تتيح أفلام السيارة، التي تنتمي إلى أفلام الطريق، الفرصة للنظر عن كثب أكثر في صناعة السينما في إيران، حيث ظهر في هذا الجزء من العالم عددٌ غير قليل من الأفلام التي تجري داخل السيارة. وكان عديدٌ من الأفلام التي قدِمت من إيران وعبَرت الحدود إلى الخارج في الألفية الجديدة أفلامَ رحلات. والأسباب وراء ذلك اقتصادية في جزء منها، حيث يميل صنّاع الأفلام إلى اتّباع الطرق الآمنة والممكنة للنجاح، لكن هنالك كذلك أبعادًا ثقافية لهذا النوع السينمائي. يتشارك الإيرانيون تراثًا طويلًا من الرحلات بالمعنى الواقعي والمجازي، ففي الثقافة الفارسية، الرحلة لا تعني بالضرورة الانتقال من مكان إلى آخر. نجد ذلك واضحًا في أفلام «كيارستمي»، حيث أي تغيُّر للأفكار يمكن أن يشكّل رحلة ما، الشعراء يسمون ذلك «سفرًا بلا ساقين ولا يدين»، كما يقول «عباس كيارستمي». ولكن هنالك أسبابًا أكثر أهمية، تتعلق بالفضاء المحدد والمشروع للتعبير، وهو ما سنراهُ لاحقًا.
السيارة في سينما «كيارستمي».. منزل آمن للفنان وشخصياته
في مسيرة «كيارستمي» التي تمتد من عام 1970 حتى عام 2016، ظهرت النساء في أفلامه في وقت متأخر، فبعد دور خجول وظهور غير ملتزم بالحجاب فى فيلم «تقرير» (1972)، الذي مُنع في عهد الثورة الإسلامية، عاد «كيارستمي» ليمنح المرأة أدوارًا بطولية في فيلمي «شيرين» (2008) و«عشرة» (2010). تناقش بطلته (مايا أكبري) في السيارة التي تقودها مع النساء الأخريات مختلف الموضوعات: الزواج، الحب، الجنس، الدين، الدعارة، العاطفة، وغيرها من الموضوعات الجدلية.
يتنازل «كيارستمي» في فيلم «عشرة» عن جماليات التصوير الخارجي، حيث يوجه كاميرته نحو النساء في السيارة بشكل لا يخلو من حضور عين الرقيب الخفية. تُمثّل تسمية «عشرة» عددَ المَشاهد المصوَّرة بكاميرتين ديجيتال مثبتتين داخل السيارة، واحدة تركز بؤرتها على السائقة (بطلة الفيلم) والأخرى على الراكب الجالس في المقعد الأمامي، وكل مشهد يعرض محادثة شخصية بين السائقة ومختلف النساء اللائي تقلُّهن في العاصمة طهران. وبرغم افتتان «كيارستمي» بتصوير الطبيعة، باستخدام اللقطات العامة الطويلة التي تستغرق دقائق دون قطع، تغيب هذه المناظر لصالح قصص شخصياته التي يحسن الإصغاء إليها، إذ يمنحنا «كيارستمي» نظرةً مقربة للمشكلات الاجتماعية ووضع المرأة في المجتمع الإيراني.
تنحو قصص «كيارستمي» إلى أخذ شخصياتها في رحلات، حيث يتم توظيف السيارة لتكون بمثابة حيز حميمي، يُسمع فيه المرء، ويسرد كلٌّ قصته، ففي فيلم «طعم الكرز» نرى بطله «بديعي» يقود سيارته عبر البلاد، طوال الفيلم، طالبًا من الآخرين مساعدته في الانتحار دون جدوى. نرى خصوصية تامة لشخصين في السيارة؛ إنهما لا ينظران إلى بعضهما مباشرة، ولكن يجري الحوار عن كل شي. بوسعك أن تنظر إلى الخارج، لكن هذا لا يعني أن الحوار انتهى.
تمثل السيارة مجازًا حالةَ البطل الداخلية «بديعي» في فيلم «طعم الكرز». يقول «كيارستمي»: «فكرة الدوران هي جزء من رمزية الفيلم. المُضِي في دوائر يعني، حرفيًا، الذهاب إلى اللامكان، الانتقال بلا غاية، بلا مبرر، للوصول إلى أي مكان. يتعيّن عليك أن تنطلق من موضع إلى آخر، لذلك فإن هذه الرحلة تشير إلى فكرة السكونية، وكل ما لا يتحرك، لا ينمو، لا يكبر، لا يتقدّم.. هو عليل ومحكوم عليه بالموت». ويلاحظ الناقد الأمريكي «جودفري شيشاير» أن جميع شخصيات «عباس كيارستمي» هي في حالة حركة وانتقال من مكان إلى آخر، من بحث إلى آخر. وفي أثناء حركتها لا تكف عن طرح الأسئلة بشأن كل شيء. هذه الأسئلة لا تهدف إلى الحصول على إجابات معينة، لكنها تظل معلّقة مثل سلسلة لا نهائية من الأصداء. والتعقيد ينجم، بحسب الناقد «مايك والش»، من كون مثل هذا البحث متروكًا، بصورة عامة، في حالة غائمة، سديمية: ينتهي فيلم «وتستمر الحياة» بعجز السيارة عن صعود المنحدر العالي، بينما في فيلم «طعم الكرز»، حلُ العقدة السردية يتلاشى بحركة بريشتية، إذ يظهر «كيارستمي» مع فريق العمل وهم يصورون، أما في فيلم «الريح سوف تحملنا» فإن الفيلم المزمع إنجازه لا يتحقق.
لا يُثقل «كيارستمي» أفلام السيارة بالرمزية الوجودية والنفسية والاجتماعية التي ميّزت أفلام الطريق الأوروبية، ولكن بالأخذ في الاعتبار نهاية فيلم «وتستمر الحياة» بعجز السيارة عن صعود المنحدر العالي، تتحقق أكثر النهايات قوةً ورمزيةً وجمالًا، حيث تواظب السيارة على الصعود بإصرار في ذاك المنحدر الشاق ببطء وثبات، في محاولة للوصول. تنتهي رحلة الأب مع الابن في فيلم «وتستمر الحياة» في السيارة بحثًا عن أبطاله، إلى تغيير نظرتنا عن الحياة والموت بعد توثيق كارثة الزلزال، حيث يتغلب الناس على الفاجعة بالإصرار على العيش. تتواءم نهاية الفيلم بإصرار السائق على الصعود، وعزيمة العيش، على نحو مدهش مع تسمية الفيلم «وتستمر الحياة».
في النهاية، يتحرر «كيارستمي» نفسُه في السيارة من سلطة الرقيب ومن مشاغله الشخصية ومن جميع الأعباء. يقول: «حياتي الداخلية كثيفة في السيارة أكثر مما في البيت، حيث لا أتوقف لدقيقة ولا يكون لدي وقت للتفكير والتأمل. ولكن حالما تكون في سيارتك، واضعًا حزام السيارة أو ممتنعًا عن ذلك فإنك تكون مجمدًا في مكانك، مشلولَ الحركة. لا أحد يزعجك، لا هاتف، لا ثلاجة، لا أحد يأتي ليراك. لهذا السبب أنا أعمل حقًا عندما أكون خلف مقود السيارة: إنه المكتب الذي في حوزتي، المكان الخاص جدًا، مثل بيت صغير، حيث لا يوجد فيه أي شيء زائد أو غير ضروري. علاوة على ذلك، هناك الشاشة الهائلة التي تقدم سفرًا سينمائيًا لا ينتهي».
السيارة في سينما «جعفر بناهي»: أسئلة الحرية والاستبداد
مع انتقال إيران من حكم الشاه الأخير «محمد رضا بهلوي» إلى عهد «الخميني»، لم يُنظر إلى الفنانين وصانعي الأفلام على أنهم غير أخلاقيين وخطيرين فحسب، بل كان يُنظر إليهم أيضًا من زاوية أيديولوجية متطرفة، مما اضطر صانعي الأفلام خلال فترة ما بعد الثورة إلى إنشاء لغة بصرية جديدة لنقل المعنى إلى الجماهير. أحد تلك الأساليب السينمائية «السيارة». ثمة رابط قوي في سينما «جعفر بناهي» بين السينما والسيارة والحرية بالمعنى السياسي، حيث تتمكن السيارة في أفلامه من التجول بحرية في الطرقات الإيرانية واختراق الفضاء المحرَّم. تظهر أفلام «بناهي» كطريقة لاستكشاف الحرية والهوية الفردية في فضاء عام يبدو مخنوقًا بأكمله. رمزيًا، تتيح السيارة في أفلامه الحركة بالمعنى الاجتماعي والسياسي، حيث يختبر فيها مختلَف أشكال التواصل والحوار بين أفراد مقهورين. وعلى عكس «كيارستمي»، لا يتمثل الفضاء الخارجي في أفلام «جعفر بناهي» إلا من خلال روايات الناس. ويمكن أن يُعزى هذا إلى القيود التي تواجه صناعة السينما في مثل هذه الفضاءات، والتي واجهته هو شخصيًا.
كرّس «جعفر بناهي»، الفنان المنشق والسجين السياسي، حياته لشكل فني غير مشروع. ومثل عديدٍ من صانعي الأفلام المنشقين في إيران، يركز «بناهي» معظم أفلامه على قصص النساء. بدأ مناهضته للنظام الاستبدادي في فيلم «الدائرة» (2000)، والذي كان صارخًا في تصويره المؤثر للقمع الحكومي للنساء، وفيه يتناول سجينات تم إطلاق سراحهن مؤخرًا، ليجدن أنهن في سجن أكبر في الخارج.
في «تاكسي» (2015) -الفيلم الذي صنعه المخرج «جعفر بناهي» في تحدّ للحظر الذي فرضه عليه نظام طهران لمدة 20 عامًا على صناعة الأفلام، حيث وُضع تحت الإقامة الجبرية، ممنوعًا من مغادرة إيران، أو إجراء مقابلات، ومزاولة أي نشاط سينمائي، ومع ذلك المنع القاسي فإنه يتمكن من تهريب فيلمه إلى مهرجان برلين- يقود سائق السيارة -وهو مخرج الفيلم «جعفر بناهي» بنفسه- سيارة أجرة عبر طهران، ويلتقط ركابًا عشوائيين على طول الطريق. تلتقي كل الموضوعات في انتقاد الواقع الإيراني، والتضييق على الحريات، ووضع المرأة، وهي أمور أو قضايا تشتبك مع أفلامه السابقة، مثل «تسلل» (2006)، الذي عالج فيه قصة فتيات مولعات بكرة القدم اِضطررنَ إلى دخول أحد الملاعب متنكرات، وفيلمه السابق «الدائرة» (2000). ولكن في النهاية، يقوم اثنان من البلطجية، ربما من الشرطة السرية أو ربما مجرد مجرمين عاديين، باقتحام السيارة وسرقتها.
يستكمل «جعفر بناهي» رحلته في فيلم «ثلاثة وجوه» الذي أنتجه عام 2018، حيث يقوم برحلة برية لمعرفة مصير الفتاة «مرضية رضائي»، التي منعتها أسرتها من حلمها بالتمثيل وأجبرتها على ترك شغفها والزواج، والتي أيضًا تعرضت للخذلان من الممثلة «بهناز جعفري» التي كان بإمكانها مساعدتها، إلا أنها تخلّت عنها، ولذلك انتحرت في مقطع فيديو. وأثناء بحثه عن الفتاة، يكتشف «بناهي» منبوذةً أخرى هي إحدى الراقصات في عصر الشاه، التي عزلتها القرية والدولة عن المجتمع، وجعلاها محبوسةً في مجتمعها لأنها تجلب العار لجميع الناس.
قدّم «جعفر بناهي» أنواعًا سينمائية مختلفة في سنوات عزلته: «هذا ليس فيلمًا» (2011)، و«ستائر مغلقة» (2013)، و«تاكسي» (2015)، و«ثلاثة وجوه» (2018)، وفيلمه الأخير «لا يوجد دببة» عام 2022. وبرغم مضايقات السلطات المستمرة لـ«بناهي»، يمكن القول إن أعماله من القوة ليس رغمًا عن الرقابة، بل بسبب الرقابة نفسها التي حاربته وما زالت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش