أوراق سينمائية

رحلة التراجيديا من المسرح إلى السينما

تنتمي التراجيديا، وفق التصنيف الكلاسيكي، إلى الأجناس الرفيعة وتعتمد لغة راقية أدبيًا، فينحدر بطلها من الطبقة النبيلة ويخوض صراعه العاتي ضد قدره. وتتسم أحداثها بالترابط والنموّ العضوي الذي يلأم تصدّعاتها ويجعلها كُلًا يتدرّج من البداية إلى الوسط فالنهاية، بحيث يصاب البناء بالتّفكك والاضطراب عند إلغاء أي من أحداثها1. وتعمل الشخصيات على التأثير في المتفرّج واستدراجه إلى الانخراط العاطفي في العرض بإثارة شفقته ومخاوفه أو ازدرائه لبعض المشاهد. ومن ثم يعرفها أرسطو بكونها «محاكاة لفعل جاد تام في ذاته له طول معيّن في لغة ممتعة لأنها مشفوعة بكل نوع من أنواع التزيين الفنيّ. كل نوع منها يمكن أن يَرِد على انفراد في أجزاء المسرحيّة، وتتم هذه المحاكاة في شكل درامي، لا في شكل سردي، وبأحداث تثير الشفقة والخوف، وبذلك يحدث التطهير من هذين الانفعالين»2. ويشير إلى أولوية التعبير الجسدي فيها على الحوار بقوله: «ولمّا كانت المحاكاة التراجيديّة يقوم بها أناس يفعلون، فإنه يجب أن يأتي عنصر "المرئيات المسرحيّة" في المقام الأوّل كجزء من التراجيديا الكليّ، ثم يتلوه في المقام الثاني عنصرا "الغناء" و"اللغة"، وهما وسيلتا المحاكاة». 3

يتمثل القسم الأخير من التراجيديا في حل العقدة التي تكون قد بلغت ذروتها، فيفضي الصراع إلى النهاية المأساوية وفيها ينهزم البطل التراجيدي في حربه ضدّ هذه القوى الغيبية، فيلقى حتفه أو يصاب بجرح عميق. ولا بدّ من أن تتوفر فيها سمتان: أن تقوم على الممكن والمحتمل وأن تحترم قواعد اللياقة، فلا تمثل الموت على الرّكح ولا تعرض المَشاهد التي تثير ازدراء المتفّرج أو تؤذيه4.

لقد جعل عديد الفلاسفة التراجيديا موضوعًا لدراساتهم الفلسفية، نقتصر من بينهم على الألماني شيللنغ (Schelling) الذي قدّر أنها تنتهي إلى انتصار الضرورة والحتم (الإرادة الإلهية) على الحرية (الإرادة البشرية)، فالبطل يستجيب لفرديته ولحريته ويكون بالتالي مستعدًا للدفاع عنها، ولكنه لن يستطيع الاستقلال تمامًا عن النظام. ورأى في ذلك مغزى أخلاقيًا، فالأبطال هم نبلاء في أفكارهم، ولكنّ بشريتهم تجعلهم غير معصومين من الخطأ. ومن ثم كانت التجربة الوجودية تكتمل كلما يكبر الذنب وكان الشقاء الأعظم يتحقق بأن يصبح الإنسان مذنبًا بسبب تألب الظروف وبسبب حتمية القدر وانتقام الآلهة، فكانت الظروف الخارجة عن  إرادته تحدد جوهر التراجيديا.

يتحقّق هذا الشقاء خصوصًا في الحبكة المركبة التي سمتها التحوّل، فتنقلب الشخصية من اتجاه إلى نقيضه كأن يتحوّل أوديب من جهله بالزواج بأمه إلى المعرفة، ويتحول لذلك من السعادة إلى الشقاء. ويكون هذا التحوّل نتيجةً لخطأ ما أو لسوء تقدير لا نتيجةً لدوافع الشر والرذيلة، فتقتضي التراجيديا من الطول ما يحقق وظيفتها المزدوجة، وتستغرق حيّزًا زمنيًا يسمح للبطل بأن يتغيّر من السعادة إلى الشقاء أو من الجهل إلى المعرفة وفي الآن نفسه يسمح للمتفرّج بأن يستوعب الحكاية وبأن يتدبرها فكريًا ويتفاعل معها وجدانيًا، فيتعاطف مع البطل التراجيدي أو ضده5.

لقد نشأت التراجيديا من رحم الملحمة، وتحولت من نشيد ملحمي يُرتّل على هامش الاحتفالات الدينية في معبد «ديونيسوس» Dionysos إله الخمر والاحتفال إلى عرض ركحي يقتحم المسارح. فـ«يجعل من الشخصية التراجيدية تجسيدًا لأحد الكائنات الاستثنائية التي تثبتت خرافتها في التقاليد البطولية التي كان يتغنّى بها الشعراء، والتي كانت تشكّل بالنسبة لليونانيين [كذا] في القرن الخامس قبل الميلاد أحد أبعاد ماضيهم. وهو ماض بعيد انقضى يتعاكس مع نظام المدينة، لكنه مع ذلك ظلّ حيًا في الديانة المدنيّة التي تحتلّ فيها عبادة الأبطال، وهي عبادة كان يجهلها هوميروس وهسيودوس، مكانًا متميّزًا. هنالك إذن نوع من القطبية في التقنية التراجيدية بين عنصرين: الجوقة، وهي كائن جماعيّ ومغفّل، ويقتصر دورها على التعبير من خلال التأوهات والآمال والأحكام عن مشاعر المتفرّجين الذين يشكّلون الجماعة المدنية، والشخصية فردية الملامح التي يشكّل فعلها مركز الدراما، والتي تمثّل بطلًا من زمن آخر يختلف مصيره بشكل أو بآخر عن المصير العادي للمواطن».6

وعلى خلاف الملحمة التي تجسد سطوة الآلهة وتتغنى بخضوع البشر، تحمل التراجيديات بُعدًا مدنيًا، وتسعى إلى الحد من نفوذ القوى الغيبية، فيخوض البطل النبيل صراعه ضد قدره الذي تتحكم فيه هي. ويُفسَّر هذا التطور بما شهدته أثينا من إصلاحات سياسية أفضت إلى فرض سلطة القانون واعتماد الديمقراطية وتحرير الفلاحين من الاضطهاد.

وتفيد التراجيديا الكلاسيكيّة7 من التصور الإغريقي، ولكنها تحوّل الحبكة جزئيًا، فتصدر عن قاعدة الوحدات الثلاث التي ضُبطت في القرن السابع عشر وتدعو إلى ضرورة التزام المؤلف المسرحي بها8، وهي وحدة الزمن والمكان والحركة أو الفعل، ثم سريعًا ما اختُرقت لِما كانت تمثّله من مضايق وإكراهات تجعل العمل مفتعلًا. وفي العصور الحديثة تراجعت التراجيديا بعد أن انصرف الجمهور إلى الدراما الرومانسية، ولكنها لم تنسحب من الركح إلاّ لتعود إليه من جديد، بتأثير من النهاية المفجعة للحرب العالمية الأولى، فقد ساد إحساس بأن الإنسان يصارع أقدارًا خفيّة تتواطأ ضده، وظهرت تراجيديات حديثة كـ«الآلة الجهنمية» لكوكتو9 و«أنتيغون» لأنويل10 و«حرب طروادة لن ترى النور» لجون جيرودو11، فاحتفظت بالتقسيم إلى خمسة مناظر وبوظيفة العرض التي تُعهد للبداية، ولكنها تخلّت عن شخصية البطل النبيلة وعوضتها بشخصيات من عامّة الشعب، وأخذت تتحرر من إكراهات الوحدات الثلاثة ومن صرامة البناء التراجيدي وعوّضت اللغة الشاعرية الصفوية بكتابة نثرية أقل متانة، وحوّلت وظيفة الصراع من التطهير إلى التفكير في العلاقة بين السماوي والأرضي ضمن خلفيات وجودية خاصّة.

أدركت السينما سريعًا أهميتها التي تتجاوز عروض التسلية في مقاهي باريس، فالتجأت إلى تجسيد القصص المشوقة وإلى الانخراط في فنون التخييل، ولم تفعل ذلك إلا وهي تعي تمامًا أنّ مكانها يجب أن يكون بين الفنون الدرامية، ووجدت في التراجيديا أقرب العروض إليها، فأخذت تستمدّ منها مقوماتها، ولم يكن الأمر في شكل نقل حرفي لهذه المكونات من وسيط إلى آخر، لتعرض لنا تراجيديا مصوّرة، فالسينما تريد لنفسها هويتها الخاصّة، وفي الآن نفسه لا تريد أن تفرّط في الميزة التي حباها بها التّقدم التقني، حينما منحها القدرة على نقل الكاميرا إلى المواقع المختلفة، فتلتقط منها المَشاهد التي تريد وتأتي بها إلى الشاشة على خلاف الرّكح الذي يظلّ جامدًا رغم تغيير الديكورات بين مشهد وآخر. وعليه، فقد استمدّت منها التراجيدي، أي ذلك المكوّن الأدنى الذي يولّد اجتماعه مع نظائره، التراجيديا، ففضلًا عن محاكاة أسلوب ممثليها في الأداء، استلهمت السينما، النّمطية خاصّة، منها بنيتها العميقة وروحها الدفينة، فجعلت الفيلم محاكاة لأحداث متخيلة ومغامرات محتملة الوقوع في عالمنا الخارجي أو محاكاة لاعتمالات وتقلّبات تجدّ في العالم الباطني للشخصية بما فيه من خير وشر وسعادة وشقاء. ومنها استلهمت السمات الأساسية لبنائه، فجعلت أحداثه تنمو عضويًا وتُنضّد على خط الزمن، حيث لا مجال للأحداث التي تقع مصادفة. وقسمتها إلى ثلاثة أقسام هي البداية أو مرحلة العرض، وفيها تُقدَّم الشخصيات الرئيسة وطبيعة العلاقات بينها والأفضية والعصور والعقدة وتُزرع بذور ما سيحصل لاحقًا، والوسط الذي تخوض فيه الشخصية صراعها العاتي ضد العوائق التي تحول دون إدراكها لهدفها، والنهاية التي ينحلّ فيها الصراع وينتهي إلى موقف معبّر عن وجهة نظر المخرج وعن رسالة تُبث في أعطافه بعيدًا عن الأسلوب التقريري التعليمي الفج.

تدين السينما النّمطية إلى التراجيديا في بناء شخصياتها، ومن هذه الخلفية يوجه سيد فيلد، رائد كتابة السّيناريو في هوليوود، الكُتّاب إلى خلق المواجهات في الفيلم، فكما هو الحال في التراجيديا، «يعكس كل عمل درامي صراعًا، وإذا عرفت حاجة الشّخصيّة فبإمكانك أن تخلق العقبات أمامها وصولًا إلى ذلك الصّراع»، ويحاول أن يختزل الأمر في شكل قاعدة علمية، مقدّرًا أن قانون نيوتن القائل بأن «لكل فعل ردّ فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه» ينطبق على بناء الفيلم تمامًا12. ويشير جان-بول تورك إلى أهمية المواجهة من الفيلم النّمطي فيقول: «وبمقدار ما يكون الخطر عظيمًا وضاغطًا بمقدار [كذا] ما يكون فعل القصّة قويًا وفعّالًا»، «وتساعد هذه الطّريقة ليس فقط على وضوح السّرد إنما أيضًا لمضاعفة الانفعال الذي تولّده»13.

ويتجلّى التراجيدي في ثلاث خصائص هي:

- الشخصية الفيلمية الصّادقة والشُجاعة والثّابتة على الموقف والماهرة في الكلام القادرة على إثارة شفقة المُشاهد ومخاوفه.

- الورطة التي تقع فيها هذه الشخصية، والتي تغذّي الصراع بين الشخصيّة الرئيسة ومحيطها، غير أنها لا تسلّم بهزيمتها إلا بعد المواجهات الضارية التي يحكمها شيء من الحتم والضرورة فتذهب في الخيار الخاسر الذي يكلّفها الألم والتمزق، وتبدو أكثر تمرّدًا من البطل الملحمي وتحدّيًا، وإن كانت تخوض صراعها على المستوى الفكري أكثر مما تخوضه على المستوى الجسدي.

- النهاية الكارثية المثيرة للشفقة التي يفضي إليها هذا الصراع عند حلّ العقدة.

لقد أخذت السينما بعد عقدين من نشأتها تعي بخصائصها السّيميائية المميزة وتنتبه إلى قدرتها على توظيف سلّم اللقطات وزوايا التصوير وتحكّمها عبر المونتاج في نسق العرض، على نحو لا يُتاح للدراما المسرحية. وأخذت لذلك تتخلّص شيئًا فشيئًا من محاكاتها للتراجيديا، فلم تُبقِ منها إلا على عناصر كامنة أشبه بالأحافير المتحجرة. ومع ذلك يظل هذا العمق التراجيدي فاعلًا، متأثرًا بقانون الوراثة، فيوجّه المعنى ويؤثّر في تأويل الأفلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.و«القصة كمحاكاة [كذا] لفعل يجب أن تعرض فعلًا واحدًا تامًا في كلّيته وأن تكون أجزاؤه العديدة مترابطة ترابطًا وثيقًا. حتى لو أنه وضع جزء في غير مكانه أو حذف فإنّ "الكلّ التّام" يصاب بالتّفكك والاضطراب وذلك لأنّ الشيء الذي لا يُحدث وجوده أو عدمه فرقًا ملموسًا لا يُعتبر جزءًا عضويًا في "الكلّ التّام"»، أرسطو: فن الشّعر، ترجمة إبراهيم حمادة، مركز الشّارقة للإبداع الفكري، دت، ص 112..
2.م. ن. ص 95.
3.م. ن. ص 95.
4.تحترز الباحثة إنريكا زانين حول مدى حتمية النهاية المأساوية في التراجيديات القديمة، فلا شيء يمنع أن يكون بعضها قد انتهى نهاية سعيدة عندها، خصوصًا أنّ تعريف أرسطو للتراجيديا لا يركّز على مضمونها وإنما على شكلها باعتبارها محاكاة وعلى أسلوبها الذي يجب أن يكون راقيًا. وتردّ هذا الانعطاف في فهمها إلى دور مترجمي القرن السادس عشر، «فمترجمو "فن الشعر" المعاصرون الأوائل ترجموا تعريف أرسطو وعلّقوا عليه. ولكنهم استعملوا تأثيرهم ليؤكدوا أنّ النهاية المفجعة أفضل بل هي ضرورية» Enrica Zanin : Pourquoi la tragédie finit mal ? Analyse des dénouements dans quelques tragédies de la première modernité, Cahiers d’études italiennes,19 | 2014, Filigrana, P 45-46.
5.يجد ريكور في تأليف الحبكة القصصية تجسيدًا لطراز مستمدّ تأمّل المعيش وتجريده في شكل قانون فيذكر: «يعني تأليف حبكة استخراج المعقول من العارض والكونيّ من المفرد والضروري أو المحتمل من الأبيسودي» Paul Ricœur : Temps et récit 1, P85. ونعرّب (épisodique) التي تفيد المتتالي جريًا على ما درج عليه معربو أرسطو..
6.جون بيير قارنان وبيير قيدال ناكيه: الأسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة، ترجمة حنان قصاب حسن، نشر الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ط1 دمشق 1999 ص 14.
7.المقصود بالتراجيديات الكلاسيكية تلك التراجيديات التي ظهرت في فرنسا في القرن السابع عشر ثم انتشرت لاحقًا في كامل القارة الأوروبية.
8.ظهرت هذه المقاييس ضمن قصيدة «الفن الشعري» (Art poétique) الكلاسيكية التعليمية التي نظمها الشاعر الفرنسي نيكولا بوالو (Nicolas Boileau) سنة 1674 وضبط من خلالها القواعد الأساسية للكتابة الأدبية من منظور كلاسيكي.
9.La Machine infernale لـ Jean Cocteau
10.Antigone  لـ ـ Jean Anouilh
11.La Guerre de Troie n’aura pas lieu لـ Jean Giraudoux
12.لمزيد من التّوسّع انظر سيد فيلد، السّيناريو، ترجمة سامي محمد، دار المأمون للترجمة والنشر، 1989،  ص 34
13.السّيناريو: فن كتابة السّيناريو، ترجمة قاسم المقداد، سلسلة الفن السّابع، منشورات وزارة الثّقافة، المؤسسة العامة للسينما، ط 1، دمشق 1995، ص 186.
د. أحمد القاسمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا