لا تخلّف الحروب غير الحسرة، حتى تلك التي تنتصر فيها، والحروب إن لم تقتل الأطفال أنضجتهم حين تلقي بهم بلا حماية أمام حقائق الوجود القاسية، أقول ذلك كلما قرأت رواية أو شاهدت فيلمًا عن الحرب وشخصيته الرئيسة طفلٌ كثلاثية أغوتا كريستوف، «عدّاء الطائرة الورقية»، «الصبي ذو البيجامة المقلمة»، و«سارقة الكتب». ولهذا السبب أتحاشى غالبًا الأفلام المناهضة للحرب، فأنا أدرك أنها مترعة بالأشلاء والدماء وآلام امتحان الأخلاق الأصعب، ومع ذلك لا يندر أن أجد فيلمًا آسرًا عن حرب صغيرة يخوضها أطفال للنجاة بأجسادهم لا بأرواحهم ولا بطفولتهم في الحرب وقلما ينتصرون.
كما في افتتاحية رواية «قصة موت معلن»، يبدأ فيلم «قبر اليراعات» (1988) بتصريح واضح لبطله الصبي أن هذا اليوم هو يوم وفاته، فيدمغ قلبي باليأس قبل أن يسير بي رحلة كئيبة تستنطق حياته كاملة من ختامها لفصلها الأول في مرثية تُظهر حجم خسارات البطل الصغير واحدة تلو الأخرى.
في المشهد الأول يقف سيتا في لباس أقرب للزي العسكري1 على خلفية سوداء، منفصلًا عن ذاته، محدقًا في جسده الذي لن يبلغ الشباب، جسد هزيل بملابس بالية، مستندًا إلى عمود رخامي، يقف بوجه جامد ويخبرنا بالتاريخ المحدد لوفاته (21 سبتمبر 1945) أي بعد شهر تقريبًا من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي استسلمت فيها الإمبراطورية اليابانية بلا شرط. افتتاحية مدهشة لفيلم أنيميشن، من إنتاج استوديو غيبلي عام 1988، والفيلم مأخوذ من رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب أكيوكي نوساكا.
أما مخرج العمل فهو المبدع إيساو تاكاهاتا، والذي إن كنتَ من جيلي سيكون الراعي الرسمي لطفولتك والأب الروحي لأجمل مشاهداتها، ولو لم تتشرف بمعرفة اسمه حتى اليوم، فقد قدّم لك «هايدي»، و«وداعًا ماركو»، كما شارك في صناعة مسلسلك المحبوب «عدنان ولينا»، وتاكاهاتا رائد من رواد الأنمي التقدمي الذي «كسر الكثير من الأطر العامة التي التزمت بها صناعة الأنمي قبله، فجاء متحررًا من التوجه لفئة عمرية محددة، كما لم يوجه عمله لجنس معين، وحطم الكثير من الكليشيهات المعتادة في الأنمي، ما جعله قريبًا من العمل السينمائي الحي»2 ولو قيل إن فيلمه هذا لم تكتمل فيه ملامح التقدمية3 وفي فيلمه هذا يبدو تأثره جليًا بالواقعية الحديثة في إيطاليا من خلال عنايته باليومي، بتفاصيله وبُعده عن أي ملمح فانتازي4.
للعمل -الممتد على مساحة ساعة ونصف تقريبًا- قصة بسيطة، تتبع خطوات البطل في أتون الحرب، لحظة غارة جوية على مدينة كوبي اليابانية. يستعد سيتا الصبي ذو الأربعة عشر عامًا للفرار من بيت الطفولة والأمان، متحملًا مسؤولية شقيقته الصغيرة سيتسكو ذات الأربعة أعوام وأمه المريضة، يخفي مؤونة الأسرة من الطعام ليذهبوا للملجأ، ويلتقط قبل الخروج صورة الأب البعيد الضابط الكبير في سلاح البحرية، مخرجًا الصورة من إطارها، يدسها في جيب لباسه ولن تظهر لنا إلا في منتصف الفيلم مدعوكة بالية في تعبير رمزي بسيط ومباشر عن تغير صورة الجيش الياباني ربما.
وقبل مرور أقل من ربع زمن الفيلم يفقد البطل مصدر أمانه الثاني (الأم) ويصمد سيتا معنيًا بهدف وحيد هو المحافظة على سلامة وضحكة أخته سيتسكو، ولن يسمح لنفسه بالبكاء ولا التعبير عن ألمه لفقد الأم حتى يجد سيتسكو تصنع قبرًا لليراعات وتكشف له أثناء ذلك أنها تعرف منذ عدة أيام أن أمها تُوفيت، وفي هذه اللحظة سيبكي للحظة ليعود ويتماسك مجددًا، قبل أن يكسره أخيرًا موت الشقيقة الطفلة.
تتوالى الهزائم الصغيرة على سيتا بالتناوب مع موجات القصف الجوي، وبعد كل موجة ينقص الطعام أكثر، وتزيد مضايقات العمة التي لن تتفهم تركيزه على أخته وتفتيشه الحثيث عن أي شيء يسعدها إلا تخاذلًا عن خدمة الوطن. تقل قدرة سيتا على مقايضة ما معه مقابل الطعام، ويتفاقم ضعف شقيقته ومرضها نتيجة سوء التغذية، ومثل أي عمل سينمائي متقن ستحصل لحظة التحول الكبرى للبطل بطريقة ذكية ممهد لها عبر سلسلة من الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والشخصية أيضًا لتنفصم أخيرًا ثقة الفتى في نفسه وفي النظام حين يسرق من مزرعة فيقبض عليه المزارع ويقوده رغم توسلاته لمركز الشرطة.
حين لا تفيده توسلاته نرى الانقلاب التام في أخلاق الفتى وتحوله لسارق لامبالٍ، بل ستمر لحظة قصيرة سيبدو فيها لامباليًا حتى بسيتسكو التي ستموت سريعًا مثل اليراعات ويبقى سؤالها الجارح: لماذا تموت اليراعات سريعًا؟!
ولعل من المناسب -ما دمتُ أتحدث عن القصة- التوقف قليلًا عند صورة العدو في الفيلم فهو غير مسمى. نعم نحن نعرف تاريخيًا حين نرى الطائرات التي تقصف كوبي أنها قاذفات قنابل أمريكية، لكن ذلك لا يُشار إليه في الفيلم لا بإشارة لفظية ولا بإظهار أي ملمح لها وهي تقصف، وحتى حين تستسلم اليابان لا يُذكر في الفيلم أي شيء عمّن استسلمت له، ولا أعرف إن كان مردّ ذلك هو الأنفة اليابانية من الإقرار بالهزيمة أمام الأمريكان، أم أن الفيلم غير معني بمن كسر الروح اليابانية التي ظنوا قبلها تعصّيها على التحطيم.
فيلم جميل وحزين بقصة بسيطة ذات تدرج درامي متقن، وهو فيلم لا يحمل أكثر من معنى وراء أحداثه، فتركيزه الأكبر أن نعيش فظائع الحرب وأن نستجلي طبقات المشاعر ونكتشف كلما أوغلنا في الألم دركًا أسفل له، وقد نجح في ذلك بتضافر قصته البسيطة برسوماته المتقنة وموسيقاه المميزة وإيقاعه الرشيق.
يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون: «لا تدع الخلفيات (شوارع عريضة، ميادين، حدائق عامة، مترو) تبتلع الوجوه التي تتحرك فيها»5 وقد نجحت رسومات «قبر اليراعات» في ذلك بإتقان -كعادة كل ما يخرج من استوديو غيبلي- ويظهر ذلك جليًا من المشهد الأول، فبعد نعي الذات المقتضب الذي يقدمه سيتا لنفسه ستنبثق إضاءة على عمود في إحدى المحطات ليظهر البطل الصغير مستندًا إلى العمود بأسمال بالية وجسد ضامر في لوحة تشبه لحد كبير لوحة المسيح ميتًا6 وستظل تقنية تحييد الخلفية ميزة ملحوظة على امتداد الفيلم بتثبيت عديدٍ من عناصر اللقطات للتركيز على العنصر الأهم في المشهد لإبرازه، كتثبيت الخلفية وكامل وجه سيتا في عدد من المَشاهد للتركيز على شفاهه المغلقة الراعشة حين يتماسك لأجل سيتسكو، أو تثبيت الخلفية وجسد سيتسكو المتراقص مع تحريك شعرات أعلى رأسها وهي تتقافز فرحةً. تبسيط الخلفية أو حتى تحييدها تمامًا وتلوينها بلون واحد في اللحظات المفصلية المهمة في رواية الحدث.
ولينقذَنا العمل من كابوسية الموت البطيء للطفلين، يعتمد إيقاعًا رشيقًا بوتيرة مدروسة، فبين وجع وآخر يلوح لنا ببارقة أمل، بانفراجة صغيرة، يزرع كركرات بريئة على صوتي سيتا وسيتسكو فيغمرنا بفرحة مسروقة نلتهمها نحن المشاهدين كما تلتهم سيتسكو حبات الحلوى من العلبة التي ستصاحبها هي وشقيقها حتى النهاية: حيلة نظل بها مربوطين بوهم إمكانية النجاة، والفيلم يأتي كل مرة بلحظة اللهو والمرح في مَشاهد ملونة بألوان زاهية وكادر واسع مع عناية كبيرة بتفاصيل الرسم.
ورسومات العمل متقنة في تجسيدها للجمال والقبح على حد سواء، فلا يمكن أن ينسى مَن شاهد الفيلم الدود ينخر جسد الأم الميتة، ولا تهايل حبات الأرز في الإناء الزجاجي بعد شحه، ولا نقوش كيمونو الأم الزاهي قبل مقايضته بالطعام، واللقطة الأجمل، الصورة العائلية بوجوه حيوية مبتسمة تتساقط عليها بتلات الأزهار الوردية7.
يزاوج «قبر اليراعات» بين رؤيته الأخروية وحسه الرثائي: الرؤية الأخروية تظهر جلية في مشهده الأول حيث يجلل اليقين روح سيتا وهي تنظر لجسده الموشك على الموت، والبهجة والرضا التي تملأ هذه الروح حين تلتقي بروح شقيقته ويطوفان بأطلال عالمهما الدنيوي السابق.
الكادر المقسوم بالتساوي بين الصغيرة الفاقدة بيتها وأمها وأبسط لوازم الحياة الكريمة، والفتى المسؤول العاجز الذي لا يحمل فقط همَّ حمايتها، بل الحفاظ على بهجة طفولتها: حين تُقعي الصغيرة باكية منطوية على نفسها، ويعجز عن إبهاجها فيقفز متشقلبًا على عمود، معلنًا أنه سيلعب، لعله يخرجها من موجة الحزن التي اجتاحتها، ولأنه مشهد مهم يوضح انكسار روح الصغيرة من البداية وقبل شقيقها، فإن المخرج سيعيد اللقطة ذاتها مباشرة من الأعلى في مشهد موجع يطغى عليه اللون الترابي القاحل، مقزمًا الاثنين معًا، محيلًا الفتاة إلى نقطة صغيرة سوداء بظل أسود طويل، والولد زنبرك صغير أخف لونًا يدور حول نفسه والعمود بلا بهجة، مصحوبًا بقطعة آسرة من موسيقى المبدع ميشيو ماميا التي نجحت في الجمع بسلاسة بين الموسيقى اليابانية والغربية.
«قبر اليراعات» تجربة عاطفية تصور الخوف والرجاء والحب الأخوي والشعور بالذنب وفشل التمسك بأسمال النبل في الحرب، وهو فيلم مشغول بالتأكيد على قيمة الحياة، وهو فيلم صالحٌ اليوم لأنْ نعيشَه كما كان صالحًا لقراءة الحرب العالمية الثانية، وقد خرجتُ من الفيلم ولم يفارقني سيتا البطل الذي لم يفر من الحرب لأتونها، لم يحارب الأعداء، بل اختار وقت الحرب أن يتواضع وأن يصبر وأن يحاول إنقاذ ما هو مسؤول عن إنقاذه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. وقد وجدتُ من يشير إلى أن تاكاهاتا اختار هذا الزي لسيتا للإشارة للأصل العسكري للمدارس في اليابان بهدف غرس الشعور بالانضباط بين الشباب
2. قلعة الأنمي، طارق الخواجي، دار أثر، 2017
3. المصدر السابق.
4. والتي سيعود للتخلي عنها قليلًا في أعماله اللاحقة.
5. مدونات حول السنماتوغراف، روبير بريسون، دار الجديد، 2011
6. لوحة للرسام الألماني هولباين
7. أظنها أزهار الكرز