يستعرض فيلم «رفعت عيني للسما» من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير رؤية إخراجية حساسة، حيث نجح الثنائي في تقديم حياة مجموعة من الفتيات في مرحلة المراهقة، حياة مليئة بالأحلام والطموحات، وهن يتحولن إلى نساء صغيرات. تدور أحداث الفيلم حول ست فتيات من صعيد مصر، يحلمن بالرقص والغناء والسفر إلى القاهرة، ويؤسسن فرقة مسرحية تقدم العروض في الشارع وسط أجواء من البساطة والفقر الشديدين.
في ظل هذه الظروف، تتحدى الفتيات التقاليد الصعيدية المحافظة، ويقدمن عروضًا تتناول موضوعات شجاعة مثل العنف الأسري والزواج المبكر وحق الفتيات في اختيار شريك الحياة. يعرض الفيلم نضالهن المستمر ضد الضغوط الاجتماعية والعائلية، ويصور بدقة حياة الفتيات الصعيديات وصراعهن مع التقاليد الصارمة.
ما يميز الفيلم هو قدرة كل من ندى رياض وأيمن الأمير على التقاط مشاعر الفتيات وأحلامهن، ليصبح الفيلم بمثابة حلم جماعي تعيشه الشخصيات جميعها. يتتبع الفيلم حياة الفتيات على مدار أربع سنوات، مما يضفي عليه طابعًا وثائقيًا يعكس حياة سكان الصعيد بدقة، كما يحتوي على شخصيات مصرية أصيلة ومواقع تصوير حية، مثل منازل الفتيات البسيطة والكنيسة والشارع وكشك البقالة.
أظهر الفيلم الضِيق الذي تواجهه الفتيات وسط عائلاتهن، والسخرية التي يتعرضن لها بسبب عملهن في المسرح وتقديم العروض، كما سلط الضوء على ما تواجهه الفتيات مقابل قدرتهن على الحلم واللحاق بأحلامهن بصبر وتفانٍ. يعتمد الفيلم على الحوارات البسيطة والتفاصيل اليومية التي تضفي مصداقية على الأحداث.
«رفعت عيني للسما» يمثّل مصر في أسبوع النقاد بمهرجان «كان» السينمائي الدولي 2024، وهو إنجاز كبير للفن المصري. صُوِّر الفيلم في قرية البرشا بمحافظة المنيا، وأبدع فريق التمثيل من مسرح «بانوراما برشا» في أداء أدوارهم. قدمت ماجدة مسعود وهايدي سامح ومونيكا يوسف ومارينا سمير ومريم نصار وليديا هارون ويوستينا سمير أداءً مؤثرًا وصادقًا يعكس بواقعيةٍ تجارب الفتيات. تميز الأداء بالصدق والبساطة، مما جعل الشخصيات قريبة من القلب.
«رفعت عيني للسما» ليس مجرد فيلم تسجيلي، بل هو شهادة حية على قوة الأحلام وقدرة الفن على تسليط الضوء على قضايا مجتمعية مهمة. يعكس الفيلم الثقافة الصعيدية بكل تفاصيلها ويقدم صورة نادرة لمشكلاتها وتحدياتها.
في حديث مع المخرجَين ندى رياض وأيمن الأمير لمنصة «ميم»، وعن استلهامهما لفكرة الفيلم تقول ندى: «ما بين 2014 و2017 سافرنا إلى الصعيد كثيرًا من أجل التعاون مع مؤسسة نسوية تدعم الفنون في المناطق النائية، ووقتها شاهدنا عرضًا لفرقة «بانوراما برشا» وكانت في قرية مجاورة للبرشا، ووقتها تأثرنا كثيرًا، فقد كانت هناك مجموعة من البنات الموهوبات اللاتي يقدمن عروضًا تفاعلية لمجتمعهن على نحو لم أره من قبل» وأضاف أيمن: «جاءت فكرة الفيلم من الفتيات. إن كلَّ ما كنا نعرفه عنهن في البداية هو المسرح، واعتقدنا أنه سيكون فيلمًا عن المسرح، لكن شيئًا فشيئًا دخلنا إلى عالم الفتيات وعوالم عائلاتهن وأزواجهن وخطابهن، واكتشفنا عالمًا أوسع وأكثر رحابة، وأصبحنا جزءًا منه».
وعن التحديات التي واجهتهما أثناء التصوير يضيف أيمن بأن التحدي الأكبر كان كسب ثقة الفتيات، وجاء ذلك عن طريق الإجابة عن جميع أسئلتهن وبناء علاقة من الثقة معهن ومع أهاليهن ومجتمع القرية بأكمله، ثم بعد ذلك جعْل وجود طاقم العمل ووجود الكاميرا معتادًا حتى تتصرف الفتيات على نحو طبيعي، من خلال نسيان وجود الكاميرا بالأساس، ولبناء علاقة الثقة هذه احتاجت ندى وأيمن أن يسافرا إلى الصعيد شهريًا على مدار أربع سنوات سواء مع الكاميرا أو من دونها، وتضيف ندى بأن الصراحة الشديدة مع جميع الفتيات كانت مهمة، وأيضًا الإجابة عن أسئلتهن عن حياة صانعَي الفيلم الشخصية، لأن العلاقة يجب أن تكون متبادلة، وأيضًا ليكنَّ على ثقة بأنهما لن يصنعا شيئًا لا يُرِدْنه، فمن خلال احترامهن وعدم الحكم عليهن تمكنا من كسب هذه الثقة، وأيضًا كان للزمن والعشرة عاملٌ كبير لبناء الثقة والاعتياد.
وعن مناقشة موضوعات حساسة مثل الزواج المبكر والعنف ضد الفتيات يقول أيمن: «في الحقيقة لم نكن نحن من بدأ هذا النقاش، بل الفتيات، فقد صورنا الفيلم في نهاية 2018 في حين أن الفتيات كنّ يقدمن هذه العروض منذ 2014، وقد تعرضن لعنف كبير في البداية، فقد كان الناس يرمونهن بالحجارة ويتحرشون بهن، حتى إن بعض فتيات الفرقة لم يتمكّنّ من الاستمرار، لكن الأخريات اللواتي صوّرنا معهن تمكّنّ من الصمود حتى أحدثن تغييرات كبيرة في قريتهن، وأكبر التغييرات التي شهدن حدوثها تتمثل في قضية الزواج المبكر، فقد بدأ الناس في القرية بالاقتناع بضرورة تعليم البنات وعدم إجبارهن على الزواج».
وتجيب ندى عن تساؤل البعض حول قدرة الفتيات على امتلاك مستوىً عالٍ من الوعي والشجاعة في هذا المجتمع القروي قائلة: «هناك قوة رهيبة لا يتم تقديرها من خلال اجتماع النساء ببعضهن، فأي مجموعة من النساء يجتمعن معًا يخلقن قوة من الوعي النسوي، فهؤلاء الفتيات كن يجتمعن ويتناقشن حول المجتمع الذي يعشن فيه ومشكلاته وقضاياه، ولم يكنّ في البداية يعرفن ما هو مسرح الشارع، فاستأجرن قاعة العروض، إلا أن أحدًا لم يكن يحضر، مما دفعهنّ إلى الخروج إلى الشارع لعرض أفكارهن ومشاركتها مع المجتمع. لذلك أقول بأن اجتماع النساء مع بعضهن يخلق قوة لانهائية».
وعن كيفية إقناع الجهات الداعمة لدعم الفيلم يجيب أيمن: «كان من المهم الوصول إلى القلب الإنساني للقصة، فالفيلم يصور حياة مجموعة من الفتيات المراهقات اللواتي يكتشفن ذواتهن ويتحولن إلى نساء ناضجات، وهذا ما يمر به كل إنسان على وجه الكوكب، والصعوبة تكمن في قرار الشخص الانسياق مع المجتمع ونسيان أحلامه وهويته أو المحاربة من أجلها وبالتالي تحمُّل النبذ والوحدة، ولكل اختيار تبعاته وعواقبه، فهذا الصراع هو صراع إنساني يتشاركه عدد كبير من البشر حول العالم، وهذا يجعل عددًا كبيرًا من الناس يلتفتون إلى هذه الفكرة سواء كانت جهات داعمة أو غيرها، كما أن وجود بيئة خاصة وأصيلة مثل الثقافة الصعيدية يزيد من خصوصية التجربة ويمنحها بعدًا خاصًا».
وبالنسبة إلى فرقة «بانوراما برشا» فقد أسستها يوستينا سمير عام 2014، وكانت المجموعة أصغر بكثير ومعظم أعضائها لم يستمروا فيها، لكن يوستينا استمرّت وأصبح هناك جيل ماجدة وجيل آخر أصغر منه يحاول تأسيس مسرح في القرية، وتقول ندى: «إننا نأمل أثناء توزيع الفيلم في الصعيد أن يتحقق هذا الحلم، لأن الفرقة الآن أصبح لها وجود لا يستطيع أن ينكره أحد» ويضيف أيمن بأن لديهما خطة لعرض الفيلم في قرى الصعيد المختلفة، على أمل أن يساهم ذلك في توسيع الوعي وإلهام الجيل الأصغر سنًا، لإيصال رسالة أن جميع الأحلام ممكنة.
كان للفتيات ظهور على السجادة الحمراء في «كان» كما قدمن عرضًا من مسرح الشارع عليها، ووقتئذ اشتغلت أيضًا الأغنية التي سجلنها بأصواتهن مع «مولوتوف» لكن رغم ذلك تقول ندى بأنهم واجهوا صعوبة كبيرة في سفر الفتيات إلى «كان»، فحتى عند مراسلة الجهات الفنية من أجل دعم سفرهن كانت الردود تجيء عبارة عن أنهن لسن فنانات حقيقيات لأنهن لسن أكاديميات ولم يحصلن على تعليم فني، وتتساءل ندى عن مدى صحة هذا الادعاء، فأي حقيقة أكثر من وصول الفتيات إلى مهرجان «كان» ليتم الاعتراف بالفن الذي يقدمنه؟ وتأمل ندى أن تعيد المؤسسات النظر في الأمر والاعتراف بالفنانين الذين لم يحصلوا على تعليم فني لأن هناك ألوفًا من الفنانين الذين يصنعون الفن على نحو فطري ولا يُعترف بهم.
الجدير بالذكر أن أيمن يعمل حاليًا على فيلم درامي سيُصور في الصعيد أيضًا، كجزء من مشروعاته المستقبلية، وتعمل ندى على فيلم عن فتاة تترك القاهرة وتذهب للعيش في الصعيد، وقد حرصا في أفلامهما على الخروج عن المركزية القاهرية في صناعة السينما، لأن هناك عالمًا آخر أكثر رحابة لا يظهر في السينما ويصر الناس على صم آذانهم عنه، لكن يقول أيمن بأن هذا العالم موجود، ويأمل المخرجان أن يبدأ صناع السينما بالتوجه إلى المحافظات من أجل التصوير فيها وملاحقة الحياة الساحرة والقصص والأحلام والمشروعات التي تحدث هناك، لأن هناك عالمًا غنيًا خارج العاصمة.