إنه لتحدٍّ محفوفٍ بالمخاطر، أن لا تصنع قصَّتك الأصلية بالكامل، وتُقدِّم - بدلًا من ذلك - نسخةً جديدةً من "دراكولا"، أشهر مصّاصي الدماء في الأدب والسينما، أو بالأحرى تُقدِّم نسخةً محدَّدة منه: نوسفيراتو (Nosferatu). و «نوسفيراتو» (Nosferatu - 2024) هو عنوانُ الفيلم الروائي الطويل الرابع للمخرج الأميركي روبرت إيغرز، الذي عاد عام 2024 ليَمنح الأسطورة الخالدة جماليَّةً بصريَّةً مذهلة، مستلهمًا مادَّته من العملَيْن المؤسِّسَين (الرواية والفيلم)، ولينجزَ مشروعه الطموح بعد سنوات من البحث والتطوير، مقدِّمًا فيلمًا قوطيًّا حديثًا من الدرجة الأولى، ربَّما يكون أحد أجمل تمثيلاتِ الشاشة لأسطورة مصَّاصي الدماء، ما رشَّحه لأربعِ جوائز أوسكار.
شيء من التاريخ
هناك من يتساءل: دراكولا، أم نوسفيراتو، أم كليهما معًا، أم هما المخلوق نفسه؟ سؤالٌ يعود بنا إلى البدايات، أي قبل أزيد من قرنٍ، وتحديدًا عام 1922 حين أخرج الألماني فريدريك مورناو (1888-1931) تحفته السينمائيَّة الصامتة «نوسفيراتو - سيمفونية الرعب» (Nosferatu – Eine Symphonie des Grauens)، المقتبَسة من رواية «دراكولا» الشهيرة للكاتب الأيرلندي برام ستوكر (1847-1912) الصادرة عام 1897. ولمَّا لم يكن مورناو يملك الحقوق، ولتجاوز هذه العقبة القانونيَّة، غيَّر الاسم إلى نوسفيراتو، وكذلك أسماء الشخصيَّات الأخرى، مع الحفاظ على سير الأحداث والقصَّة، ما جعل أرملة ستوكر تفوز بقضيَّتها في المحكمة التي أمرت شركة برانا بإتلافِ نسخ الفيلم بتهمة الانتحال! طبعًا نجت نسخة نوسفيراتو «مورناو» التي اعتُبِرت عملًا طليعيًّا في ذلك الوقت، وسرعان ما أصبح واحدًا من كلاسيكيَّات سينما الرعب والحركة التعبيرية الألمانية.
هكذا إذن تَغيَّر موقع القصة من إنجلترا إلى ألمانيا، وأمسى الكونت دراكولا هو «الكونت أورلوك» دون أن يكونه حقًّا، لأن نوسفيراتو خلقَ - سينمائيًّا - أسطورته الخاصة، بالنظر لتصميمهِ المرعب كمخلوقٍ لا يمثِّل الشرَّ الخالصَ كما هو حال دراكولا، إنما على ارتباطٍ وثيقٍ بمعاناة البشر وما ينشره الوباءُ القادم بينَهم من عدوى ومرضٍ وموت.
في عام 1979 صنعَ مخرجٌ مبدعٌ ألمانيٌّ آخر هو فيرنر هِرتزوغ نسخةً جديدة من الفيلم بعنوان «نوسفيراتو - مصاص الدماء» (Nosferatu: Phantom der Nacht)، معيدًا الأسماء الأصليَّة للشخصيَّات كما جاءت في رواية «دراكولا»، بمعالجةٍ إحيائيَّةٍ ملهِمة أكثر قسوة، وأكثر تأملًا في أسئلة الخوف والموت، لم يُخفِ فيها وفاءَه وافتتانَه بمعالجة مورناو وحبكة الفيلم الدراميَّة. وإذا تحدَّثنا عن معاناة مورناو في إخراج فيلمه، وافتتان هِرتزوغ، لا بدَّ من ذكر البراعة الباروكيَّة للمخرج الإيطالي-الأميركي فرانسيس فورد كوبولا، في نسخته من الفيلم «برام ستوكر دراكولا» (Bram Stoker's Dracula - 1992)، التي أضافت لمحةَ حبٍّ إلى عناصر الرعبِ والغريزة، والرغبة والموت، المرتبطة أساسًا بأسطورةِ مصاص الدماء.
وكشيءٍ من التاريخ الشخصيِّ للمخرج الأربعيني روبرت إيغرز، فقد أخرجَ نسخةً مسرحيَّةً أولى له من نوسفيراتو وهو طالبٌ في الثانويَّة، قبل أن يُعيد إخراجَها بشكلٍ محترفٍ وطَموحٍ عام 2001 بدعمٍ من أحد المنتجين، ولنكون هنا حيال شغفٍ قديمٍ ومتجدِّدٍ بإخراج نسخةٍ سينمائيَّةٍ جديدةٍ من الفيلم الذي رُشِّح إلى أربع جوائز أوسكار وهي: أفضل تصوير، وتصميم إنتاج، وتصميم أزياء، وماكياج وتصفيف شعر. لعلَّ ذلك يحيلنا إلى أفلام إيغرز السابقة، وتركيزهِ على التأثيرِ البصري في معالجة أسئلته المحوريَّة حول الإيمان والمعتقدات والأساطير.
خطوة جريئة إلى الوراء
كان فيلم «الساحرة» (The Witch - 2015) مفاجأةً سارَّةً للجميع، خاصةً في مزجه بين الجماليَّة والتصوُّف والغموض، وتقديمه للممثِّلة أنيا تايلور جوي في أوَّلِ دورٍ رئيسيٍّ لها، ولكن منذ فيلمه المضطرب «المنارة» (The Lighthouse - 2019)، سادَ الإفراط الشكليُّ والبصريُّ الذي كان مبالغًا فيه في فيلم «رجل الشمال» (The Northman - 2022)، الذي لحقه فشلٌ ذريع غير مستحق رغم ملحميَّته الشكسبيريَّة الانتقاميَّة. إلا أن هذه التجارب كرَّست إيغرز في قائمة الأسماء الرائدة في صناعة أفلام الرعب الحديثة التي تعودُ إلى مصادر نوعِها. ولعلَّ هذا ما دفعَه إلى الإقدام على خطوة إلى الوراء، والعمل على إعادة اكتشاف شخصيَّة دراكولا التي دخلت إلى الثقافة الشعبيَّة، وأدت إلى ظهور العديد من الأفلام اللاحقة خاصَّة بعد نسخة كوبولا.
إذن نحنُ هنا أمام معالجةٍ حديثةٍ للقصَّة الأصلية: ألمانيا عام 1838، حيث يعيش توماس هوتر (نيكولاس هولت) مع زوجته إيلين (ليلي روز ديب)، وكموظفٍ جديدٍ في وكالةٍ عقاريَّة، يكلِّفه رئيسُه بمهمَّة تستمرُ لعدَّة أسابيع، وهي الذهاب إلى قلعة الكونت أورلوك (بيل سكارسغارد) في جبال الكاربات، وتحديدًا في ترانسلفانيا، وهذا الأخير هو رجلٌ ثريٌّ مريضٌ ومنعزل، ليُوقِّعه على عقد شراء قصرِ غرونوارد المدمَّر في فيسبورغ، المدينة الخياليَّة التي يعيش فيها توماس وإيلين. في رحلته المعقَّدة، المليئة بالتجارب المرعبة، يتجاهل توماس رجاء سكان إحدى التجمُّعات الغجريَّة - حيث توقف للراحة - بالتخلِّي عن مهمَّته التي ستجلب له - حسبما قالوا - اللعنة والمصائب. هنا يتبنَّى إيغرز الجانبَ القوطيَّ والغامضَ للقصَّة الأصليَّة بشكلٍ كامل، ويُقدِّم مشاهدَ فخمةٍ مثيرةٍ للإعجاب، سواء في الطريق أو في الغابة، أو في الثلج أو في القلعة الرماديَّة المهجورة للكونت أورلوك (استُخدِمت لأجلِ ذلك قلعة بيرنشتاين بالتشيك، وهي ذاتها القلعة التي صُوِّر فيها فيلم هرتزوغ).
بينما يجد الشاب نفسَه مسجونًا في ظروفٍ غامضةٍ داخلَ قلعة الكونت، تتعرَّض إيلين مرَّة أخرى - كما يتبدَّى من المشهد الأوَّل للفيلم - لرؤى كابوسيَّة تربطها بهذا الوحش الليلي الذي يطمح إلى اللقاء بها جسديًّا بعد أن تمكَّن من السيطرة على أحلامها ورغباتها المكبوتة، ممَّا يثير شغفًا ناريًّا يهدِّدُ بتحويلِ المدينة إلى جحيمٍ من الموت والوباء إذا لم يتحقَّق. هنا يبرز الدورٌ المركزيُّ لإيلين في الفيلم، بين حبِّ زوجها توماس وهدف أورلوك الجنسي البحت واستسلامها أخيرًا له من أجل كسر اللعنة، في عالمٍ يحكمه الرجال والرغبة والسلطة. أُلقيَ الثقلُ على كاهل ليلي روز ديب، وقد كانت مثاليَّةً بأدائِها المعقَّد والمكثَّف لدور إيلين النحيلة في قصَّةٍ قوطيَّة، رغم مطاردة شبح أنيا تايلور جوي لشخصيَّة إيلين، والتي كانت مبرمجة في الأصل لتجسيدها لولا تعارُض جدولها الزمني.
لا شكَّ أنَّ هذه الأجواء شكَّلت ما يسمَّى بـ "منطقة الراحة" للمخرج الذي أطلق العنان لخياله المروِّع والمذهل، مع فريق عملٍ في ذروة إبداعه، من التصوير الفوتوغرافي لجارين بلاشكي، إلى موسيقى روبن كارولان، وما رافقهما من إضاءةٍ وماكياجٍ وأزياء وديكورات، يَغرق المشاهدُ في جمالها الطيفي المتوهج، وامتزاج ألوانها الباردة والدافئة، واللعب على الضوء والظل والرماديات التي تحوْل دون طغيانِ لونِ الدماء.
مأزق الـ ديجا فو
يُعاب على الفيلم إيقاعُه البطيء والمتقطِّع، ناهيك عن الاعتماد الكلِّي على التأثير البصري، في قصةٍ باتت معروفةً ولا تقدِّم الكثير من المفاجآت. لا شك أنَّ التصويرَ الفوتوغرافيَّ يكاد يكون بلا عيب، كما أن الإخراج محكومٌ بتركيبٍ مثاليٍّ لكلِّ لقطة، لكنَّ الفيلم في مجمله، وعبر ساعتين واثنتي عشر دقيقة، يعاني من حواراتٍ غيرَ ضروريَّةٍ وسردٍ طويلٍ للغاية. يظهر إيغرز هنا كمكافحٍ لئلَّا يفقد الفيلم وتيرته، ولكن الضعفَ يبرز أكثر في الشخصيات الوظيفيَّة، حيث يلعب آرون تايلور جونسون (بدور فريدريش هاردينغ) ووليم دافو (بدور البروفيسور ألبين إبرهارت فون فرانز) وغيرهما أدوارًا لم تُطوَّر بشكلٍ كافٍ على الورق عكس الثلاثي المُميَّز. وأمام تلك الشخصيَّات شبه السلبيَّة المستسلمة لواقع الفوضى المتزايدة جراء الرغبات الجامحة لأورلوك، يغلب التفسير الذي يحيل إلى ما يشبه قصص طرد الأرواح الشريرة لا بكونها قصَّة عن مصاص الدماء، حتى أنَّه وَرد في أحد الحوارات أن نوسفيراتو ليس استعارةً للمرض أو الكآبة أو الجنون فحسب، بل هو كائنٌ شيطانيٌّ بحت. هذا التفسير المباشر أفقَد الوحش شعريَّته الغامضة وعمق صورته. هذا لا يمنعنا من تلمُّس بعض العبارات الدامغة في الفيلم، على غرار قول البروفيسور فرانز: «لقد رأيت أشياء في هذا العالم كانت ستجعل إسحاق نيوتن يزحف مرة أخرى إلى بطن أمه!».
كذلك، لم يخدم الفصل الثاني البطيء الفيلمَ بالشكل المطلوب، رغم أنَّه جاء كتتمَّة منطقيَّةٍ لتطوُّر الأحداث الموضَحة في البداية، وعلينا الانتظار حتى النهاية للعودة إلى الكثافة المفقودة في المنتصف، وصولًا إلى مشهدٍ ختاميٍّ لا يخون جوهر نوسفيراتو، حيثُ نجح روبرت إيغرز في تأليفِ وتقديم واحدةٍ من أجمل اللقطات النهائيَّة لهذه النسخة من أسطورةٍ مرعبةٍ ورائعةٍ لها أن تترك بصماتها إلى جانب أسلافها.
ولا شك أن تصميمَ الكونت أورلوك سوف يكون محلَّ جدلٍ لفترةٍ طويلة؛ كتلةٌ من لحمٍ فاسدٍ وماكياجٌٍ مهيبٌ بشاربٍ أرستقراطيٍّ مثل سلفه الأدبي، إذ يصعب خلف كل ذلك التعرُّف على الممثل بيل سكارسغارد. هو فعلًا وحشٌ حقيقيٌّ لكنه يفتقد إلى كونهِ ظلًّا مراوغًا يتربَّص بمخاوفنا، رغم منحهِ صوتًا خشنًا بلكنةٍ ثقيلة، وانتشار ظلِّ يدهِ على مباني المدينة، فإنَّه على تناغمٍ تامٍّ مع مصَّاص الدماء الذي صوَّره مورناو في عصره، كما أنَّ الكشف عنه في الضوء أزاحَ الكثير من الغموض المقدَّم في بداية الفيلم. لعلَّ روبرت إيغرز بالغ في كرمه واحترامه لمورناو، في عالمٍ بتنا نعرف أنَّه يفتِنه بوضوحٍ بقدر ما يفتن المُشاهدَ الذي لن يخرج إلا وقد رُسِّخت في ذهنهِ الكثير من الصور والمشاهد الوحشيَّة والقاتمة، البديعة والمذهلة في آن.