما حولها وتعيش به وتتكيف، دون أن تحاول بناء عالم أفضل أو تحسين العالم الذي تعيش فيه.
وبالنسبة إلى الموسيقى في الفيلم التي تبدو عنصرًا أساسيًا من القصة، تقول هالة: «عملنا على الموسيقى قبل كل شيء في الفيلم، ففي السيناريو كانت هناك جملة تقول إن هناك شابًا يصنع الموسيقى من كل شيء حوله، لذلك تعاونت مع مصمم شريط الصوت والمصمم الموسيقي وكانا أول من انضم إلى الفيلم، كما قمنا بعمل فيلم قصير حتى نجرب تلك الآلات التي صُنعت وتكونت وأخرجت ألحانًا، ومن تلك الألحان كتبت موسيقى أعاد عزفها عبدو في الفيلم، لذلك فهو يلعب كل تلك الموسيقى في الفيلم على نحو حقيقي».
وعن الصعوبات التي واجهتها هالة في تصوير الفيلم تقول: «كان أولها هو الجو الحار، فقد صُوُّر الفيلم في شهر أغسطس، ومعظم المشاهد كانت خارجية، كما كانوا يصورون في مصنع قديم للخشب، لذا فإن بودرة الخشب كانت في كل مكان»، وأيضًا كان عليهم توجيه كم هائل من المجموعات، وتضيف بأن مشهد السوق قد يكون من أهم مشاهد الأسواق التي صُورت على الإطلاق، «لأنه من الصعب توجيه كل هذا الكم الهائل من المجموعات للتصرف بطبيعية وتلقائية». وعن الصعوبات عمومًا تؤكد هالة أنها صعوبات تكافئ صاحبها، فبعدما ينجحون في تصوير مشهد ما، كانوا يشعرون بشعور غامر بالرضا والسعادة.
أما عن دور السينما في التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية تقول هالة: «للسينما دائمًا دور هائل وأساسي في التعبير عن القضايا الاجتماعية والإنسانية ولا يمكن لها أن تتنصل من هذا الدور، وللأسف فإن تلك العبارة التي تصف السينما بأنها صناعة ترفيهية هي إساءة لها، فإن الترفيه -حتى ولو كان ضروريًا- ليس معناه عدم إعمال العقل وتشغيل الخيال».
وعن دور المخرجات النساء في صناعة السينما الحديثة تقول هالة: «النساء عمومًا يجب أن يكون لهن أدوار أكثر، لأن العالم يحتاج إلى الحس الذي تأتي به النساء، فهو حس غير متكبر، تعاوني، محتوٍ، حس حساس وحنون ومحتضن وغير تنافسي، وهذا ما يجعل من الصعب للنساء التواجد في عالم يغلب عليه الذكور، لكن في رأيي فإنهن عندما يقمن بمساهمات ما فإنها تكون مهمة للغاية. صحيح أنها قليلة لأنه من الصعب عليهن اختراق هذا العالم، لكنهن يأتين بشيء خاص جدًا، بالإضافة بالطبع إلى تساوي الموهبة، فإنهن يتميزن بهذا الحس الذي يحتاجه العالم الآن».
وعن مشروعاتها المستقبلية تعمل هالة على سيناريو فيلم جديد بعنوان «المحتضرون».
وأخيرًا عن عرض الفيلم في مهرجان «كان» السينمائي ونجاحه نجاحًا باهرًا، تقول هالة: «أنا سعيدة أنني اخترت هذا التناول لرواية القصة، لأنه يسمح لجمهور هائل بالتعاطي معها وفهمها، كما يمكن للجمهور أيضًا تبني ما يُعرض لأنه لم يأتِ إليه من مكان مُعرّف، وإنما من عالم يقبع في منطقة الخيال»، أما عن شعورها بتواجدها في «كان» تقول: «أشعر بأنني في مكاني».