قد يُؤَرّخ الفرح بالتقاطات فوتوغرافية لتقوّسات الشَّفاه، ويُجسَّد بالسينما بمشاهد ابتذالية من واقع حياتنا. في كل بداية لخط زمني لتحوّل النعمة نلحظ ذكرى لزواج، أو ولادة، أو حفلة عشاء عائلية ورحلة صيفية للريف، أو عيد ميلاد نُظّمَ لصغير العائلة أو حتى أمسية دافئة حميمية. مجموعة صوُر أرخبيلية شائعة وزعت على جدار العقل، وُجدت للتسلّح من تعاسة الحاضر – أو القادم – أو بغرض الاستحضار كلما تمنّع التكرار، لاسيما وفق الإطار الدرامي البحت. وعلى الأغلب يرتبط وجوده – الفرح – بالانشغال به كعاطفة تحضر وسط فورة اختطافات ونشوة احتفائية مشتركة.
أما الحزن الفج الذي يأتي لاحقًا، فيحضر بشحناتٍ وجدانية، مرفقة بوحدة وتشتت ومشاعر داخلية يصعب إيصالها، فلا رقصة له مثلما للفرح. فالبكاء مثلاً ليس سوى تعبير عن محاولة تعبير دخلت حَيّز العجز، هذا إن توفرت رفاهية الرثاء على الذات أو على الآخرين؛ فأشد الأفلام حزنًا بالنسبة لي هي تلك التي نَغتَمُّ ونَقلَقُ بها عوضًا عن البطل المشغول بعملية النجاة من الظروف الطاحنة، أو الحكم الجائر الدنيوي المتفوق على كل تصوّر لتجربتنا البشرية، بمعنى: نحزن كونه لا يولي أحزانه المشاعر المطلوبة، فتفادي الموت المحدق لا يترك له فرصة لإدراك بؤس المآل ومرارة الفقدان والذل الذي تَعَوَّدَ عليه.
وأكثر الشخصيات نيلاً للتعاطف هي مَن تُصيبها الانتكاسة من بعد عزّة، وكأن الحياة تمضي بها كما لو أن مستقبلها كان في الماضي!
وهذا التجريد من كافة مشاهد رغد العيش في تحوّل النعمة إلى نقمة، نجده في مشاهد التهجير القسري والتطهير العرقي لليهود إبان سيادة الحكم النازي، حيث وَعثاء الانعتاقات المتسلسلة الساحقة، كانتزاع العائلة من المنزل الرحب، ثم تهجيرها، ثم وضعها في أدنى الأحياء المسوّرة في عمارة ساردينية بشقة أشبه بالمهجع، ثم تفكيكها وتقسيمها، ليتم فرز الشباب والنساء والصغار والعجائز كُلٌ على حِدة، بصورة تراتبية يتجاهلها الضحايا بسبب فرط تقديرهم لهبة الحياة، لتبدأ عملية الاستفادة القصوى من القوى الشبابية حتى الإنهاك، قبل أن ينتهي بها الحال كبقية الفئات، وأقصد بذلك، كوقود لنيران أفران معسكرات الإبادة، كما حصل لعائلة فلاديسلاف شبيلمان الذي قام بدوره الممثل "إدريان برودي" في فيلم "عازف البيانو"، فالفاقة التي شهدنا عليها تحصل لعائلته في الفيلم المقتبس عن وقائع حقيقية. لمجرد استيعاب واقعية حدوث أهوالها نُصاب بتعاطف وحزن جامح وارتفاع ملحوظ في مستويات هرمون التوتر "الكورتيزول" في الجسم. ومن حسن حظ المُشاهد إدراكه بحتمية ما حدث كخطأ تاريخي يصعب تكراره، لفطنته حيال سليقته المدونة للإرث البشري، وذلك بسبب أن الإنسان "الموجود الزماني" – كما يوصف فلسفيًا – مخلوق مصحح لماضيه المتوحش وأخطائه الفادحة للأبد.
ولكن يبقى ثقل الشقاء الموزع بقسطاس على الأيادي الصغيرة بالتساوي مع الكبار أشد حزنًا عن غيره في عملية المفاضلة غير الإرادية، حيث لا يمكن للمرء أن يربأ بنفسه عن براءة لا تدرك كُنْهَ وحشية الحروب غير الأخلاقية لعدم الوعي الكافي بذلك، سواءً كانت هي الضحية أم أحد عائليها، ولعل المشاهد السينمائية أقل وطأة من الواقع في هذا الشأن، فهي تذكرني بعتمة شهادات الأطفال الناجين التي جمعتها البيلاروسية الحائزة على جائزة نوبل "سفيتلانا ألكسييفيتش" في كتابها "آخر الشهود"، وتحديدًا رسالة أندريه تولستيك التي حُفرت بذهني منذ سنوات كالوشم الدهري، أندريه صاحب السبعة أعوام – والذي أصبح لاحقًا دكتورًا في الاقتصاد – عندما ذهب مع جاره العجوز ليُحضر جثمان أمه بعدما أعدمها الألمان رميًا بالرصاص. يقول:
«كان صدر أمّي منخوبًا برصاص الرشَّاشات، ثمة آثار مرصوفة على قميصها، وثقب أسود في صدغها. وأردت أن يُلفَّ رأسُها بسرعة بالمنديل الأبيض لكي لا يُرى ذلك الثقب الأسود. وثمَّة شعور بأنها مازالت تتألم».
وهذا مشهد مشابه للطفل من فيلم "الأرنب جوجو" الذي سلّط الضوء على الشوفينية، وهِي تتشكل بأطفال النازيين، والعنصر الجرماني الذي يجعل من البقية حشرات، والدوغماتية التي كانت تعميهم عن حقائق كان أقرب الناس إليهم يؤمنون بها سرًا، كالحقائق التي ألفى الطفل "جوجو" أمَه عليها، عندما صادفها وهي تتدلى من عنقها المشنوق ككتلة لحمٍ ضامِرة بالساحة العامة، كعظة وعبرة للخونة بسبب اتهامها بتوزيع منشورات اعتراضية على الحكم النازي بالخفاء، ليتوجه إليها بكل عفوية محطمة، ضامًا ساقيها لصدره، رابطًا رباط حذائها المنحل كما كانت تفعل له بسبب انضباطيتها بالهندمة.
المشاهد السينمائية المتعلقة بهذه الكارثة التي أدت إلى وفاة 1.5 مليون طفل تقريبًا، تتفاوت ببؤسها، كالطفل الهزيل من فيلم "قائمة شندلر" والذي كان مدركًا لهلاكه أثناء عملية النقل صوب الأفران أو غرف غاز سيانيد الهيدروجين، فمشهد هروبه من طابور شاحنة النقل وتقاذف الأمكنة له كان حابسًا للأنفاس. كان يحاول الاحتماء بالملاجئ التي تلجأ إليها الفئران عادةً، كالمدفأة والأقبية الضيقة والثقوب الأرضية التي كانت مزدحمة بأشباهه، لينتهي به الحال بحوض قاذورات قضاء الحاجة، متأملاً من فتحة المرحاض من فوقه النور، على أمل ألا ينقطع بشُعاعه عنه؛ هذا دون ذكر الفتاة الأشهر، التي ظهرت بالمعطف الأحمر في نفس الفيلم، وهي تحاول النجاة في مشهد تصفية حي كراكوف اليهودي، رغم أن الفيلم كان بالأبيض والأسود، ولكن الاستثناء كان إسقاطًا على روح الفتاة الملونة التي انتهى بها الحال كضحية لسلالة دمها.
إنه الدم الذي لا يتوقف وحوش هذا الكون عن إراقته بتجلياتٍ صغرى، كما لو أن الحدث الأكبر تحوّل بتواضع إلى قنبلة عنقودية تأبى أن تتوقف عن التشظي والانشطار. وهذا ما يجعل من السينما أشبه بالصحافة المترقبة لكل حدث جديد، مقتاتة على هذه المآسي الدنيوية بصغائرها وكبائرها، كأداة تسويقية أساسها المشاعر، ولكن بهدف ينصبّ للمصلحة البشرية رغم رأسماليتها وعدم خلوّها من الأدلجة الناعمة، وهذا قاد إلى التفنن في الابتداع، لاسيما في مواجهة هكذا أحزان، كابتكارية مجابهة القدر المحتوم، ولا أقصد مجابهته بالاستسلام التام بسبب الاعتقاد بالمنال الأخروي – فهذا أمر مفروغ منه – ولكن النيل منه بالسخرية والفكاهة والضحك، كآلية تحجيم وتقزيم.
في فيلم "الحياة جميلة" للمخرج والممثل الإيطالي "روبيرتو بينيني"، نلحظ التعالي على قهرية الظروف، كوسيلة ابتدعها الأب "غيدو أورفيتشي" الذي قام بدوره بينيني، ليُلهي ابنه الذي حُبس معه في معسكر الاعتقال، راسمًا في خياله مغامرة مقترنة بلعبة الغميضة، واعدًا إياه بهدية ليحثه على التصبر أثناء الاختباء من الجنود، صانعًا على محياه ابتسامة وضحكة من وقت لآخر، وهذا يذكرني بـ "إيمانويل كانط" حين أضاف "الضحك" على مقولة فولتير التي تقول : «إن السماء قد أرادت أن تعوضنا عن بعض ما ابتلينا به من محن في هذه الحياة، فمنحتنا نعمة الأمل ونعمة الرقاد». ولعلّي أضيف بدوري بأن الله عوّض البشرية بعد هذه الحادثة بالتعاطف الذي أرغمنا على رفض الظلم بلا تمييز، وبلا مفاضلة عرقية أو دينية أو جغرافية، ولعل هذا الشقاء كله كان ضروريًا في ترجيح نصيب الإنسان من اللذات والنعم بصورة تناوبية حلّت مكان النقمة، فكما قال سقراط "بتصرّف":
«لو طُلب من البشر تقاسم كل ما في الحياة من شرور وآلام بالعدل، لسارع كل فرد منهم إلى المطالبة بنصيبه من الشقاء».
ولعل هذا الشقاء المُجسّد بصرخاته المندلقة في السينما الحربية لسانٌ يعيب البشرية على عار اقترفته بحق نفسها: حدبة ثقيلة على ظهر كتب التاريخ، التي ذكرت الأفراد ببرودة سرد الأرقام، دون تعريف كل رقمٍ بقصته الحزينة؛ تذكير ليومٍ غطت به الأدخنةُ السوداء منافذَ الفضاء؛ مواساة أبدية لأحزان متجددة؛ تطهير من الموبقات وتضميد لجراح – برأيي – لا يمكن لها أن تلتئم؛ وراحة لأرواح خرجت وقتها بعناء.
الأفلام المأساوية هي عبارة «ارقدوا بسلام».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش