من خلف نافذة مسورة بالحديد، تتطلع فتاة مراهقة للخارج، تتوشح بالسواد عند خروجها من المنزل، حال جميع النساء في تلك القرية. في السعودية، تحديدًا عام 1996. يبدو كل شيء مظلمًا، أناس يعيشون في قرية فقيرة، يعمل معظمهم في رعاية الأغنام، وهناك مدرسة واحدة في القرية، دكان واحد، ومنازل بعضها بلا كهرباء. يأتي مدرس من خارج القرية ليعمل بها، وعلى الجانب الآخر، يلتقي بالفتاة اليتيمة والحالمة نورة في ظل جو مشحون بالتوتر والاختباء. يجمعهما الدكان الذي تشتري منه نورة المجلات خلسة، ويشتري منه نادر السجائر خلسة أيضًا. وفي كل مرة يتطلع البائع الهندي للخارج ليرى إن تلصص عليهم أحد.
تحاول نورة الخروج من القرية، لكن العمة التي تربيها بعد وفاة والديها تخبرها بأنها ستعيش وتتزوج وتموت في تلك القرية. تسهر نورة أمام المجلات، وتذاكر لأخيها الصغير، وتطلب من المدرس، الذي يرسم خلسة في الظلام، أن يرسمها، فيما خطيبها يتبع تحركاتها، ويتجول ببندقيته لصيد الحيوانات.
يحرص نادر على تعليم طلابه القراءة والكتابة، محاولاً فتح نوافذ نور في داخلهم. يخبرهم عن الضوء والظلمة، مثلما يخبر نورة أيضًا: «هناك أناس يرون الظلام، وآخرون يرون النور». تتابع نورة: «وأنا ماذا أرى؟ هل أبصر الضوء؟».
يحرض الفيلم على النضال من أجل الأحلام، على الإيمان بالفن الداخلي، على تتبع هذا الضوء الذي يقبع داخل كل فنان. فإن الفيلم عن رحلة فنانَين يستكشفان فنّهما، كل من خلال الآخر. يصور الفيلم أيضًا الفنان بوصفه كائنًا وحيدًا، ففي مجتمع طارد، ينتهي الأمر بنادر مطرودًا، وبنورة خائبة الآمال. غير أن الفيلم يحرص على عدم تقديم نهاية واضحة، كما يكرر بمباشرة في بعض الأحيان ثيمات الضوء والظلام، ويضعهما في صراع غير مباشر طوال مدة الفيلم، فتقول إحدى الشخصيات: «الكهرباء ستدخل إلى القرية شئتم أم أبيتم»، ويبدو أن توفيق الزايدي قد حرص على تأكيد رسالة الفيلم، من خلال تكرار ثيمة الظلمة والنور.
من المفترض للفن أن يغير حياة الناس إلى الأفضل، لكن في بعض الأزمنة، وبعض المجتمعات، يعيش الفنانون نبذًا كبيرًا، ويسقط الحالمون من على حافة أحلامهم، ففي الفيلم تقول نورة: «إن الأحلام هي أسوأ شيء يمكن أن يحدث»، لأنه في بعض الأحيان، ترافق الأحلامَ الهائلةَ تعاسةٌ كبيرة، نظرًا للفجوة الكبيرة بين الحلم والواقع، ونظرًا للصراع الذي يضطر الحالمون أن يعيشوا فيه، إذ يصطدمون بمجتمعات جافة، مجتمعات لا تحلم، ولا تتطلع إلى البعيد.
يشجع فيلم «نورة» على الحلم والإيمان، ويحمل نادر شعلة الضوء في تلك القرية، فعلى الرغم من أنه يعيش في منزل دون كهرباء، فإنه يتبع النور في داخله. وكذلك نورة، التي تحلم وتتشجع لتحقيق أحلامها، فإن الحلم وحده ليس كافيًا، وكلتا الشخصيتين كانتا بالشجاعة الكافية ليُخرجا النور بداخلهما إلى العالم، وهذا الضوء هو ما يجمع بين نورة ونادر، لكن في ظل مجتمع مظلم، معتاد على الظلمة، قد تبدو الشمس للبعض مزعجة في بعض الأحيان.
مثّل فيلم «نورة» لتوفيق الزايدي المملكة العربية السعودية في مهرجان «كان» السينمائي في دورته الـ77، ضمن المسابقة الرسمية في قسم «نظرة ما»، في أوّل مرة يتواجد بها فيلم سعودي في هذا المهرجان العريق، فقد عادت السينما في عام 2017 فقط، ورغم ذلك وخلال هذا الوقت القصير، أثبتت المملكة أنها ملأى بالمواهب التي كانت تنتظر فقط إشارة واحدة حتى تُظهر نفسها للعالم، وبرأيي فإن وصول فيلم «نورة» إلى مهرجان «كان» السينمائي هو دلالة على انتصار النور في النهاية، حتى ولو غلبت العتمة لبعض الوقت.
قبل بداية عرض الفيلم، وقف توفيق الزايدي رفقة نجوم الفيلم يعقوب الفرحان وعبد الله السدحان وماريا بحراوي على خشبة العرض. تحدّث الزايدي بأسلوبه الهادئ معبرًا عن تقديره للحظة التي مثّلت فرصة عظيمة له ليشارك العالم قصصه المحلّية، مؤكدًا على إيمانه بالسينما التي يمكن أن تمنح كل إنسان الفرصة ليصوغ حكاياته ويشاركها.
مثّل عرض فيلم «نورة» بمهرجان «كان» لحظةً جميلة للسينما السعودية، فبعد انتهاء عرضه وقف الجمهور المكوّن من الصحفيين والنّقاد والمهتمّين بالسينما يصفقّ لمدّة ست دقائق إعجابًا واحتفاءً بما شاهدوه، وتجمّع الصحفيون والمصورون حول فريق الفيلم لالتقاط الصّور وأخذ التصريحات والأفكار.
حلّ مخرج الفيلم توفيق الزايدي ضيفًا في حديث حصري في منصّة «ميم»، وضح فيه أهمية الكتابة من أجل الحصول على فيلم جيد، فالكتابة هي كل شيء بالنسبة إلى الزايدي، وقال بأنه عمل على النص منذ عام 2015، وظل يعمل على تطوير القصة لوقت طويل، حتى أثناء التصوير. يقول الزايدي: «إن دور السيناريو هو رواية القصة بأفضل شكل ممكن، فإن لم يكن لديك قصة قوية فإنك لن تستطيع أن ترويها بأي شكل من الأشكال» ويتابع: «الكتابة هي إعادة الكتابة».
ومن أهم صفات المخرج هو أن يكون قائدًا مثلما يقول الزايدي، ولذلك لم يواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الممثلين، لأن المخرج يتعامل مع مختلف العقول ومختلف الأعمار، ومختلف الحالات النفسية، فكان يتحدث مع كل ممثل على نحو مختلف، إذ إن الدور الأهم للمخرج هو اختيار طاقم العمل والحرص على التناغم بينهم، فقد وضع عبد الله السدحان في دور شيخ القبيلة لأن الناس تقدره بالفعل وتتعامل معه كنجم، كما استطاع التعامل مع الأطفال من خلال الممثل يعقوب الفرحان لأن الأطفال يحبونه كثيرًا، كما أنه وجد بداخل ماريا -عندما أجرى كاستينج لها- طاقة تمثيل كبيرة تناسب الشاشة الكبيرة، فكل ممثل بداخله فنان، وواجب المخرج هو إخراج هذا الفنان إلى الخارج.
أما بالنسبة إلى الديكورات في الفيلم يقول الزايدي: «القرية كانت موجودة منذ الثمانينيات، لكننا قمنا ببناء البقالة بشكل كامل، وكذلك الفصل في المدرسة، والبيوت الداخلية بُنيت أيضًا بشكل كامل بتفاصيل دقيقة، مثلاً حرصتُ على عدم وجود كهرباء في منزل نادر رغم أن هناك بعض البيوت التي يوجد فيها كهرباء، فلم نغفل عن التفاصيل حتى التقنية منها، مثل دهان منزل نادر الذي جعلناه أكثر لمعانًا حتى يزيد من الإضاءة عندما يشعل الشموع، مما يساعد على تعزيز الإضاءة في الفيلم»، وفيما يخص ثيمة الضوء والظلمة في الفيلم يقول الزايدي: «حرصنا على إبراز الضوء والانحياز له، فمثلاً في التسعينيات كان جميع الفنانين يرسمون في الظلام، لكننا جعلنا الرسام يرسم في الضوء في دلالة على أننا يجب أن نكون في الضوء».
وتحدّث الزايدي عن اختياره لفترة التسعينيات لتدور بها أحداث الفيلم: «تلك الفترة هي فترة مراهقتي، وأيضًا كان الفن في فترة التسعينيات رائعًا للغاية في السعودية والعالم العربي، لكنه لم يكن ظاهرًا، كما أنها كانت الفترة التي اكتشفت فيها الفن والسينما»، وعن اختياره للسينما بالتحديد يقول الزايدي: «السينما هي أجمل طريقة لرواية القصص»، وعن الرسالة التي يوجّهها الزايدي لصناع السينما السعوديين يقول: «لا يوجد شيء اسمه نجاح؛ هناك تحقيقُ أهداف، وهو جزء من الرحلة، لكن الرحلة يجب أن تكون مستمرة»، كما يحضّهم على الإيمان بأنفسهم وبالفن السعودي، وبرواية قصصهم الشخصية، لأن في المملكة قصصًا هائلة تستحق أن تُروى.
وختم الزايدي حديثه عن مشاركته في مهرجان «كان» السينمائي، وقال الزايدي: «أنا مهتم بأن تذهب قصصنا المحلية إلى العالمية، ووجود فيلم "نورة" في قسم "نظرة ما" مهم للغاية».