لو بدأنا تلقِّي فيلم «صبية نيكل» (Nickel Boys - 2024) من البوستر، سنقعُ في فخِّ التوقُّعاتِ المسبقة: فيلمٌ آخرُ عن معاناةِ السودِ في أميركا. تقودنا صورةُ البوستر مباشرةً إلى العقدِ الخامس أو السادس من القرنِ العشرين: تصفيفةُ الشعر، بلاط الأرضيَّة، الثياب، وحتى لون السيپيا الذي يميِّز أشرطةَ تلك الحقبةِ المظلمة. البطلان مراهقان يواجهان الكاميرا: أوَّلهما يضحكُ بتفاؤل، بينما يبدو الآخرُ قلقًا، بعينين مشرعتين على غدٍ مجهول.
حين نتجاهلُ البوستر لوهلةٍ ونبدأ في المشاهدة، تبدأ الصدمة. لا يشبه هذا الفيلم أيَّ فيلمٍ آخرَ عن السود، أو حتى أفلام هوليوود بشكلٍ عام. نبدو أقرب إلى عالم الأفلام الوثائقيَّة. يأتي الكلامُ خلفيَّةً للكاميرا التي تبدو مخنوقةً أو عالقةً في رؤيةٍ نفقيَّة كلوستروفوبية إلى أن نتبيَّن أنَّنا «نرى» بأعين إلوود (إيثان هيريس، وإيثان كول شارپ في صغره). الكاميرا عيناه، وعيناه هي أعيننا، بل إنَّ وعيَه سيصبحُ وعينا نحنُ رويدًا رويدًا مع تلاحقِ مشاهد الفيلم الذي يحتلُّ مكانًا ضبابيًّا بين الوثائقي والمُتخيَّل. تعودُ إلينا صورة البوستر مرَّةً أخرى، فنبدأ بإدراكِ أنَّ الكاميرا لا تواجه الصبيَّين، بل تنظر إليهما من أعلى، من «منظورِ عين الطائر» (Bird’s-Eye View) الذي يكشفُ كلَّ شيء. ولكنَّنا مجددًا أمامَ لعبةٍ أخرى. إذ ليسَت الكاميرا محور الحدث هنا، بل الصبيان. وليست الرؤية من منظورِ عين طائر، بل هو المنظور المعاكسُ تمامًا: نتابع أحداث الفيلم من «منظور عين الدودة» (Worm’s-Eye View)، من أسفل، من القاع، حيث الأفقُ على مستوى الأحذية، وحيثُ يكون إدراكُ الأشياءِ من جذورها، من منابتها، لا من امتداداتها، كأنَّنا داخل زنزانةٍ بأسوارٍ وسقفٍ واطئ؛ أفقٌ محكومٌ بنهايةٍ مغلقةٍ تنفتحُ بالتدريجِ لتصبحَ عين إلوود الذي يكبرُ فتكبرُ زاوية الرؤية، ينضجُ فتنضج، ينكسرُ فتنكسر، يُحطَّمُ فتُحطَّم.
ضبابيَّة الرؤيةِ هنا مُستمدَّةٌ من ضبابيَّة ازدواجيَّةِ التوثيقِ والتخييل، وهي الازدواجية التي تشكِّلُ أساسَ روايةِ الأميركي كولسن وايتهِد (Colson Whitehead) التي اقتُبِس منها الفيلم بالعنوان ذاته. من قرأ الرواية سيُدركُ أنَّ المخرج راميل روس (RaMell Ross) قد قدَّم عملًا مبهرًا في السيناريو الذي كتبه بالاشتراك مع جوسلين بارنز (Joslyn Barnes). الرواية غير قابلةٍ للتحويلِ إلى فيلمٍ سينمائي، فهي روايةٌ قائمةٌ على سردٍ بديعٍ يستندُ إلى اللغة في ذاتها، إلى موسيقى الكلمات التي تتقلَّب فتتقلَّبُ معانيها بين زمانَين ومكانَين. المُلفِتُ هنا أنَّنا أمامَ فيلمٍ كسرَ المعادلة شبه المستحيلة القائلة بأنَّ «ما من روايةٍ عظيمةٍ تُنتِج فيلمًا عظيمًا»، إذ عمد روس إلى نزعِ الغلالة اللغويَّة الثريَّة ومنحنا فيلمًا بديعًا حين جسَّر الهوَّة الدائمة بين الكلمةِ والصورة، ولذا لم يكن للفيلم أن يُقدَّم إلا بتصنيفٍ ضبابيٍّ يأخذُ من الوثائقي طزاجته ومن المتخيَّل جموحَه، بحيث طوَّع الكاميرا لتنطق، مختزلًا بهذا عشرات الصفحات من السردِ البديعِ في صورٍ متلاحقةٍ تبدو أقرب إلى صورٍ فوتوغرافيَّةٍ محكومةٍ بإيقاعٍ مضبوط، ليس هو إيقاعُ الحياة الخارجيَّة بقدر ما هو إيقاعُ وعي إلوود بما يحدثُ خارج جسده، خارج عينيه، خارج بيته وخارج عقله.
تنتقل الكاميرا، وننتقل معها من عالم إلوود الصغير صعودًا إلى عوالمَ أكبر، تعلو فيها الكاميرا بالتدريجِ من دون أن نقع في فخِّ التفاؤلِ المفرط. نحنُ في ستينيَّات القرن العشرين، والتي ترافقت فيها الأحلامُ الجامحةُ بقساوةِ الانكسار، إذ بدأت أولى ثمار مارتن لوثر كينغ تؤتي أُكلها، قبل أن تتمزَّق كليًّا باغتياله. إلوود ابن هذا التمرُّد، إنْ كان التمرُّد المُراد هنا في الفيلم تمرُّدًا على نطاقٍ أصغر، فأحداث سيلما (مسيرة الاحتجاجات التي قادها لوثر كينغ عام 1965 بين عدة ولايات من أجلِ حق التصويت للسود) وحياة لوثر كينغ ونضاله محضُ خلفيّة للأحداث لا تبدو الكاميرا معنيَّةً بها بقدر تركيزها على تمرُّدٍ على مستوى أصغر: تمرُّد إلوود على زنزانته الصغيرة، على القوقعة التي أدخلته فيها جدته (أونجونوا إيليس تايلور) بعد موت والديه كي تحميه، غير أنَّها تدركُ أنَّه سيتمرَّد حتمًا، ولذا تتلقَّف فرصةَ حصوله على منحةٍ دراسيَّةٍ كي ترسله خارج قوقعتها وخارج زنزانتها التي كانت تدركُ أنَّ أسوارها لن تتهدَّم فورًا حتى لو كان هناك ألف مارتن لوثر كينغ.
ندخلُ إلى عالمِ السود بالثنائيات دومًا في هذا الفيلمِ الرهيفِ الذي يَلتقطُ أدقَّ التفاصيلِ المنمنمة. ثنائيَّةُ التفاؤلِ لدى إلوود، وقوقعةُ الواقعيَّة لدى جدَّته. ندركُ أنَّ إلوود سيمزِّق شرنقته كي ينعتق، ولكن هل هو انعتاقٌ بحق؟ هل الحياة ورديَّةٌ بهذه السهولة؟ ثمَّة من جعلها كذلك في رواياتٍ وأفلامٍ عديدة، غير أنَّ وايتهد في روايته، وروس في فيلمه، أذكى وأبرع من الوقوعِ في فخِّ الحلولِ السهلة. ثمَّة ثنائيَّةٌ أخرى تتوازى معها حياة إلوود، وهي رحلةُ أبولو البطيئة المتعثِّرة. يشقُّ أبولو مسارَه في الفضاء كما يشقُّ إلوود مسارَه الأرضي، بل يبدو أحيانًا أنَّ إيقاع أبولو هو الإيقاعُ الذي يرسمُ حياة إلوود، تنتعشُ الإشارات حينًا، وما تلبثُ أن تغيبَ في الغالب فتتلاشى أحلامَ إلوود التي نستشعرُ أنَّ نهايتها قريبة.
ليسَ من المُستغرب أنَّ حياةَ إلوود محكومةٌ بتناقضاتٍ أو مفارقاتٍ أو سوء فهم. هذه طبيعة الأمور، وسيكون مفاجئًا رؤيةُ قصَّةَ نجاحٍ هنا. تلك القصصُ محجوزةٌ للبيض، لأصحابِ الامتيازات، لأهلِ السُّلطة، لأهلِ الكلام الذين تكون رؤيتهم للحياة رؤيةَ الطائر، لا رؤية الدودة.
تبدأ حياة إلوود الفعلية حين ينتقل إلى «إصلاحيَّة نيكل» عن طريق الخطأ عوضًا عن مواصلة مساره الذي ظنَّه سهلًا إلى الجامعة. هنا يبدأ الجحيم. لوثر كينغ وسيلما والنضالات أصداء تخفت، وأبولو يبتعدُ أكثر فأكثر عاليًا، بينما تتقلَّص رؤية إلوود بالتوازي كي تعودَ إلى أصلها: رؤيةَ دودةٍ ظنَّت أنَّها طائرٌ كسائرِ الطيور البيضاء، ورَجْع كلامِ الجدَّة يتردَّد في خلفيَّة الصمت: «نصيبُك هو الألم»؛ هو نصيب إلوود ونصيبُها، ونصيبُ السود بالمطلق، حتى لو ظنُّوا أنَّهم سيتحرَّرون منه قريبًا. ليس نيكل استثناءً في بلاد الزعيم الأبيض، بل ثمة نيكِل في كلِّ مكان.
اللافتُ أنَّ هذا الإدراك البسيط كان غائبًا عن ذكاءِ إلوود اللمَّاح، وأدركه صديقُه وزميلُه تيرنر (دَفيد ديغس، براندون ويلسون في صغره)، ابن الأرض، ابن الواقع، وابن النظرة المحكومة بالانكسار. سيواصل إلوود تفاؤله حتى بعد انكساره مرَّاتٍ ومرات، وهذه مأساة كلُّ من يظنُّ نفسَه استثناءً، بينما المفارقة التي تحكم مصيرَ السود هي أنَّ أصحابَ النظرةِ المتشائمة الواقعية هم من سيتحرَّرون ولو بالتدريج، ولو ببطء، ولو بألمٍ ووجع؛ هم من ستُكتَب لهم النجاة.
قد يظنُّ الجمهورُ أنَّ المخرجَ وقعَ في فخِّ تنميطِ حياة السود المحكومةِ بسقفٍ واطئٍ على الدوام، وهي رؤيةٌ بعيدةٌ كليًا من رؤية إلوود. إلَّا أنَّ براعة الكاميرا تكمنُ في كونها ليست حكرًا على إلوود فقط، إذ تتنقَّلُ برشاقةٍ بين إلوود وتيرنر، إلى حدِّ أنَّنا نكادُ نضيعُ بينهما، إلى أن يُحَلَّ اللغز قُبيل النهاية التي تقول لنا إنَّ التحرُّر لا يكون بالضربةِ القاضية، بل بالنقاط التي تحفرُ الصخرَ قطرةً قطرة.
يصرُّ تيرنر على أنَّ التحرُّرَ من أكاديميَّة نيكِل لا يكون إلا عبر أربعِ طرق: إما أن تقضي فترة السجن/الأشغال الشاقة؛ أو تموت أو تُقتَل؛ أو أن تحدث معجزةٌ لم تحدث من قبل؛ أو أن تهرب. يرى إلوود طريقًا خامسًا هي طريقُ التمرُّد، طريقُ أبولو في الفضاء، وطريقُ لوثر كينغ على الأرض، غير أنَّنا ندرك مع تيرنر أنَّها محكومةٌ بالانكسار، وأنَّ أبولو السود يشقُّ طريقه في الوحول حيث لا سماءَ إلا الألم. ولكن مرَّةً أخرى، تبرزُ براعة الانتقال في الرؤيتين وفي عين الكاميرا، لندركَ أنَّ الحلَّ الخامسَ سينجحُ فعلًا، وإنْ على نحوٍ آخر لم يكن في مخيِّلة إلوود أو تيرنر. سيكون طريق تسليمِ المشعل من كفٍّ إلى كف، سيكونُ طريق مرورِ الزمنِ الثقيل كي يستيقظ ضميرُ الزعيمِ الأبيض بعد عقودٍ ليدرك حجم التراجيديا التي كانت تحكم أكاديميَّة نيكِل.
هنا تفترقُ وجهات النظر لأنَّ رؤية الطائر الأبيض انتقائيَّة، وترى الحياةَ بمنظورِ الاستثناءات، بينما رؤيةُ الدودةِ السوداء أشملُ وأقسى وأكثر واقعيَّة. ليست أكاديميَّة نيكِل بأشغالها الشاقة، ومراهنات الملاكمة المحرَّمة والمقابر الجماعيَّة، محضَ استثناءٍ في أميركا الستينيَّات، بل هي واقعٌ يوميٌّ ما يزال مخيِّمًا على السود حتى لو ظنُّوا أنَّهم بدؤوا تمزيقَ طريقهم شرنقة إثر أخرى.
تنتقل الكاميرا في المشاهد الأخيرة بين صورٍ حقيقيَّةٍ لمجازر أكاديميَّة نيكِل وبين عين «إلوود» (لا بدَّ من القوسين هنا بسبب ضبابيَّة الهويَّة التي اندمجت مع ضبابيَّة الكاميرا، كما سيدركُ من لم يشاهد الفيلم بعد) الذي ما تزال حياتُه الجديدة، على الرغمِ من نجاحها، محكومةً بأشباح الماضي وبأطيافِ الموت والقتل والوجع.
ينتهي الفيلم ونحنُ ندركُ أنَّ طريق الهروب بين الحقولِ والأفق المفتوحِ على السماء هو ذاته طريقُ الغرفةِ الضيِّقةِ التي نرى فيها عبر عيني البطل تكشُّف مصائر أكاديمية نيكِل بعد عقود؛ غرفةٌ مظلمةٌ ضيِّقةٌ تبدو أقربَ إلى الزنزانة هي الأخرى، حيث لا ضوء إلا شاشة لابتوب تنقلُ صورَ الماضي إلى حاضرٍ ليس أقلَّ إظلامًا بالضرورة.