منذ مشاهدة المقطع الدعائي لفيلم «مايسترو» (2023)، أصبح الفيلم واحدًا من أكثر الأفلام ترقبًا للعام، بالإضافة إلى ثلاثة أفلام أخرى هي «قتلة القمر المُزهِر» و«أشياء بائسة» و«منطقة الاهتمام»، لكن الاختلاف أن تلك الأفلام تواجدت بسبب ثقل أسماء صناعها، سكورسيزي ولانثيموس وجوناثان غليزر.
لكن الوضع مختلف بالنسبة إلى برادلي كوبر لإن فيلمه الأول «مولد نجم» (2018) كان ضعيفًا، لم يستطع خلاله أن يثبت نفسه على كافة الأصعدة، سواء بوصفه كاتبًا أو مخرجًا، وأضاف اسمه إلى قائمة طويلة من ممثلي هوليوود الذين تتملكهم عجرفة شديدة تجعلهم يظنون أن باستطاعتهم أن يسطوا على هذين الكرسيين كما يسطُون على أضواء الشهرة منفردين. يظن بعضهم أنه عندما ينخرط الممثل في المنظومة السينمائية، سوف يتمكن ببساطة -مع توالي تجاربه وتعدد صناع الأفلام الذين يعمل معهم- أن يصبح صانع أفلام، لتُكلَّل أفلامهم في النهاية بفشل ذريع.
تُقبِل استوديوهات هوليوود لاهثةً على إنتاج أفلام بميزانيات ضخمة أحيانًا لممثلين لا يملكون أي تجارب ولا تلتفت إلى صناع سينما شباب يحفرون في الصخر من أجل ربع فرصة مماثلة. خُيِّل إليّ أن برادلي سيفعلها هذه المرة ويتجنب أخطاء الماضي ويكتسب الخبرة من تجربته الماضية ذات الشخصيات الأحادية الكرتونية، لكنني كنت مخطئًا.
في كتاب «فن الإخراج السينمائي» للمخرج الأمريكي المخضرم سيدني لوميت، الذي يحاول فيه أن ينقل خلاصة تجربته في عالم صناعة الأفلام، يتحدث لوميت عن الصورة والأسلوب تحديدًا، قائلاً:
«فمناقشة الأسلوب باعتباره شيئًا منفصلاً تمامًا عن مضمون الفيلم، هذه المناقشة تصيبني بالجنون. إن الشكل يتبع الوظيفة في الفن والأفلام أيضًا.... صنع أي فيلم هو دائمًا حول حكاية القصة ومن المؤكد أن الطريقة التي تحكي بها قصة يجب أن تكون على علاقة بما تحكي عنه القصة.
وهذا هو الأسلوب: الطريقة التي تحكي بها قصة معينة. بعد القرار الحاسم الأول (عن أي شيء تدور القصة؟)، يأتي القرار الثاني الأكثر أهمية: الآن وقد عرفت [عمّا] تدور القصة، كيف سوف أحكيها؟، وهذا القرار سوف يؤثر في كل قسم يشترك في الفيلم الذي [أكون] على وشك أن أصنعه».
انطلاقًا مما قاله لوميت سأقسم الحديث عن الفيلم إلى ثلاث أسئلة تشمل كل الجوانب التي أود الحديث عنها بخصوصه.
السؤال الأول: ماذا تريد؟
السؤال غير موجه إلى برادلي فقط، بل هو موجه إلى أي صانع أفلام أو فنان، فيجب أن يعرف ماذا يريد من قصته، أيُّ خط هو الخط الرئيس، وكيف سيبني حوله كل شيء. أنت هنا أمام قائد أوركسترا ومؤلف موسيقي ومُعلّم موسيقى وفنان يحب الحياة والاختلاط بالناس رغم أنه يحتاج إلى العزلة لصناعة موسيقاه على حد تعبيره، شخص يكره الوحدة ويخشاها لدرجة أنه لا يغلق أي باب، حتى باب المرحاض.
بالإضافة إلى كونه فنانًا، فهو زوج وأب، كما أنه مزدوج الميول الجنسية، فينجذب إلى كلا الجنسين، في عصر لم تكن أمريكا وهوليوود تتصالح مع أفكار مماثلة.
أنت أمام عدة طبقات، أيًا منها تختار وأيًا منها تجعله يدور في الخلفية؟ إن اختيارك لطبقة وخيط للسير عليه لا يعني أن تترك البقية. إذا اخترتَ أن تحكي كل شيء ستخسر كل شيء في النهاية، فلا يمكنك -مهما كنت بارعًا- أن تتناول مسيرة حياة فنان كاملة، ما بالك إذا كانت مسيرته تشمل جوانب مهنية وشخصية عديدة؟ وفي الوقت نفسه لا يمكنك تجاهل خطوط مهمة هي جزء من الشخصية الرئيسة وسيُحدث تركُها إخلالاً بالبناء الدرامي لها، لتصنع تجربة غير مكتملة.
وبذكر سؤال «ماذا تريد؟»، ثمة مفارقة ساخرة، حيث في أحد مَشاهد الفيلم يخبر برنستاين أحد طلابه أن ما يحاول إنطاق الأوركسترا به غير واضح ويشدد قائلاً: «فكّر فيما تريد أن تفعله، إلى أين تريد أن تأخذها؟»
وهو السؤال الذي نطرحه على برادلي هنا لأن هناك فوضى تجتاح جوانب الفيلم كله على مستوى القصة والصورة، وسنستعرضها بالتفصيل في السؤال التالي، ولكن للعودة إلى سؤالنا هذا، هل يوجد إجابة مسبقة على مثل هذه الأسئلة؟
عند صناعة فيلم سيرة ذاتية، سواء كان عن موسيقيّ أو غيره، هناك عدة مسارات سلكها كثيرون قبلك، وهذا لا يمتّ للتقليد أو المحاكاة بأي صلة، فلا يخفى على أحد أن القصص متشابهة وأن الثيمات الفنية متكررة، كما أن قصص النجاح تتشابه وحياة الفنانين تمر بمنعطفات وتحديات مشتركة، لأن -في النهاية- صناعة الفن عملية معقدة مليئة بالشكوك والإحباط والنشوة، والفشل والنجاح، والشك والغرور، والصعود والهبوط، ولكن ثمة سببان يجعلاننا نتناول سِيَرًا ذاتية للفنانين، أولهما هو رغبتنا -سواء كنا جمهورًا أو صناع أفلام- في رؤية مَن نعشقهم على الشاشة الكبيرة، والثاني أن بين كل هذه المشاعر المشتركة تكمن تفاصيل صغيرة تميز كل فنان عن غيره، تفاصيل نتلمّسها بشدة في حياتهم الشخصية وهي ما تصنع الحكاية وتميزها عن غيرها من الحكايات، لذلك تكمن البراعة كلها في التقاط تلك التفاصيل ونسجها في الحكاية ببراعة لصنع حكاية فريدة.
الحب والفن من أشهر الثيمات التي يمكن تناولها عند الحديث عن حياة فنان، وكيف يستطيع أن يجمع بينهما، كيف ومتى يضحّي بوقت كان من الممكن أن يصنع فيه تحفة فنية جديدة، في مقابل وقت يقضيه مع مَن يحب.
في أحد اللقاءات التلفزيونية لنجم الروك الشهير ديفيد بوي، والذي عُرض في الفيلم التسجيلي Moonage Daydream الذي يستعرض جوانب من حياة بوي الفنية، يرد بوي على سؤال:
«هل هذا يعني أن عليك أن تمنع نفسك من الوقوع في الحب أو الالتزام الشديد تجاه شخص ما لإنه عندما تحب شخصًا يجب أن تشاركه حياتك وسيتحتم عليك أن تضحي بكثير من وقتك من أجل هذا الشخص؟»
يجيب بوي قائلاً إنه لا يمكنه فعل ذلك، إذ «يجب أن يكون هناك عائق [بينه] وبين الحب، و[هو] يحمي [نفسه] جيدًا منه»، وهو ما تراجع عنه فيما بعد عندما قابل زوجته «إيمان»، ولكن كان بوي وقتها في الخامسة والأربعين من عمره وقد خاض مسيرة فنية حافلة بالإنجازات، ليبقى السؤال قائمًا: هل تراجع بوي بسبب أنه وجد حب حياته، أم أنه حقق قدرًا معقولاً من الإرث الفني يسمح له أن يخصص بعض الوقت لحياته العاطفية دون أن تنغص عليه «أنا» الفنان الخاصة به حياتَه؟
بالعودة إلى فيلمنا، في البداية شعرت أن هذا ما سيفعله كوبر في فيلمه وستكون هذه ثيمته الأساسية، حيث يفتتح فيلمه مسلطًا الضوء على برنستاين وهو يتحدث عن افتقاده لزوجته وأنه لا يزال يراها في الحديقة وأنه يفتقدها بشدة. هنا نحن أمام فيلم عن قصة حب بين موسيقيّ وزوجته، ولكن كيف سيتناولها كوبر؟ هل هي قصة زوجة سخّرت كل شيء من أجل زوجها في سبيل نجاحه، كعادة القصص التي تستعرض نجاحات الذكور مستعينة بالمثل الشهير المستمَد من ثقافة ذكورية واضحة تقع المرأة فيها خلف الرجل دائمًا، أم أنني سأشاهد قصة حب وخيانة وندم بعد فوات الأوان، وخصوصًا أن المقطع الترويجي للفيلم وضّح أن برنستاين كانت لديه علاقات مع ذكور وأن زوجته لاحظت ذلك؟
أمام كوبر ملعب واسع، كل ما عليه أن يختار الخطة التي سيسير عليها حتى لا يتشتت ويشتت المُشاهد معه.
ننتقل بعدها إلى بدايات برنستاين وكيف شكلت الصدفة ولادة مجده الفني، ليتحول الفيلم إلى قصة صعود تقليدية، ونتابع كيف يؤلف الموسيقى للمسرحيات الاستعراضية، ولكن ما هذا إلا فاصل قصير لنعود مجددًا إلى قصة الحب وعلاقته الغرامية -الواضحة- مع رفيقه، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحفلة التي سيقابل فيها فيليشا مونتاليغر، وهنا يكمن جزء كبير من عيب النص وتذبذبه؛ في البداية تشعر أن برنستاين يحب رفيقه، ثم ينتقل إلى الإعجاب بفيليشا -فجأة- والتي تتماهى هي بدورها مع خياناته لها لسبب مجهول، فأولاً برنستاين لا يُقدَّم على أنه الفنان ذو الكاريزما الطاغية التي تسحر وتخدع مَن حولها، كما أن فيليشا قادمه من عائلة مرموقة، وهي ممثلة مسرحية ليست بالقليلة، فهي ليست فتاة فقيرة تعميها فكرة أن فنانًا كبيرًا أحبها، لذلك لا يقدم الفيلم ما يبرر ذلك التماهي أو ما يدعمه من علاقة حب أسطورية تتغاضى عن الخيانات المتتالية، لتشعر في النهاية أن كل الأحداث تحدث فقط لإن كوبر أراد ذلك، فهي غير مدعومة بدوافع وغير متصلة، ليصبح كل شيء عبارة عن لقطات مجمعة وملصوقة خلف بعضها في تتابع لا يدعم أي شيء.
السؤال الثاني: ما الفائدة من ذلك؟
هناك عدة ملامح على مستوى الصورة تؤكد على عدم وعي كوبر بما ينقل وما يفعل.
الملاحظة الأولى: المَشاهد التي تتناول قصة بطلنا وهو شاب هي مَشاهد بالأبيض والأسود، رغم أن السرد خطي، ورغم أن عامل الزمن يُلتقط بسهولة ويمكن التقاط عديد من التفاصيل التي تدل على أننا قد قفزنا بالزمن، كالأطفال أو مظاهر التقدم في العمر على ملامح الشخصيات. يضعنا ذلك أمام تساؤل مهم: ما فائدة أن تكون الصورة بالأبيض والأسود، خصوصًا أن ذلك لم يستمر معنا إلا قرابة الخمس وأربعين دقيقة من مدة الفيلم التي تتجاوز الساعتين؟ هو ليس خيارًا فنيًا، فلم يُصبغ الفيلم كله به، وليس للتفريق بين الماضي والحاضر، فالسرد خطي والفروقات واضحة، إذًا ما الفائدة؟
الملحوظة الثانية: النسبة البعدينية -نسبة عرض الصورة إلى ارتفاعها- (aspect ratio) التي استخدمها كوبر هي نسبة 3:4 التي تكون فيها أبعاد الصورة على شكل مربع تقريبًا، وقد قام بتغييرها بلا أي هدف في مشهدين، مشهد البداية والنهاية، وهما مَشهدان يكون فيهما برنستاين عجوزًا. إن قرار استخدام تلك النسبة هو اختيار غير شائع وغالبًا ما يوظّفه صناع الأفلام لمحاصرة شخصياتهم وسجنها داخل هذا الإطار المربع الضيق، لكن برادلي لم يفعل ذلك إذ إن كثيرًا من مَشاهد الفيلم لقطاتٌ واسعة ثابتة مع نقلات مونتاجية قليلة في تجسيد واضح لمبدأ الحَدْنوية (Minimalism) حيث الاقتصاد الشديد في القَطع وحركة الكاميرا. هنالك مشهد نشاهد فيه الزوجين برنستاين في محادثة تبدو هادئة، ولكنها تحمل بركانًا من الغضب تحاول فيليشا إخماده. نراهما من زاوية جانبية ثابتة وتبتعد الكاميرا عنهما ما يقارب العشرين مترًا وتحجب عنا -أغلب- الرؤية بوابةٌ خشبية، في خيار فني غريب لا يضيف شيئًا جماليًا أو حتى على مستوى المعنى؛ في الواقع لو أغمضتَ عينيك واستمعت إلى الحوار لن يفوتك أي شيء! لذلك فإن خيار أبعاد الصورة وزاوية بعض اللقطات لم يثمر عن أي شيء غير رغبة في التميز من أجل التميز.
الملحوظة الثالثة: في أول مَشاهد الفيلم -بالأبيض والأسود- وبعد أن يتلقى برنستاين خبر أنه سيقود الأوركسترا وعلى دقات طبول تشبه الأفلام الاستعراضية التي سيطرت على هوليوود في تلك الحقبة الزمنية، ننطلق مع بطلنا في مشهد بلا أي قَطع. تتابعه الكاميرا وتتنقل بين الأماكن وتعبر من أعلى الحوائط وكأن العالم مسرح كبير، ثم يحاول إيهامنا بحركة الكاميرا وتتابعها وكأن لم يحدث أي قطع، وكأن كل ذلك مشهد طويل. ننتقل معه بهذا الأسلوب إلى الحفلة التي ستشهد ميلاد مجد برنستاين. كل ذلك لا يوجد به أي مشكلة طالما سيكون أسلوب التنقلات بين الأماكن والأحداث الزمنية وكأن كل ذلك عرض متصل لا فواصل زمنية أو مكانية به، لكن سرعان ما يتخلى كوبر عن هذا الأسلوب بعد مشهدين، لتعيدَ تكرار السؤال الذي يلوح بخلدك طوال أحداث الفيلم، لماذا كان هذا بالأساس؟
الملحوظة الرابعة: بالطريقة نفسها ننتقل من طاولة الطعام إلى المسرح حيث يجعل برنستاين فيليشا تشاهد أحد عروضه الموسيقية التي ألّفها ليتحول برنستاين فجأة إلى أحد الراقصين في مشهد متخيَّل، طويل زمنيًا، ويتحول معه الفيلم إلى فيلم موسيقي راقص، وتشعر أنك تشاهد فيلمًا آخر، وكأن برادلي صوّر الفيلم عبر سنوات، كل فترة تدور في ذهنه فكرة يُتيَّم بها وينفّذها، ثم يتوقف ويكرر الكرّة مجددًا مع فكرة أخرى، ليخرج في النهاية فيلمه على شكل أحجية غير قابلة للتركيب لأن كل قطعة لا تشبه الأخرى.
«عندما تكون جالسًا [تشاهد] اللقطات اليومية التي تم التقاطها بالأمس، فإن أكبر مجاملة يمكن أن نقولها لبعضنا البعض:
2 "عمل جيد. نحن جميعًا نصنع نفس الفيلم". وهذا هو الأسلوب».
الملحوظة الخامسة: تُشعرك القفزات الزمنية بعدم سلاسة السرد الخطي، وكأن هناك مَشاهد حُذفت من أجل مدة الفيلم، حتى إن بعض المَشاهد تُشعرك بأن هناك ما ينقصك للتماهي معها، وكأنك فوّتتَ شيئًا أو غفوت، لكنك لم تفعل.. كوبر هو من فعل.
السؤال الثالث، ماذا حصّلتَ في النهاية؟
بعد مرور النصف ساعة الأولى نتأكد أن الفيلم عن حياة برنستاين وفيليشا الأُسرية، ولكن لا نستطيع حتى أن نصف ما رأيناه على أنه قصة حب وما تشهده من لحظات صعود وهبوط مرورًا بمرض أحد الشريكين وكيف يدعم أحدهما الآخر وكيف يعاني الأمرّين عند رحيله؛ حتى لو كان هذا جزءًا مما شاهدناه على الشاشة، فإننا لم نستشعر أيًا من ذلك حقًا، وقدّم كوبر في النهاية وجبة غير مكتملة منزوعة الطعم والرائحة.
ربما لو كان السرد غير خطي وأصبحنا ندعم الحاضر بمَشاهد من الماضي لكي نسلط الضوء على طبيعة العلاقة الغريبة التي تجمع بطلينا، كان ذلك سيكون أفضل وسيكسر من حدّة إيقاع الفيلم غير المتصاعد وغير الباعث على الفضول بداخلك للبحث عن أي شيء غير كلمة «النهاية».
وإحقاقًا للحق وجب ذكر أداء كوبر التمثيلي في مشهدَي قيادة الأوركسترا مع أداء كاري موليجان الخلاب طوال أحداث الفيلم، وربما يكون هذا أفضل أداء لكوبر في مسيرته كلها لأنها غير حافلة
بالأساس. يلمع برادلي بشدة ويظهر وهجه بحق في مَشاهد قيادته للأوركسترا، وهي أفضل مَشاهد الفيلم على الصعيد الإخراجي أيضًا؛ هنا يتحكم بأدواته جيدًا وتعرف الكاميرا ما يجب عليها التقاطه وما يجب تركه، وهي مَشاهد طويلة أعطت حيوية وديمومة لأداء برادلي لتشعر أنه توحد مع برنستاين بحق وكأنه كان يجب أن يتواجد داخل محرابه -قيادة الأوركسترا- حتى يقدم أفضل ما لديه في الفيلم.
ختامًا، لم يختر كوبر أن يحكي الشق الخاص بكيفية صناعة الموسيقى وتأليفها وما يدور في خلد الموسيقيّ، وهذه العملية شديدة التعقيد، ولا اختار أن يتوغل في عملية قيادة الأوركسترا وكيف يصبح قائد الأوركسترا إلهًا يوزع الأدوار، تاركًا الفرصة أمام أحدهم للصعود في حين يقتصر آخر على أن يكون صوتًا خافتًا في الخلفية كما فعل تود فيلدمان في العام الماضي عندما صنع فيلم «تار» (2022) عن قائدة أوركسترا تُدعى «تار» لكن اللافت للنظر هو الفارق بين صانع يعرف ماذا يريد وآخر لا. صنع فيلدمان فيلمًا عن قائدة أوركسترا تريد أن تحوّل العالم كله إلى مسرح كبير وجميعَ مَن تعرفهم إلى عازفين تحت إمرتها. يتهاوى كل شيء رويدًا رويدًا عندما تنتحر إحدى طالباتها وتطفو على السطح اتهاماتٌ لتار بأنها استغلتها في الماضي وكانت أحد أسباب انتحارها، ويحيط كل ذلك تساؤلٌ عن جدوى المحاكمات الفنية وهل يمكن أن نحاكم الفن أخلاقيًا أم لا. ربما اللافت في فيلم فيلدمان أنه يمكنك أن تدخل إلى عقل قائد الأوركسترا وتستشعر عمله على عكس فيلم «مايسترو». باستثناء المشهدين اللذين أشدتُ فيهما بأداء كوبر، لا تشعر أن هذا فيلم عن برنستاين أو عن فنان عمومًا. كان من الممكن أن يكون عن شخص آخر يعمل عملاً آخر، فلم يَكْسُ كوبر الفيلم بأي سمات تُشعرك بعوالم برنستاين، ربما لأنه لم يكسُه بأي شيء على الإطلاق.
«ففي إحدى أكثر اللحظات إثارة في حياتي الفنية، حدثني -كيروساوا- عن جمال الكاميرا وجمال الفيلم. ولكنه كان يعني الجمال في علاقته العضوية بمادة الفيلم. وهذه العلاقة بالنسبة لي هي التي تميز بين أصحاب الأساليب الحقيقيين، ومن يستخدمون الأسلوب لمجرد الزخرفة، ومن السهل تمييز هؤلاء الأخريين».
الارتجال رائع يا كوبر، لكنه إذا لم يُحكم بفكرة تستطيع أن تنبهك إذا حِدتَ عن الطريق أو موهبة طاغية -وهو ما لا يملكه برادلي- تستطيع أن تقود صاحبها مغمض العينين ليُخرج لحنًا منمقًا محكمًا، سينتج عنها في النهاية نشاز، وهو ما فعله كوبر في فيلمه.
افتتح برادلي فيلمه بعبارة للينرد برنستاين يقول فيها: «العمل الفني لا يجيب عن الأسئلة، بل يطرحها، ويكمن مغزاه الأساسي في التوتر الذي يخلقه بين الأجوبة المتناقضة». من الساخر أنك يا كوبر لم تطرح أسئلة ولم تُثِر أي توتر، فهل كانت تلك العبارة لنا، أم لك؟
في أحد المَشاهد يخبر برنستاين طالبه بأنه سيريه ماذا أراد تقديمه لكنه لم ينجح في إظهاره، قائلاً: «وإن كنت مخطئًا، أخبرني».
لن يقرأ برادلي هذه المراجعة، ولكن ربما ما حرّكني لكتابتها هو الرغبة في استكشاف ماذا كان يريد كوبر صنعه لكنه فشل في صياغته كليًا وضمنيًا، ولكن بداخلي سؤال لكوبر: هل كنت تودّ صناعة فيلم عن فيليشا نفسها -لا برنستاين- وعلاقتها به، أم أن هناك شيئًا آخر، أم أنه لم يكن يحركك شيء، ولا تدور في ذهنك أي فكرة عما تصنع؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1 كتاب «فن الإخراج السينمائي» لسيدني لوميت
2 فن الإخراج السينمائي لسيدني لوميت
3 فن الإخراج السينمائي لسيدني لوميت