إنَّ شكلَ القانون الذي يميّز رواية «المحاكمة» لكافكا حيِّزيٌّ بالدرجة الأولى. استحضر ديميترس فاردولاكيس(1) هذه الحيزيّة عندما كتب: «الحصار القانوني الذي أحاط بجوزيف ك تسرّب إلى محيطه الاجتماعي (...) يجدُ جوزيف ك نفسَه محاصرًا بالقانون كليِّ القدرة والوجود حيث يلقى نفسه محبوسًا في قفصٍ بلا جدران». اشتملت قراءة فاردولاكيس لقانون كافكا على عددٍ من العلاقات المكانيّة الثنائيّة التي شغلت دورًا في السرد: جلاءٌ وخفاء، ظهورٌ وغياب، شمولٌ وإمكان، جمود وسيولة. تجسِّدُ هذه الأنماط الفعَّالة في القانون حيّزًا معقّدًا في قانون «فارغ» يعيد رسم الأحياز المتمايزة والذاتيّات السينمائية كتقاطعات في شبكة.
هذه المقالة تتقفى بإيجاز جذور مفهوم القانون «الفارغ» من كانط مرورًا بأغامبين حتى فاردولاكيس، ثم تستعمل القانون الكافكاوي أداةً لتحليل «مكانيّة» القانون من خلال قراءة متفحّصة لعدة أفلام فلسطينية: «ميناء الذاكرة» (2010) لكمال الجعفري، «خمس كاميرات محطمة» (2011) لعماد برناط وغاي دافيدي، «كأننا عشرون مستحيل» (2003) لآن ماري جاسر، و«عمر» (2013) لهاني أبو أسعد. لربما بدَت هذه الأفلام متمايزة مكانيًّا وشكليًّا، لكنها في الواقع تشكّل أنماطًا مختلفة للحصار القانوني. لقد سُلّم جدلًا أنَّ الحركة الجزيئية خاصيّةٌ في القانون «الفارغ» إذ تتكشّف على الشاشة وتدل على ما أُطلق عليه «لَدَانَةُ الكَبتْ». ستُعرَض الأنماط الثنائيّة ضمن هذه الأفلام بوصفها أجزاءً مركّبة لهذه اللدانة.
«الحصار القانوني الذي أحاط بجوزيف ك تسرّب إلى محيطه الاجتماعي. يتمتع جوزيف ك بحريّة الحركة ولكن أينما ولّى يُحاكمه الجميع كطريدِ جنايات غامضة ومجهولة. يجدُ جوزيف ك نفسَه محاصرًا بالقانون كليِّ القدرة والوجود حيث يلقى نفسه محبوسًا في قفصٍ بلا جدران»(20).
في هذه العبارة، يسوّرُ ديميتريس فاردولاكيس ما أسماه قانون كافكا الفارغ، «حسٌّ عامٌّ بالحبس»(3) الذي تصطبغ به أعمال كافكا، وبالأخص «الانمساخ» و«المحاكمة». تُعدُّ الشخصية المحبوسة مفتاحًا لأعمال كافكا، ولكنَّ شكلَ الحبس الذي تُوضع فيه الشخصية مسألةٌ خاضعة للقانون ولها تفرّعات شتى. تحاول هذه المقالة تقفّي أشكال الحبس التي يستحدثها القانون الفارغ. استيهامات شخصيات كافكا وتأويل القانون بوصفه فارغًا، كما تناقشه المقالة، مفتاحٌ لفهم تمظهرات الحيِّز في عدد من الأفلام الفلسطينية الحديثة، وستُقرأ عدة مَشاهد منها للتوضيح. قراءة القانون الفارغ لفاردولاكيس بأعين سينمائية وفكرة دولوز بالصورة المدركَة بعلاماتها الثلاث -الجامدة والسائلة والغازية- سيُعاد تشكيلها لقراءة حركة متعددةِ الاتجاهات والبُنيات من الحبس على الشاشة، من الكتلوي حتى الجزيئي؛ ولهذا، يمكن للقانون الفارغ أن يتشكّل كيفما اتفق مع الفراغ الذي يحويه. هذه الطبيعة الحيّة التي تفتقر إلى روح تتكاثفُ -في حضورٍ مادي- ولكنها أيضًا تتبخّرُ في الغياب.
للتوضيح. قراءة القانون الفارغ لفاردولاكيس بأعين سينمائية وفكرة دولوز(4) بالصورة المدركَة بعلاماتها الثلاث -الجامدة والسائلة والغازية- سيُعاد تشكيلها لقراءة حركة متعددةِ الاتجاهات والبُنيات من الحبس على الشاشة، من الكتلوي حتى الجزيئي؛ ولهذا، يمكن للقانون الفارغ أن يتشكّل كيفما اتفق مع الفراغ الذي يحويه. هذه الطبيعة الحيّة التي تفتقر إلى روح تتكاثفُ -في حضورٍ مادي- ولكنها أيضًا تتبخّرُ في الغياب.
مقدمة: أشكالُ الحبس – من الجزيئي حتى الكُتلَوي
في كتابه «سينما الصورة - الحركة» (الجزء الأول)، يتحدث جيل دولوز عن الإدراك «السائل» حين تشكيل البُنى ووظيفة الصورة المُدرَكَة، وبالتحديد في صيرورتها من السيولة إلى الجمود، أو الكتلوية والجزيئية. يناقش دولوز «قطبَيْ الإدراك» بأن «الصورة/الإدراك لن تنعكس في وعيٍ صريح، وإنما ستنشطر إلى حالتَين، إحداهما جزيئية والأخرى كُتلويَّة، إحداهما سائلة والأخرى جامدة، إحداهما تجرّ الأخرى وتمحوها»(5).
يمكن أن يُقرأ بهذين القطبين شكلَ القانون بحضوره وغيابه، في حالاته الثلاث، إذ يتيح للقانون بالتشكل جامدًا وسائلًا، مما يسمح بغيابٍ عالمي تجنّبي وحضور متوالٍ في آن واحد. الحركة بين الحالات الجزيئية يتجسد في القانون الفارغ. وفقًا إلى تعريف دولوز لتشكيل الإدراك «السائل»، في شكله الجزيئي، يمكن للقانون الفارغ أن يتكاثف ويتبخر ويبقى أجوفَ، إذ بها يكسب حضورَه وغيابه. وإن قراءةً في القانون في حالاته الثلاث تستحضر صدى كارل فون كلاوزفيتز في كتابه «عن الحرب»(6) حينما فكر في دواخل حرب العصابات. يتحدث كلاوزفيتز عن حالات «الاختفاء والتملص» التي تعتصم بها العصابات، موضّحًا أنه «لا بد أن يتكاثف الضباب مشكِّلًا كتلة معتمة ومخيفة من السُحُب، يمكن أن تنفجر منها صاعقة من الرعد في أي لحظة»(7).
ثمة أنموذج سيولة وجمود شبيه يمكن أن يكون أداةَ تحليلٍ للقانون الفارغ وخيارًا ماكرًا لحركات المقاومة. وبدلًا من استراتيجية مقاومة تعارض الشكل «الجامد» للغة العسكرية التقليدية، يمكن أن تُصاغ معادلة كلاوزفيتز وتُطبَّق على أيٍّ من الحالات الثلاث التي يتحرك بينها القانون الفارغ ويحبس بها.
افتتاحيات اعتقالية في أعمال كمال الجعفري وإيليا سليمان
يمكن توضيح ما يشبه التباين المتناقض لحرية الحركة خلال قراءة افتتاحيتَين جسَّدتا حالتَي الاعتقال، السائلة والجامدة، لفيلمَين فلسطينيَين حديثَين: «السطح»(8) لكمال الجعفري (2006) و«الزمن الباقي»(9) لإيليا سليمان (2009). وهذان لا يشيران، ولو جدلًا، إلى نكسةٍ تتشكّل في فقدانِ الحرية مع الوقت والمكان، بل إلى «تقلّص» الحيّز وهو ما شخصَّه غيرتز وخليفي (10) عَرَضًا للسينما الفلسطينية الحديثة، بالأحرى، انعكاسًا للبدايات التقييدية التي تميّزتْ بها قصتَا كافكا «المحاكمة» و«الانمساخ»، إذ يمكن قراءة هاتَين الافتتاحيتَين كأنهما «حالة اعتقال دائمة» يؤطِّرُ بها القانونُ الفارغُ المساحاتِ المفتوحةَ ويقيّدها.
يُفتتح فيلم «السطح» لكمال الجعفري (2006) بمشهدٍ ضحلٍ وباهتٍ حيث تركز اللقطة على نافذة غبّشها المطر. نسمع صوت المخرج واصفًا فترةَ سجنه خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى. تنكشف بعض التفاصيل، نرسمُ تجربتَه في مخيلتنا، ووجه أخته المظلم يملأ الإطار، وهي تسأله وتصغي إليه. الحيّز الداخلي لم يرتسم بعد؛ لربما كان حانةً أو مقهى أو بهوَ فندق، حيث لم يزل محيطُ المشهد غامضًا.
يتّسق الوصف مع رهاب الأماكن المغلقة. التركيز السطحي والتأطير الضيّق يستحضران شخصَ المتحدّث في المقدّمة في حين تتوارى الخلفيّة -قطرات المطر التي تنزلق على النافذة- حيث تضفي حالةً من الضغط والانغلاق في المكان. يُحدِثُ المطر إزاحةً مكانية وزمانية، كما يُلاحَظ في أعمال إيليا سليمان، ويوظّف المشهد حِسًا منعزلاً وساخرًا، وهذا أسلوب متكرر. بينما يسرد الجعفري تجربة سجنه وصداقاتٍ بدأها وخسرها، يتحدث عن انقطاعه عن صديقهِ نبيه «لأني ما عرفتش إيش أقول له، لأني كنت برا، برات السجن، وهو جوات السجن». كانت الكلمات جوفاء حيث كانت الشخصيتان حبيستَين لإطارٍ ثابت. هذا المشهد مؤشر لتيار افتتاحيات حابسة واعتقالية زهَتْ بها الأفلام الفلسطينية الحديثة. صار الحبس والحصر مُعرِّفًا للغة البصرية التي تحدثت بها هذه الأفلام.
عن صديقهِ نبيه «لأني ما عرفتش إيش أقول له، لأني كنت برا، برات السجن، وهو جوات السجن». كانت الكلمات جوفاء حيث كانت الشخصيتان حبيستَين لإطارٍ ثابت. هذا المشهد مؤشر لتيار افتتاحيات حابسة واعتقالية زهَتْ بها الأفلام الفلسطينية الحديثة. صار الحبس والحصر مُعرِّفًا للغة البصرية التي تحدثت بها هذه الأفلام.
يُفتتح فيلم «الزمن الباقي» لإيليا سليمان (2009) بشخصيته الرئيسة إ.س. وهو مُساقٌ إلى بيته في الناصرة في سيارة أجرة، في ظُلمةٍ لا تُكسر إلا بفتح صندوق السيارة. لقد صُوِّر من زاوية خفيضة تطل من صندوق السيارة. محيط المشهد منغلقٌ ويُنذِرُ بالشر قليلًا؛ الجدران السوداء الداخلية للسيارة هي إطار اللقطة، بمنظور يشابه التقليد السينمائي، وبالأخص أعمال تارانتينو، بمنظورِ شخصٍ مُختطَف. الرحلة داخل سيارة الأجرة في لقطاتها السطحية مع العاصفة المطرية تُربكُ المُشاهِدَ والسائق، مستمرَّةً في إضفاء حسِّ الحبسِ والحصر.
السخرية مُخاطةٌ في المشهد، فعلى الجدران الرمادية الشاخصة التي تحدُّ تمامًا من الحيّز وراء شخصِ السائق، ثمة ملصقات لأراضٍ فسيحةٍ خضراء مرصعة ببرتقال يافا في الزاوية. والشعار «إيريتز أخيريت» والذي يعني «أرض أخرى» مكتوب في الأسفل. يمكن قراءة هذه المفارقة بوصفها إرباكًا وتحييدًا للحيِّز خلال الفيلم، وفي الأخص إرباكًا وتحييدًا يُحدِثه المطر في هذا المشهد. ثمة تشابه وظيفي وأساسي بين الافتتاحيتَين ظاهرٌ في دور المطر، فالمطر، وفقًا لدولوز(11)، يخلق محيطًا متباينًا. المكان لا هويةَ له، وهو منغلق ومربك، والمطر يجسّد شكلاً سائلاً للحبس.
الشكلُ الأكثر جمودًا لحالة الاعتقال يتشكّل في افتتاحية «ميناء الذاكرة» لكمال الجعفري (2009). هنا، المكان الاعتقالي للقانون جزيئي. الإطار الضيق والزاوية الخفيضة للقطات القريبة تكشف شيئًا فشيئًا جدرانَ بيتٍ مخرَّب. الضوء الضئيل يلقي غبشًا باردًا أزرقَ على اللقطة متحركًا ببطءٍ على مدِّ الجدار، مُكشِّفًا جروحَ التَرْكْ: شرفةٌ خرِبة هنا، نتوءُ دَرَجٍ تشبه الشوك هناك. الجدار الشاخص يملأ الصورة، إذ يقدّم لغةً تمتاز بالحبس، تُبايِنُ الشكلَ الكتلوي للحبس الذي وُصف أعلاه. يُنشِئُ الأولُ الحيِّزَ في سينما «الداخل» (الفلسطينيون داخل الكيان الإسرائيلي)، في حين يحدّدُ الأخير، الجزيئي، شكلَ الحبس المكانيّ في سينما الضفة الغربية. سيُركِّزُ النصفُ الآخر من هذه المقالة على هذا الشكل السائل الجزيئي.
جذور القانون «الفارغ»
قبل توضيح آليات القانون «الفارغ»، إنه لمن المهم تتبع جذوره. يقتدي فاردولاكيس بسبينوزا، وبالتحديد كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة»(12) حيث يناقش ثنائيتَي الضرورة والإمكان. تكمن أهمية القانون في أهميته لا مضمونه. الانصياع للقانون هو ما يهم مقرونًا بالإمكان، وهذا يُقدّر بأحوال الجماعات. ولهذا، يكتب فاردولاكيس: القانون «فارغ لأنه ضروري وممكن»(13). هذا الفراغ أو غياب المضمون يضع قراءة فاردولاكيس لقانون كافكا في نقاشٍ مع جورجو أغامبين ولو كان وفقًا لعدة مصادر. يختزل أغامبين القانون الذي يفتقر إلى المضمون في نظريته لحالة الاستثناء من فكرة كانط «البسيطة» لشكل القانون، التي استنبطها في كتابه «نقد العقل العملي»(14). وفقًا لكانط، القانون الذي يفتقر إلى مضمون يبقى فارغًا، و«تشريعًا شاملاً»(15). يأخذ أغامبين هذه النقطة المفصلية التي تتداخل فيها الحياة والقانون، ويستحضر الحياة المُعاشة في القرية التي في رواية «القلعة» لكافكا مثالاً «للقانون الذي فقد مضمونه [إذ] يتوقف عن الوجود ويختلط بالحياة.»(16). إن تقصّي أغامبين القانون الفعليّ الذي يفتقر إلى أهميّة رجوعًا إلى كانط من غرشوم شوليم يكشف عن منطق نظريته في حالة الاستثناء (17). ما رآه فاردولاكيس وأغامبين في القانون الكافكاوي غيابُ المضمون عنه وتماهيه، وهذا ما يجعله خطِرًا ويهبه القدرة على التغلغل. في قراءة فاردولاكيس في القانون الفارغ وإزالته من تصنيف الحقيقة في «المحاكمة»، رأى أنه يتشكّل في قالبَين، أحدهما ديني (يمكن القول بأنه زمانيّ) والآخر سياسي حيوي(18) (يُختزل في الحيّز). في رأيي أن الأخير مفتاحٌ لفهم شكل القانون الذي يُدار في الأفلام الفلسطينية، حيث يحوي الشكل السائل الحركةَ بين الحالتَين الكتلوية والجزيئية التي تشكل أنماط الحبس المختلفة. العلاقات المهمة ضمن القانون الفارغ في شكله السياسي-الحيوي هي في ذاتها إمكان شمولي.
متأملًا كيف للقانون الفارغ بشكله السياسي الحيوي أن يجمع بين الضروري والممكن، يقول فاردولاكيس:
«في غياب المضمون، يصير جميع من في الرواية أوصياءً قانونيين، ولهذا، عندما يقول تيتوريلي أن القضاة غير مرئيين، فهو ليس لأن القضاةَ غائبون ومضامينهم صحيحة دائمًا، بل لأنهم في كلِّ مكانٍ وحُكمهم اعتباطي. جميعهم قضاة، وجميعهم أدانوا جوزيف ك من لحظات اعتقاله الأولى بلا جناية فعليّة»(19).
إذن، القانون الفارغ منتشر شموليًّا في نمطٍ سياسي-حيوي. بلا مضمون، هذه الأحكام اعتباطية وعارضة كيفما اتفق. تدفع هذه الحركة القانونَ دفعًا باتجاه الأفراد، مموضعةً القانون الفارغ كحيّزٍ سياسي-حيوي أساسي.
بهذه الفكرة، تتّبع هذه الورقة أشكالَ الحبس التي يشكّلها القانون الفارغ من خلال استقراء مَشاهد من «ميناء الذاكرة»(20) لكمال الجعفري، و«خمس كاميرات محطمة»(21) لعماد برناط وغاي دافيدي، و«كأننا عشرون مستحيل» (22) لآن ماري جاسر، و«عمر»(23) لهاني أبو أسعد.
«ميناء الذاكرة» لكمال الجعفري (2010) يحكي ظاهريًّا قصة سليم، الذي هو على شفا فقدان بيته بسبب مُقاساته لفقدان الذاكرة. فقدان البيت استعارة مجازية لتواري يافا، المدينة التي تضم أحداث الفيلم. المشهد الموصوف هنا يصوّر «غياب التجلّي» للقانون، والذي يجد سليم نفسه قد مرّ به مسبقًا. يُظهر المشهد (أو ربما يواري) حوارًا بين سليم، بطل الفيلم، ومحاميه، وهما يتناقشان حول مكان صك بيت سليم.
المحامي هو طيفُ القانون الفارغ. لا نرى المحامي حيث إن الكاميرا مثبتة على سليم، لا تحيد عنه أبدًا. أولاً، نسمع صوته في حين يصرف عميلاً آخر قبل مناداة سليم. يبقى بلا وجه، حضورًا مفرّغًا، طوال حوارهما. هنا، ليس القانونُ وحدَه فارغًا، بل حتى شخصه، حيث المحامي، الذي هو بلا وجهٍ ولا اسم، مُغيَّب. هذا المشهد بالضرورة مشهد كافكاوي، لأن سليم، بمنطَلقٍ مكانيّ، ماثلٌ أمام القانون. بتعبير كافكا، «مسجًّى أمام القانون»، رجل ريفيّ يلتقي خازنًا، ويطلبُ وصولاً للقانون، فيُرفَض، والبوّابةُ أمامَه مُشرَعة.
«أمام القانون يقفُ بوّاب. إلى البواب يجيء رجل من الريف ويتوسّل الدخول إلى القانون. يخبره البواب أنه لا يستطيع أن يسمح له بالدخول في الوقت الراهن. يقلّب الرجل فكره ومن ثم يسأل إن سيُجاز له الدخول لاحقًا. يقول البواب: "من الممكن، ولكن ليس في الوقت الراهن". بما أن البوابة مشرَعة، كما هو المعتاد، والبواب يقف بجانبها، ينحني الرجل ليطلّ عبر البوابة إلى الداخل.»(24)
إحدى قراءات هذه الأمثولة هي عدم وجود قانون كهذا، فهو متماهٍ داخل كلمات ووثائق حُماتِه، إذ يجد سليم نفسَه مهجورًا «أمام» القانون، الذي صيّره خارجًا عنه، كالرجل الريفي في عمل كافكا أو حتى جوزيف ك، فهو خارج عن القانون الذي لا يستطيع تثبيتَه، وهو أيضًا محاصَر بذات القانون المُفرّغ الذي لا مضمون له.
هذا القانون الفارغ يتجسد على نحوٍ أكبر في هذا المشهد من خلال غيابٍ مزدوج. ثمة محامٍ مغيَّبٍ بلا وجه، وثمة أيضًا إحالة إلى وثيقة داعمة لدعوى سليم. المحامي لا ذاكرةَ له. «بكون رميتهم يا سليم»، يقول متحدّثًا عن الأوراق الثبوتية. عدم القدرة على الوصول إلى أي شيء مكتوب يستحضر مشهدًا من «المحاكمة»(26) يحاول فيه ك أن يصل إلى كتب قانونية، فيجدها لا تحتوي على سجلات أو محاضر، بل صورٍ خليعة. قانونٌ كهذا بلا مضمون، ينثر ضرورته الشمولية في أصوات وأجساد لامرئيّة، متمثّلاً في أوصياء قانونيين. عدم القدرة على الوصول وعدم التمكن من الرؤية يهب القانون الفارغ قابلية على التغلغل، ويعزز قيود الاستبداد والإمكان.
إن إمكان ولامرئيّة القانون الفارغ يُضخَّم إلى حدّه الأقصى في مشهد متأخر من «ميناء الذاكرة»، عندما يختفي محامٍ لامرئي تمامًا حينما يعود سليم إلى مكتبه، فيجد بابًا مقفلًا أعلى الدرج، مجددًا تحت رحمة قانونٍ مقيِّد مغيَّب. ثمة خطان متقاطعان على الباب المقفل، وعلامة X هنا دلالة على نقطة تلاشٍ وغياب. هذا هو إمكان القانون الفارغ، وتحولاته المادية حين يغدو بلا شكلٍ، ضبابيٌّ ومنتشر.
هذا المشهد أساسي في الحركة داخل الحيّز، حيث يشكل سينمائيًّا حيثيّات الضرورة الشمولية للقانون الفارغ. يمكن قراءة افتقاره الشمولي إلى المضمون كإحساسٍ للحبس العمومي حيث يتشكل داخل الإطار. يمكن مشاهدته طوال «ميناء الذاكرة»، منعكسًا في لغة الجدران والسطوح التي تهيمن على محيط المشهد داخليًّا وخارجيًّا، في حين تتجلى ضرورته في الحركة من الغياب المنتشر إلى حضورٍ خبيث يتمظهر دوريًّا. يمكن مشاهدته في «المظهر» الذي بلا جسد وفي الاختفاءات المتلاحقة للوصي القانوني في «ميناء الذاكرة»، ويمكن أيضًا ملاحظة ارتباط وثيق في أحد المَشاهد الرئيسة من فيلم منفصل إقليميًّا (مصور في الضفة الغربية وليس إسرائيل)، هو «خمس كاميرات محطمة» (2011) لعماد برناط وغاي دافيدي. يوثق هذا الفيلم تجربة عماد برناط، إذ كان مزارعًا ثم أصبح مخرجَ أفلام، والخمس كاميرات التي في العنوان وثّقت قرية بلعين في الضفة الغربية وصراعها مع المستعمرة الإسرائيلية موديعين عيليت، وبناء حاجز الضفة الغربية، والذي يسوّر المستعمرة ويقتطع جزءًا كبيرًا من بلعين. يدور هذا المشهد وسط الفيلم، حيث يصل الجيش إلى باب عماد في حلكة الليل ليخبره أن منزله صار داخل «منطقة عسكرية مغلقة» ويجب إخلاؤه.
هذا المشهد يمثل، بطريقةٍ لا يمكن إلا للسينما التعبير بها، التحوّل إلى حالة استثناء، ووفقًا لأغامبين «محل هامشيّ ظاهريًّا (...) هو الذي يحدّد في الواقع فضاءً وقع فيه بالفعل تعليقُ النظام القانوني العادي…»(26). يستحضر فتح الباب في الليل حالةَ الاستثناء عند ممثلي السلطة التي تجسدت هنا في الجندي الأول معلنًا عن «منطقة عسكرية مغلقة» مباشرةً في حياة عماد، ويُعمِلُ تغييرًا مكانيًّا في الحيز. أُقصيَ عماد في الحال (في حس زماني، ومن دون وساطة) أمامَ القانون وخارجه، كما أُحِلَّ مكانيًّا في الخارج ضمن الداخل، دخيلٌ في «منطقة عسكرية مغلقة». الحدود العامة والحدود الخاصة، الداخل والخارج، فُرِّغَتْ كلها من المعنى، إذ أصبح الاحتمال الفارغ للقانون واقعًا خبيثًا متجليًّا في الاستثناء.
الوظيفة الطوبولوجية للقانون الفارغ
القانون الفارغ، وكيف يعزّل المساحات والذاتيات الفلسطينية في شبكة، يحتّم تفكيرًا طوبولوجيًّا بالمكان. وبما أن الطوبولوجية دراسة لخواصّ الحيّز، فهي تمكّن التفكير بالمكان بوصفه شبكةً من العلاقات. والأهم، إنها تُدير تشكيلَ الأحياز والأقاليم بمعزلٍ عن الهندسة الإقليدية، ولا تُفهم الأخيرة إلا بالكمّ والقياس (مسافة بين نقطتَين)، في حين يُفهم الحيز الطوبولوجي بصورة أفضل على نحوٍ نوعيّ، حيث تجري خواصه تحت ظروف التشويش والتمطيط والطيّ. ولهذا، إنه سطح واحد مكون من نقاط متعددة، وغير متجانسة ومعزولة تلتمّ وتنشعب عند طيّ السطح. بهذه الطريقة، تسمح لنا حركات القانون الفارغ بالتفكير في اللامتطابق والمستمرّ، وكيف يمكن للإقليمَين (فلسطينيو الداخل، والضفة الغربية) أن يشكّلا محيطَ مشهدٍ معزول، في العلاقة بين الأنماط المختلفة من القانون الفارغ، والتي تعمل طوبولوجيًّا وتشوِّش التفكيرَ بالداخل والخارج.
وقد تكررت قراءات جورجو أغامبين الطوبولوجية في أعماله، ولربما حوَت مقالته «ما بعد الحقوق الإنسانية»(27) -المنشورة عام 1993- على أكثر قراءة متفاعلة مع الحيّز، تفكيكٌ «خارج إقليمي» للحيّز الداخلي. في نهاية المقالة، وهي قراءة لأعمال حنّة آرنت عن المواطنة والسيادة ومحاولة للتفكير خارج الحدود الإقليمية، يحيل أغامبين إلى حادثة أُقصي فيها 425 فلسطينيًّا خارج الحدود إلى «منطقة أمنية»(28) في جنوب لبنان. هذه المنطقة الأغامبينية الضبابية حُدَّتْ في حيّزٍ «أكثر داخليَّةً من أيِّ دولةٍ مقارنةً بإسرائيل»(29). هنا، يتيح التفكير بالحيّز تفكيرًا طوبولوجيًّا دخولَ تعقيدات الداخل والخارج(30) إلى حدّ يصبحان فيه غير متمايزَين، حيث «يتمازج الداخل والخارج». وربما الأكثر أهمية، أنه يستحضر تأثيرًا تحويليًّا للحيّز وهو يتهادى بين الحياة والقانون. يعود أغامبين إلى هذه الفكرة حين ينظّر لحيّز الاستثناء في «المنبوذ»(31)، حيث يستمدّها من توماس هوبز وكارل شميت لتأسيس الحيّز الضبابي بوصفه شكلاً طوبولوجيًّا، منطقةً ضبابية بين «الداخل والخارج، الطبيعة عن الاستثناء، الفيزيس عن الناموس»(32). وفقًا لأغامبين، الأحياز الطوبولوجية مهمة لقدرتها على تأويل المضمون الإيجابي والخبيث للقوانين المطبقة خارج حدود الدولة.
أيضًا، يستخدم جيل دولوز(33) نمطًا طوبولوجيًّا في التفكير حول الأحياز المعقدة والصِّلات في السينما بدءًا بالروابط الزمنية في المكان، وهو يؤسس تصنيفًا من الزمكانيات التحوّليّة، من بلورة «طبقات» الماضي و«قمم» الحاضر، للأحياز المطلقة. من المؤكد أن دولوز بنى طوبولوجيته حينما كان يُنظّر «العلامات الزمنية»، التي قسّمها إلى شكلين(34): «الأولى منها ملامح (مناطق، طبقات)، والثانية هي إشارات (أطراف النظر)»(35). يخوض دولوز في الطوبولوجية بوصفها ممارسةً رياضيّة لتشكيل ما يحدث في نقاط الإحالة ضمن مدى مرونة صفحات الماضي. حينما يصف دولوز العلاقة بين صفحات الماضي في أعمال آلان رينيه، هو يصف الأساس الرياضي لتحوّل الخبّاز:
«يمكن أن يُشد المربع فيصبح مستطيلاً يشكل نصفاه مربعًا جديدًا، بحيث تتوزع مساحته الكلية من جديد حسب التحول الحاصل. إذا أمعنا النظر في منطقة من هذه المساحة، مهما كانت صغيرة، فلا بد في النهاية من أن تنفصل نقطتان، وأن تتوزع كل نقطة في أحد نصفَي المربع، بعد عدد من التحولات»(36).
ومن هنا، يبني دولوز طوبولوجيا تحولات، حيث تُقرأ الأحداث والشخصيات والأحياز على نحوٍ متتالٍ وهي تتشكل وتتراصف. في هذا النظام، تقوم السينما مقامَ تجميعة متراصفة مستمرة من الصلات والروابط والعناصر بداخل الأفلام في صورتها الكاملة أو في مشهدٍ منها في صورة جزئية، وإن كانت عابرة، أو متمثلة في عناصر المشهد أو الصوت أو التحرير. بهذه الطوبولوجيا من الصور يمكننا تبيّن تشكيل دولوز للصورة السينمائية بوصفها امتدادًا للصورة الفكرية. مع نهاية الفصل الخامس من كتاب «سينما الصورة – الزمن» (الجزء الثاني) يصف دولوز بجلاء طوبولوجيا الصور بوصفها صورًا فكرية:
«والشاشة بالذات هي غشاء دماغي يتجابه فيه حالاً ومباشرةً كل من الماضي والمستقبل، والداخل والخارج، ودون مسافة تذكر، وبمعزل عن أية نقطة ثابتة. لم تعد للمكان سمات المكان الأولى ولا حركته، بل صارت تحديدًا لموقعه وزمنًا له»(37).
بالنسبة إلى متفكر في المكان مثل دولوز، يبدو إخضاع «المكان والحركة» إلى «الطوبولوجيا والزمن» فِعلًا غيرَ عادي. لكن، بالتفكير في المكان والصلات طوبولوجيًّا، ينجلي ما عارضه دولوز ليس فكرةً لوفيفريّة (إشارة إلى هنري لوفيفر) حول المكان بوصفه منتجًا اجتماعيًّا، بل شكلًا إقليديًّا. في «سينما الصورة – الزمن» (الجزء الأول)، يُفصّل دولوز الأحياز المطلقة، قارئًا أحيازًا ذات أثر في أعمال بريسون وأنطونيوني، شكلان مكانيَّان سمّاهما «مفصولة» و«فارغة». تعريفُ الحيز المطلق هو انعتاق من الشكل الإقليدي، أو الحيّز الهندسي، حيزٌ فَقَدَ «مبدأ علاقاته المترية، أو فقد ترابط أجزائه، بحيث تتمكن الوصلات من أن تتحقق بطرق لا تُحصى»(38)، في حين أن الأخير «مجموع عديم الشكل»(39)، ضبابيُّ الحركة والأحداث. لكن، بينما يعي الطبيعة الطوبولوجية لهذه الأشكال، يشدد بأنه «تفترض كل حالة وجود الأخرى»(40) ويحافظ الحيز العادي على طبيعة واحدة، أي «لم تعد له حيثيَّات، لأنه طاقة صِرف»(41). في الفصل التالي، يتحرر دولوز مجدَّدًا من الهندسة الإقليدية حينما يتحدث عن الهندسة الريمانية في أعمال بريسون(42)، في الواقعية الجديدة، في الموجة الجديدة وفي مدرسة نيويورك و«فضاءات ترجيحية وطوبولوجية عند رينيه»(43).
التفكير الطوبولوجي حول الحيّز الذي اقترحه أغامبين، مع قراءة طوبولوجيا دولوز في الصورة، يمكِّننا من التفكير حول السينما الفلسطينية، حيث يمكن أن يُنتِج تقاطعُ القانون الفارغ والذاتيات الفلسطينية تأثيرًا تحوّليًّا على العلاقات المكانيّة.
التشوّهات المكانيّة: القانون الفارغ والتقاطع الطوبولوجي في «كأننا عشرون مستحيل»
يتناول الفيلم القصير «كأننا عشرون مستحيل»(44) لآن ماري جاسر، التقاطعات الطوبولوجية بين مختلف الذاتيات الفلسطينية والقانون الفارغ. يُفتتح الفيلم في الجو، على يدٍ بلا جسد تظهر داخل الإطار، مصوَّرة عن قرب بجانبِ راكبٍ في سيارة مارة على تلال الضفة الغربية. صوتُ بطل الفيلم الذي هو بلا جسد -وهو مخرجُ الفيلم بداخل هذا الفيلم- يتحدّث بحماسة عن شعوره بالحريّة في مؤخرة السيارة والمشهد الطبيعي منبسطٌ حوله. ينقطع المشهد إلى مشهدٍ جويٍّ طويل للحقول ومن ثم يعود لتتبع التلال المنحدرة من نافذة السيارة. تشظّي الجسدِ والصوتِ مهمّان. المشهد الطبيعي الفسيح وحريّة المشهد التتبعي سيُوقَفَان قريبًا بنوعٍ من التعتيم والإظهار التدريجي لضوضاء الزحام وركود نقطة تفتيش قلنديا (الواقعة بين رام الله والقدس) والتي تختنق بالسيارات الموقوفة والهويات المفتَّشة. في هذه المرحلة، تأتي ليونة المنطقة في كلام المصور محمد حيث يقول: «هذا مش حاجز، كمان سنة سنتين بيصير حدود». تتوارى نقطة التفتيش الثابتة في حين يتّخذ الطاقم طريقًا جانبية. هذه الطريق مبدئيًا تشير إلى انسياب الحركة بتلال الضفة الغربية وهي تمر من النافذة، والحوار المنساب بين آن ماري (في نيويورك) ورامي، ممثلها الرئيس من رام الله.
تُوقَفُ الحركة مرة أخرى، حيث تطلُّ من أعلى تلال الضفة الغربية نقطة تفتيش متحركة، وهذا الظهور يعيدُ تشكيلَ المنطقة بطرقٍ معقدة. في هذا الحيّز الجديد، تدرك شخصيات الفيلم ذواتها بالداخل والخارج في آنٍ واحد من خلال شكل طوبولوجي من التقسيم المكاني، حيث يظهر في أشكالٍ عدة، من التناقضات القانونية إلى العناصر الشكلية في الفيلم نفسه. بهذا المرور، تُخضَعُ الشخصيّات قانونيًّا ووجوديًّا إلى إزاحة مكانية. آن ماري، التي تُعِدُّ نفسها في وطنها، تحمل جوازًا أمريكيًّا. في البداية تقلق أدنى القلق بشأن اتخاذهم طريقَ عودة وتحاول أن تكبح جماحَ الحيِّز كلّما اشتدّ في تحوّلاته. مصوّرها محمد من يافا، وهو قانونيًّا عربي-إسرائيلي، ولكن يُقال له إنه لا يستطيع الدخول إلى الضفة الغربية كمواطن من أجل «سلامته» الشخصية وإن عليه غرامة ألفَي شيكل بسبب «خروقاته». رامي، الممثل الذي يسكن الضفة الغربية وهو منها أيضًا، يُعتقل بسبب أنه «مشبوه»، لكن لا يُعلمُ لماذا أبدًا. آن ماري، التي تحمل جوازًا أمريكيًّا، يُنظر إليها كدخيلة، كما يُشار عندما يعلم أحد الجنود الإسرائليين بأنها من نيويورك فيقول: «في الحقيقة، وُلدتُ في ميامي» في لحظة سريالية من المودّة المفروضة. ويُزيد تعقيد هذا الحيّز أكثر سؤالٌ قانوني عن تصريح التصوير. عندما تُظهر آن ماري للجندي «حقَّ» صناعة الأفلام في الضفة الغربية، يقول لها بأن هذا التصريح للمنطقة «أ» ولكنهم الآن في المنطقة «ب»(45).
لهذا، يعيد القانون الفارغ ترتيب الحيِّز طوبولوجيًّا. يجد الفلسطينيون الثلاثة أنفسهم موقوفين بالعمليات القانونية للحيِّز، حيث صكَّها ستيوارت إلدِن «الامتداد الحيِّزيُّ للسيادة»(46)، تقنية سياسية حيوية، حيِّزٌ لا يحدُّه مكان، إنما سيولة شكليّة. بسبب الظهور المفاجئ للجنود، يجد الفلسطينيون الثلاثة أنفسهم في حيزٍ جديدٍ يشبه تقاطعات في شبكة ناسجين، داخليٌّ وخارجيُّ في آن واحد، فضاءٌ يحوي تجسيدَ المنفى في آن ماري، التي تشعر بأنها في «الوطن»، تجسيدًا مبدَّدًا بتخبّطات المؤامرات القانونية السطحية التي تعيد رسم المكان. هذه التخبّطات متجليَّة سينمائيًّا في مختلفِ الصور. آن ماري، التي تحمل جوازًا أمريكيًّا، تحوز على حريّة قانونية داخل الحيّز، وعلى أيِّ حال تجد نفسها غريبةً وجوديًّا. ثقتُها الأولى بقدرةِ المجموعة على المرور تتبدّدُ على نحوٍ مفاجئٍ بسبب فكرة أغامبين بسلطة السيادة في المكان. ثمة تخبّط آخر حينما يُقال لها إن رخصتها في المنطقة الخطأ. الفوضى المكانية لهذه الشخصيات الثلاث تتوازى مع انفصالٍ في الصورة والصوت. في اختتامية الفيلم، بينما تُؤمرُ آن ماري بالتوقّف عن التصوير، يبدأ الصوت والصورة في الانفصال بتكسّرِ الصوت قبل أن يختفي، وتتشظّى الصورة برحيل آن ماري من المكان، ويبقى مصيرُ الآخرين مجهولاً.
قانونٌ فارغٌ بلا حقيقة في «عمر» (هاني أبو أسعد)
رغم أن فيلم «عمر» لهاني أبو أسعد (2013)، يوظّف ظاهريًا إطارًا أقل ثباتًا من أعمال سليمان والجعفري، ومواجهةً أقلَّ صراحةً مع القانون السياسي-الحيوي في «كأننا عشرون مستحيل»، فإنه يمكن قراءته على أنه بالفعل فيلمُ حصرٍ وحبس. يوظّف الفيلم لغةَ الذنب والضرورة والكذب، والتي تجعله كافكاويَّ البُنيَة. يتناول الفيلم قصة عمر وطارق وأمجد، ثلاثة أصدقاء في الضفة الغربية، وعلاقتهم التي تتعقّدُ بتقرُّبِ عمر وأمجد من ناديا، أخت طارق، وفوق هذا انضمام الثلاثة إلى الجند، والتي تتعقّد بعد مقتل جندي إسرائيلي في عملية عسكرية. هذا يفتح الفيلم على حركة دائرية من عدم الثقة والتواطؤ والغدر. تعمل هذه الحركة كأداةِ موازنة، حيث تجعلُ الشخصيةَ تحتملُ حدَّين، فتصبح الشخصية جاسوسًا محتملًا، مما ينبئ عن الضرورة الشمولية في نمط السياسة الحيوية من القانون الفارغ الذي عبّر عنه كافكا.
يُفتتح الفيلم بالتقاطةٍ قريبة على وجه عمر، وينتقل إلى مشهدٍ طويل حيث يكشف الجدار العازل وحبلاً متدليًّا وراءه بمحاذاة كتفه. وبلياقة مفعَمة، يتسلق عمر الجدار ويقفز إلى الجانب الآخر والنيران تتطاير حوله. يركضُ في أزقة ضيقة متتالية وينتظر حتى يطمئن لسلامته، قبل أن يدخل إلى بيت طارق. هذا على ما يبدو يهدم منطقَ الجدران ونقاط التفتيش بوصفها نقاط تضييق وعرقلة. الطاقة الحركية والدينامية في حركة عمر في تلك المَشاهد الأولى تَسِمُ الجدارَ العازل كعائق مزيف لـ«باركور» عمر. لكن يمكن القول بأن هذه السيولة والطاقة الحركية هي أولى الطبقات الخادعة الكثيرة في الفيلم. يُسمح لعمر ما يمكن أن يُطلق عليه الحريّة الوهميّة للحركة. على غرار ما توصّلَ إليه فاردولاكيس في جوزيف ك، الحَبسُ الذي يتجلى في عمر يتجسد خلال شكلٍ قانوني من صور الأقفاص المفتوحة، في حَصرِ الشخصية الرئيسة التي «تنتشر على كاملِ محيطها»(47). حتى في المَشاهد الحركية «المفتوحة» من الجو في شوارع القدس، ثمة تكرارٌ بصري بأزقة ضيّقة لا حد لها، جدرانٌ وأبواب تنغلقُ على عمر، تاركةً إياه بلا مخرجٍ مكاني.
هذا شكلٌ واحد من تعددية الأقفاص، حيث تتباين من شوارع القدس «المفتوحة» حتى الحَبس التام للزنزانة التي يشاركها عمر مع الحشرات وهو ينتظر التحقيق. أكبر هذه الأقفاص هو قفص الذنب والتواطؤ والارتياب، المخفي المفتوح، الذي يحاصر كل الشخصيات وينتشر على كامل الفيلم. ستُناقش هذه الأسس من الخيانة والذنب والارتياب تفصيلاً.
«ليس من الضروري أن يعدَّ المرءُ كلَّ شيءٍ حقيقيًّا، إذ ينبغي عليه أن يعدَّه ضروريًّا فقط»: الكذبُ نظامًا عالميًّا في «عمر» (2013)
تصنيفُ الحقيقةِ غائبٌ في بُنيةِ الفيلم، والتصنيفات كالصداقة والعداوة مموهة إلى حدِّ التمازج، حيث يصيرُ الجميع ممثلين قانونيين. ثمة مستويات عديدة من الخداع في «عمر»، من الشخصي حتى السياسي، وتُمَوّه هذه المستويات إلى حدِّ التمازج. عمر في علاقة خفيّة مع أختِ صديقه المقرب، ناديا، ويراها دون علم طارق. بعد القبضِ عليه مجتازًا الجدار العازل، يُضربُ ويُهان من الحراس، محفّزين إياه لمشاركة طارق وأمجد في كتائب المقاومة. يصيبُ أمجد جنديًّا في نقطة تفتيش. وبعد فضِّ المقاومة، يُسجن عمر ويُستجوب من أجهزة الأمن الذين يعتقدون أن طارق هو المذنب. إبان هذا الحبس، يظهرُ الخداعُ الأول.
يقترب مقاتلٌ من المقاومة الفلسطينية إلى عمر ويخبره كيف سيُوقِعه عميلٌ في السجن يدّعي أنه صديقه، ويحذّره قائلاً: «اوعى بعمرك تصير عميل». يخبره عمر أنه لن يعترف. في المشهد التالي، يُكشف «السجين» بأنه العميل رامي الذي يعمل لصالح الإسرائيليين، إذ إنه سجَّل محادثتهما، ومن ضمنها رفض عمر بالاعتراف، والذي في القضاء العسكري يعني اعترافًا. لاحقًا في الفيلم، حينما يسمع عمر رامي يتحدث العبريّة إلى والدته، يعترف بأنَّ عربيَّةَ رامي كانت فصيحة وبلا لهجة، مما أقنعه بأنه عربي. وبالرغم من أن رامي يظهر في دور الرجل الشرير في الفيلم، فإن عولمةُ الذنب والارتياب تسوِّي هذه التصنيفات. جميعُ مَن في الفيلم يقيمون بين حدودِ الصديقِ والعدوِّ والنجيّ والخؤون. هذه الحدود المخرومة تتشكل في المشهد أعلاه، الذي يُظهر فيه رامي وعمر -بالرغم من عدم اتّزان القوى بينهما- أُلفةً تجاه بعضهما، محصورَين في حلقةٍ شعورية بالذنب والخيانة والتلاعب كما هي حالهما. إنه مشهدٌ ملطَّف حيث إن الأُلفة مختلطةٌ بارتيابٍ عميق، ولكنَّهما عارفَين بارتباطِهما معًا بحكم الضرورة والطارئ. عمر ورامي متشابكان وكلاهما يعتمد على الآخر، وكلاهما بلا مخرج.
مع استمرار الفيلم، ينكشف متواطئ أو جاسوس. وبتكرر القبض على عمر وتسريحه، يصبح شعوره بالذنب مسلَّمًا به. يعترف أمجد بأنه يؤمّن معلومات للأجهزة الأمنية نتيجةَ الإكراه، وقد أحبَلَ ناديا. عند هذه النقطة، يظهر أن عمر هو الذي خِينَ من ناديا، والتي كانت علاقتها بأمجد بمثابة نفوذ ضد الكتائب. ينتهي المطاف بمواجهة بين عمر وأمجد وطارق، والارتياب والخيانة يصيران كارثة، والخيانات الشخصية والسياسية سيّان.
خاتمة الفيلم كأنها كَشْفٌ بنيوي، وهي تُعرِّي نظامَ الكذب والخداع الذي يستقي منه القانون الفارغ تعريةً كاملة. عمر يُجري محادثةً غريبة مع ناديا التي -بعد موت طارق- تتزوج أمجد وتلد طفلَين (قرارٌ رآه عمر ضروريًّا بسبب الحمل). حينما يتحدثان عن عُمْرِ الطفلَين، ينتبه عمر إلى مدى خداع أمجد، فلم تكن ناديا حبلى في الوقتِ الذي ادّعاه أمجد، ولذا فإن كل «قرار» اُتُّخِذ، اُتُّخِذَ ضمن شبكة من الكذب والكذب العكسي اللذَين نِيطا في كلِّ علاقة.
إن نمطَي الضرورة والإمكان اللذين يقولبان القانونَ الفارغَ قفصًا فارغًا -والذي هو بدوره سببٌ للذنب شموليًّا واعتباطيًّا- هما نمطان معزولان عن الحقيقة في حوار البواب والرجل من الريف في نهايةِ «المحاكمة». الحديث عن الحقيقة والقانون بين جوزيف ك والراهب يخلُصُ إلى أن الضرورةَ شرطٌ يعزلهما:
«… "لقد تم تعيينه في الخدمة من قبل القانون، فالشك في جدارته، يعني الشك في القانون نفسه". فقال ك وهو يهز برأسه: "أنا لا أوافق على هذا الرأي، فإن من يتبناه يجب أن يعتبر كل ما يقول حارس الباب حقيقة. وكون هذا غير ممكن، بررته أنت بنفسك على نحو منفصل". فقال الكاهن: "لا، لا يجب أن يعد الإنسان كل شيء حقيقيًّا، وإنما أن يعتبره ضروريًّا فقط". فقال ك بلهجة من ينهي حوارًا: "هذا لك برأي تعيس. بهذا يصبح الكذب نظامًا عالميًّا"»(48).
غيابُ الحقيقة يخلق هيكلًا، قفصًا مفتوحًا من الأكاذيب والذنب والخيانة التي توقعُ جميع من في الفيلم في شراكها. ولممارسة السلطة في هيكل يكون فيه الخيار غير متاح بسبب انتشار الضرورة، يقرر عمر قتلَ رامي، مترجيًّا أن يجد مخرجًا من حلقة الأكاذيب والعنف، والتي في الواقع ليست بمخرجٍ أبدًا.
خاتمة
عبر هذه القراءات للقانون الفارغ بسيولته تجاه الحصر والحبس، فإن الذي يظهر في هذه الأفلام، يمكن أن يُحصرَ في مصطلح «لَدَانَةُ الكَبتْ». هذه اللدانة، برأيي، مهمة لفهم الطريقة التي يعمل بها القانون الفارغ طوبولوجيًّا لتشويش وتمويه الفضاء السينمائي للسينما الفلسطينية الحديثة، مؤطِّرًا حقلًا طوبولوجيًّا يمكن أن يظهر فيه القانون الفارغ ويشوِّش الفضاءات الإقليمية المنفصلة لفلسطين وإسرائيل، والتي أطلق عليها إدوارد سعيد(49) «الداخل» (الفلسطينيون داخل إسرائيل)، أو الضفة الغربية. كذلك، يمكن لصور الحركة والركود أن يُعاد ترتيبها طوبولوجيًّا لإنشاء الكبت على نحوٍ كتلوي وجزيئي. هذا الشكل من القانون بالإمكان أن يُعمل به دون أهمية، حيث يؤطِّر الشخصيات وينظّم الحيِّز في الداخل، وبإمكانه أن يتكاثفَ حاضرًا، مُعملًا حركةً تستعمل الذاتيات الفلسطينية المنفصلة والمفرَّغَة كتقاطعات في شبكة لرسم منطقةِ تمازج. لكنه أيضًا يتوزع بشكله السياسي الحيوي على الجماعات، جاعلًا الجميع ممثلًا للقانون. هذه التلاقيات الطوبولوجية، سواءً أكانت متصلة أم كانت منفصلة مع القانون الفارغ -كما ناقشته هذه الورقة- تُعرِّف الحيِّزَ بشكله المعاصر في السينما الفلسطينية الحديثة.
1. Dimitris Vardoulakis, “Kafka's Empty Law: Laughter and Freedom in The Trial”, in Philosophy and Kafka. eds. Brendan Moran and Carlo Salzani (Lanham: Lexington Books, 2013), 34.
2. Vardoulakis, “Kafka's Empty Law”, 34.
3. Vardoulakis, “Kafka's Empty Law”, 33.
4. جيل دولوز، سينما: الصورة – الحركة (الجزء الأول)، ترجمة: جمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية.
5. دولوز، سينما (الجزء الأول)، ص.161.
6. كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، ترجمة: سليم شاكر الإمامي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
10. Nurith Gertz and George Khleifi, Palestinian Cinema: Landscape, Trauma and Memory. (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2008).
11. دولوز، سينما (الجزء الأول)، ص.214-215.
12. باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة: حسن حنفي، مراجعة: فؤاد زكريا، مؤسسة هنداوي.
13. Vardoulakis, “Kafka's Empty Law”, 36
14. إمانويل كَانط، نقد العقل العملي، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية.
15. كانط، نقد العقل العملي، ص.78.
16. جورجو أغامبين، المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية، ترجمة: عبد العزيز العيادي، منشورات الجمل، ص.78.
17. حالة سياسية يتجاوز بها الحاكم القانون من أجل المصلحة العامة. وظيفةُ القانون في هذه الحالة السياسية تتراوح بين إقصاء الإنسان وضمّه في الوقت نفسه؛ لأن السلطة ليست أحادية، فالداخل (في القانون) والخارج منه يتماهيان ويلتبسان. (المترجم).
18. السياسة الحيوية أو البيوسياسية (Biopolitics): مصطلحٌ ابتدعه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ويُعنى بعلاقة السياسة الحديثة بالحياة الإنسانية، فالسياسة الحديثة لا تسلب حياةَ الناس أو تدافع عنها فحسب، بالمفهوم القديم، أي «رعيّة» أو «رعايا»، بل ظهر مصطلح «سُكّان»، وظهور هذا المصطلح مقرونٌ بصعود دور الدولة من كيان هامشي إلى سلطة متحكمة ومهيمنة في أخص شؤون سكانها وشروط حياتهم عبر أدوات تنظيمية وإحصائية وصحيّة وما عداها. والسياسة الحيوية معنية بقدرة الدولة بعقلنة أجساد رعاياها وتنظيم رغباته ومراقبته. (المترجم)
19. Vardoulakis, “Kafka's Empty Law”, 40.
20. .كمال الجعفري، ميناء الذاكرة، ألمانيا، فرنسا، الإمارات العربية المتحدة، 2009.
27. منشورة: Giorgio Agamben, “Beyond Human Rights”, in Means Without Ends: Notes on Politics, ed. Giorgio Agamben, trans. Vincenzo Binetti and Cesare Cesarino (Minneapolis and London: University of Minnesota Press, 2000), 15–26
28. Haberman, Clyde, “Israel Expels 400 From Occupied Lands; Lebanese Deploy to Bar Entry of Palestinians”, New York Times, December 18, 1992, Link.
29. Agamben, “Beyond Human Rights”, 25.
30. Agamben, “Beyond Human Rights”, 24.
31. أختلف مع هذه الترجمة لمصطلح «Homo Sacer» والتي تعني حرفيًّا «الإنسان الحرام» أو «الإنسان المقدس»، والتي يمكن ترجمتها «الإنسان المُستباح» تماشيًا مع المقصد من فلسفة أغامبين، وهي تصرّف الدولة بإبعاد الرعايا عن القانون وضمّهم داخله في الوقت نفسه. خارج القانون وأمامه، داخله وخارجه، جسدًا وروحًا، فأجسادهم مُستباحة. (المترجم)
32. أغامبين، المنبوذ، ص.. 59.
33. جيل دولوز، سينما: الصورة – الزمن (الجزء الثاني)، ترجمة: جمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية.
34. هذه العلامات الزمنية (chronosigns) مستمدة من «المخروط المقلوب للذاكرة»، التي يشير إليها دولوز (في سينما (الجزء الثاني)، ص.163) بأن طرف الحاضر «الدرجة الأكثر تقلَّصًا للماضي.».
35. دولوز، سينما (الجزء الثاني)، ص.. 165.
36. دولوز، سينما (الجزء الثاني)، ص.193.
37. دولوز، سينما (الجزء الثاني)، ص.203.
38. دولوز، سينما (الجزء الأول)، ص.212.
39. دولوز، سينما (الجزء الأول)، ص.230.
40. دولوز، سينما (الجزء الأول)، ص.230.
41. دولوز، سينما (الجزء الأول)، ص.230.
42. للاستزادة: Gilles Deleuze and Feìlix Guattari, A Thousand Plateaus, trans. Brian Massumi (London: Continuum, 2004).
43. دولوز، سينما (الجزء الثاني)، ص.210.
44. آن ماري جاسر، كأننا عشرون مستحيل، (فلسطين، 2003).
45. استنادًا لاتفاقيات أوسلو، انقسمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: منطقة أ، ومنطقة ب، ومنطقة ج. المنطقة أ تدخل ضمن السيطرة الأمنية والمدنية الفلسطينية، والمنطقة ج تدخل ضمن السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية. أما المنطقة ب مشتركة، أو «منطقة محايدة».
46. Stuart Elden, Terror and Territory: The Spatial Extent of Sovereignty (Minneapolis: University of Minnesota Press, 2009).
47. Vardoulakis, “Kafka’s Empty Law”, 34.
48. كافكا، المحاكمة، ص.270.
49. Edward Said, After The Last Sky (London: Vintage, 1986), 51.