«إن الجنون يفتن الإنسان في كل مكان: إن الصور العجائبية التي يولدها ليست مظاهر عابرة ستختفي سريعًا من على وجه الأشياء، فما يولد من أغرب أشكال الهذيان هو شيء كان مختفيًا كالسر من خلال مفارقة عجيبة. إنه يشبه حقيقةً لا يمكن الوصول إليها في قلب الأرض، فعندما ينشر الإنسان جنونه الاعتباطي، سيكون وجهًا لوجه مع الضرورة الغامضة للعالم، وسيواجه الحيوان الذي يسكن هذه الكوابيس وليالي الحرمان هذه. إنها طبيعته الخاصة تلك التي ستكشف عن تلك الحقيقة التي لا ترحم، حقيقة جهنم. إن الصور العبثية للحماقات العمياء هي المعرفة الكبيرة للعالم وفي هذه الفوضى في هذا الكون المجنون، ينساب ما سيشكل فظاعة مجيء النهاية».
منذ بداية التاريخ، كان الجنون أحد الموضوعات التي تتجلى بوضوح أو بضبابية في الأدبيات والمخطوطات بمختلف الأشكال، إما من خلال الطقوس الدينية، أو بالتداوي بالأعشاب والشعوذة، وحيث عُرّف بطرائق عدة ومختلفة ليست تشخيصية بالطبع، وإنما محض تفاسير بدائية مثل: الشياطين التي تغمر القلب، أو غضب مُنزَّل من عند الرب، أو أن الرَحِم هاجر عن منطقة البطن إلى رأس تلك المرأة المسكينة، تاركًا بطنها خاوية، بينما هي مجرد مريضة هستيريا. كان معبد ممفيس مقصدَ شتى المجانين قديمًا للتداوي، وكثيرٌ من جدرانه الصماء كانت شاهدة على جلساتٍ كهنوتية مليئة بطقوس وأعشاب ودهنٍ مقدسة، وصيحات وويلات، كلها كانت تحدث تحت إمرة الوسيط الإلهي -الكاهن الطبيب- والذي هو نفسه لم يكن يفهم تشخيص تلك الحالات، ولكنه مجبر بالضرورة لا الخيار على تطبيق أيٍ كان في جعبتِهِ من معارف، وعلى أثر ذلك الجهل وشُحِّ الحلول الإصلاحية، كان المجنون بالدرجة القصوى، والذي لا رجاء من علاجه رجلًا كان أو امرأة، يُمنع من الدخول إلى تلك المساحة المقدسة العلاجية، لأن فشل تلك الجدران عن تقديم المساعدة يهدم قدسية الأمل والأديان في نفوس العوام، وتلك كانت مشقة كبيرة لا تحتملها مجتمعات ما قبل التاريخ.
بالفهم تُصارع البشرية الموت وتقاومُه طَمَعًا في الوجود بشكل غرائزي محض. إن المجنون بحالته الغرائبية الشاذة عن السائد آنذاك لم يكن إلا ليأخذ حيزًا كبيرًا من الانتباه. إن ما حدث في ألمانيا وغيرها من حالات اختطاف ورحلات كروزو إعدامية، لا تمثل إلا العجز الخالص في وجه المجنون الذي يواجه الموت وحده. إن الجنون والموت يتقابلان ضد الحياة في عملة واحدة.
وإذا ما استعصى على البشرية فَهْمُ أمرٍ ما، فإنها تقصيه وتنبذه خوفًا. إن الإنسان يعود إلى حالته الرجعية الأولى في كل مرة يجابه فيها ما يفوق طاقته، ولأن غرائزيته تجبره على المضي قدمًا، فإن ما يكافئ الإقصاء هنا البحث والتقصيّ، إذ لا يمكن أن يظل الجنون بغرابته مسألةً معلّقة، خصوصًا إذا كان يحوم بالجوار باستمرار، عامًا بعد عام، وحالة مَرَضية وراء أخرى.
ولهذا فإن الجنون بحد ذاته كان يشكّل حاجزًا غامضًا. إن ما يلتف حول المجنون من غموض ورؤى وأحاديث لا يراها غيره، كما لا يُدلي بها أحد سواه، تلك الظاهرة الغيبية التي أرهبت البشرية بقدر ما أُثيرت حولها من تساؤلات، وبحثوا وراءها مدفوعين بالغموض يكتبون عنها وينشدون الأشعار أو يحفرون رؤوس المجانين بحثًا عن الأجوبة وراغبين في التخلص كما في لوحة «استخراج حجر الجنون» لـ«بوش» - إن ظاهرة الجنون تدفع إلى الافتتان. إنها تشكل معرفة وراء كل تلك العناصر العبثية الغائبة عن الظهور لمعظم الناس، وإلا لما كان شبح شيكسبير -كمقاربة لقوة الوهم في التأثير- يقود نواياه الانقلابية بأكملها. يقول فوكو: «إن هذه المعرفة التي تستعصي على الامتلاك، يمتلكها المجنون ببلاهته البريئة، في حين لا يرى منها إنسان العقل والحكمة سوى صور مبعثرة ومحزنة أيضًا. إن المجنون يحمل هذه المعرفة كاملة ضمن دائرة كاملة. إن كرة الكريستال التي تبدو للجميع فارغة هي في نظره ممتلئة بمادة معرفية غير مرئية».
حتى حين كانت الفلسفة لا تزال في بداياتها، هي الأخرى أخذت تباحث مفهوم الجنون مثلما فعلت المجالات الأخرى، ضمن ثنائية الروح والجسد أو واحديتها، ابتداءً من ظهور المفهوم الأساسي لمرض الروح أو النفس. يقول أبيقور: «لا بد من العمل للحفاظ على الجسد من المعاناة والحفاظ على الروح من الاضطراب».. مرورًا بحوارات أفلاطون في «طيمايوس». يَحدُث مرض الروح، ويُقصد به الحماقة أو الجنون، بسبب حالة الجسد، مع الفارق أنه إذا كانت الروح أقوى من الجسد، فإنها «تهزه بالكامل من الداخل»، وينتج عن ذلك الإصابة بالهوس أو بالمس الجنوني. أما إذا كان الجسد أقوى، فإن الروح تسقط «في أشد أنواع المرض؛ وهو الجهل» [نقيض الحكمة، أو نسيان الواقع] «لا أحد فاسد طوعًا».. انتهاء إلى ناموس أبقراط الحكيم. وبهذا الموجز القصير نستطيع أن نتصور كمية المعاناة التي ملأت التاريخ قبل أن يصل بها العلم إلى ما نحن فيه اليوم.
التيه
«أَتيهُ فَلا أَدري مِن التيهِ مَن أَنا، سِوى ما يَقولُ النّاسُ فيّ وَفي جِنسي»
-السهروردي
التيه الذي تمارسه جيسيكا (تيلدا سوينتون) في حيز ذاكرتها في فيلم (2021) Memoria «ميموريا»، وإن كنا للوهلة الأولى نشعر بالضياع لمشاهدة فيلم مثل «ميموريا»، لصعوبة القبض على المعنى الدقيق له، فلقد تمكَّن المخرج «أبيشاتبونغ ويراسيتاكو» من توجيه انتباه الجمهور نحو قصة امرأة تعيش في تناقض بين ذكرياتها المليئة بالنسيان وذكريات مدينة بوغوتا، حيث تتداخل قصتها الشخصية (مريضة تعاني من ترددّ دويّ مزعج في رأسها) مع قصص مَن حولها في مكان مستعمَر يمتلئ بالصدمات والتجارب. قد تبدو المَشاهد في مطلقها عبثية -سينمائيًا- لو تفحصنا واقعيتها أو حتى انتظرنا منها الدقة والمنطقية في التسلسل والربط؛ تركز تيلدا والمخرج أبيشاتبونغ على تخفيف السيطرة على لقطات الفيلم، حيث تمتد اللقطات والمشاهد بشكل عبثي لامتعمد، بل عبثي عفوي خالص وحقيقي، ومعها ينساب ضياع جيسيكا حتى تكتمل خطوطه إلى النهاية.
يبدأ الفيلم باستيقاظ جيسيكا في سرير مظلم إثر صوتِ دوي مزعج. يتسلل ضوء فجري غائم يبعث على الكآبة والغرابة معًا، فتقوم فزعة من الصوت، مطلةً من النافذة، ظنًا منها أنه قادم من الخارج، وهذا الطبيعي لأي شخص، أن يبدأ بالتشكيك فيمن حوله قبل ذاته. ينزاح الإطار عن جيسيكا ليتصدر ضجيج أصوات السيارات المركونة في الأسفل وتَثبُت الكاميرا مطولًا بطريقة دراماتيكية بغرض بث الغموض في شعور المُشاهد، مما يطرح التساؤل حول ماهية هذه الأصوات، وما الذي يجعل السيارات تضج بتلك الطريقة. جيسيكا فتاة بريطانية تزور أختها في المستشفى في مدينة بوغوتا في كولومبيا. لا تبدو أختها على ما يرام، حيث يتأبط النسيان جوانح مخيلتها ويخبط الواقع في الحلم حيث تنسى زيارات جيسيكا المتكررة لها، وكأنها تعاني من فقدان ذاكرة مؤقت فيما تكلمها بهذيانية عن الكلب الذي تحاول إنقاذه. يخيم الصمت مرة أخرى بجوٍ شبه غائم ومنظر تستشعر معه رائحة المطهرات والألم، ويبدو مشهد جيسيكا وكأنها تنساب وراء تخيلاتها وهي تنظر إلى السيارات من شرفة المبنى.
يقول المخرج: «أحب المستشفيات؛ كبرت في مستشفى. كنت أسمع القصص والتروما والذكريات من الناس». تجلس مع صديق لها على طاولة وسط حشود، تتبادل معه الحديث بلامبالاة عن بطاقة حافلتها المنتهية، وسيلتها في التنقل في كولومبيا، وتطرح سؤالًا عابرًا: «كم من الوقت يُستغرق بأعمال البناء في الجوار؟»، فيجيب تساؤلها بما يفجّر داخلها وابلًا من الشك واللايقينية: «ليس هنالك أعمال بناء في الجوار». تصر على موقفها للمرة الأولى والأخيرة في الفيلم كله: «لقد سمعته باكرًا قبل خروج الضوء.. لا أزال أسمعه!»، فيجيبها مشككًا إياها بذاتها: «ربما لم تكوني قد استيقظتِ بعد»، فتصمت. يخبرها: «هل يمكنك تخيل قصيدة عن الفطريات؟» يتلو عليها القصيدة:
«ما هذا الشيء الذي ينبثق من الأحياء؟
رائحة الفيروس.. عطر الاضمحلال
يصنع قصيدة من البكتيريا
جرح متخمج.. مشهد جزيئي
يرسم رقصة من دون أعضاء».
يضحك قائلاً: «أنتِ تلهمينني!»
نجد أن الصور الاستعارية والرمزية، والتي تشير إلى التعفن والانحلال والاضمحلال والفطريات كلها، والتي يقول بأنها «تنبثق من الأحياء»، تشير إلى الموت الذي افترضنا مسبقًا أنه يلتقي مع الجنون بعملة واحدة.
يرافقنا طوال الفيلم صوت تشويش يشبه بالضبط الأحلام في التوصيف أو حتى هذيان جيسيكا في الواقع. استخدم ديفيد لينش في بعض أفلامه المؤثرات الضوضائية ذاتها، وأزعم أن المخرج دمج هذا الصوت مع بيئة الفيلم، معطيًا إياه طابعًا سرياليًا يحتمل أكثر من بُعد واقعي ليتوه المشاهد بينما هو حقيقي أو خيالي كما تتوه جيسيكا، فيما تقرر زيارة منتج صوت اسمه هيرنان، شاب في الثلاثينيات أو نهاية العشرينيات، في محاولة منها لتتبع ذلك الصوت الذي صار يشكل هاجسًا بالنسبة إليها. تجلس أمام الشاب، ومن ذاكرتها تحاول إعادة خلق الصوت عبر توصيفه، في محاولة منها لنقله إلى حيزها الواقعي ليصبح أسهل في الفهم والتتبع. إنه تصرف عملي من شخصية عملية تواجه شيئًا غريبًا عن عالمها المادي، ولذا فإن إعادة خلقه يعطيها بعضًا من السيطرة على تلك المشكلة. إنها تجاهد لتصل إلى أقرب نسخة صوتية عنه فتقول: «إنه يشبه كرة كبيرة خرسانية تسقط في بئر معدني مجوف وهو محاط بمياه البحر». تصف صداه وتفاصيله: «إنه يتقلص»، «لديه صدى معدني»، «إنه أرضي، يشبه قعقعة نواة الأرض» أو «شيءٍ أكثر استدارة»، وفي كل مرة يقترب هيرنان من الصوت الذي يشبه كابوسها المتردد، ترتعش أكتاف جيسيكا وتجفل، مستردة حينها لحظة الصوت الذي يباغتها في كل مرة على حين غفلة.
يسير الفيلم بنمط هادئ ورتيب. تهيم جيسيكا سعيًا وراء صوت تتوهمه دون ارتباطات حقيقية في واقعها الشخصي الحالي، حيث تقول عنها تيلدا: «إنها منفصلة عن ذاتها، ولذلك، هي تلاحق شيئًا ما في العالم حولها». وهذا يتجلى في موقف في المستشفى حيث تدعوها المرأة -عالمة أنثروبولوجيا- التي تعمل في مشرحة المستشفى لكي تريها العمل بدافع اللباقة فتقبل. تلمس جمجمة بشرية استُخرجت في أعمال التنقيب القائمة في مدينة بوغوتا. تشرح لها قائلة: «إن هذا رأسٌ مثقوبٌ تخرجُ منه الكوابيس، كان طقسًا لديهم». وهنا كانت إحالة واضحة إلى جنون جيسيكا، حيث إن ثَقب الجمجمة يُعدّ من الممارسات التي تمّت لدى البدائيين لمعالجة المجانين وطرد كوابيسهم، كما أشرتُ من قبل إلى لوحة لبوش، وقد لمست جيسيكا بنفسها جمجمة الفتاة متأملة الثقب الذي أشارت إليه الباحثة وهي تضحك لجنون الفكرة وبعدها عنها، كما نرى بوضوح أن هناك تنقيبًا يستمر في المدينة من أجانب ذوي خلفية استعمارية للبلاد، يصاحبه تنقيب جيسيكا عن مصدر الصوت المتردد في عقلها.
بظاهراتية خالصة من حيث بطء مسار الفيلم وخلوه من صوت محركات الإثارة، تعود لملاقاة أختها وزوجها بعد خروجها من المشفى، وحيث تذكر أختها اسم شخص مشترك في حديث عابر، تتساءل جيسيكا: «ألم يمت؟». يردّان عليها: «لا، إنه حي»، فتصمت مرة أخرى فيما تتسع مساحة الشك والقلق في داخلها. يجيء ذِكر غابات الأمازون والقبائل التي تسكنها، أنه من المتعارف عليه حول أهم الخرافات التي تُدار حول قبائل الأمازون أنهم غير ودودين وخُطُر، ناهيك بخرافات السحر والشعوذة المتطايرة حول جيسيكا هنا وهناك. كانت في كل مرة تسمع شيئًا كهذا إما أن تضحك أو لا تعلق. ولأن زوج أختها يعتقد بأن مرض أختها مرتبط بتلبس الأرواح والتعاويذ الناجمة عنها، فهو يقترح عليها بجدية وإلحاح أن تترك عملها، طالبًا من جيسيكا أن تدعم موقفه أمام أختها الذي يتسبب لها بالنسيان والمس الروحي، فيما تصمت جيسيكا وتنعزل عن النقاش ولا تشارك، فهي -مثلما ذكرت آنفًا- لا تؤمن بتلك الخرافات ولا تصدقها، وثانيًا تذهب شاردة وراء الصوت الذي ابتدأ حفلة التردد في عقلها مجددًا وبمنتصف العشاء تفزع. إن ضعف ذاكرتها وضياعها بدأ يأخذ تأثيرًا سلبيًا واضحًا على مجريات حياتها، كما وهي وحيدة مع هذا الهاجس الذي إلى الآن لم تجد إجابة له، ولذا نراها تقرر العودة إلى المكان والشخص الوحيدَين اللذين يصبح برفقتهما ذلك الصوت مسموعًا وحقيقيًا، والقصد هنا هيرنان الشاب مهندس الصوت.
جيسيكا عادت مرة أخرى لملاقاة هيرنان الشاب، وحيث تسير في عبوس وبؤس وقلق حيال صحتها العقلية، تجد مكان الاستوديو قد تغير على نحو غريب، وأمامها مجموعة موسيقيين في المكان نفسه. تبتسم وتسأل عنه لتتفاجأ بالرد: «لا يوجد شاب بهذا الاسم يعمل هنا». تحاول مرة أخرى وصفَه شكليًا وجسديًا هذه المرة، ولا أثر لتواجده. تخرج حائرةً مرتبكة، تسير بجانب ممر مظلم وحدها فيما صوت الموسيقى يشدها وهو يعلو من آخر غرفة، فتسير باتجاهه لتجد تجمُّعًا من أشخاص قليلين ينصتون إلى عزفِ فرقة، فتقف معهم جيسيكا تستمع إلى الموسيقى، والمفارقة أنها بالرغم من معاناتها مع الصوت حاليًا، تجد سلوانها في لحظة الإنصات المملوءة بالصخب هذه، وهذا التصرف يشبهها بوصفها شخصية فضولية، تتفاعل مع العالم حولها، تلمس بقايا البشر في معمل وتستمع إلى عزف فرقة جاز غريبة. إنها تمثل روح السفر وحب الاستكشاف.
«لم أعد شاعرًا لأنني لم أعد مجنونًا»
-رامبو
تجلس بجانب أختها على كرسي حديقة عامة بينما يتراقص بعض الأطفال في الشارع المجاور على أنغام حية. تسألها وقد أصبحت تشكك في حقيقة كل ما تسمعه: «هل تسمعين هذه الأجراس؟ أجراس الحيوانات». تريحها أختها حيث تومئ بنعم، فيما تعترف لذاتها بصوت عالٍ وبشكل صريح وعلني لأول مرة: «أظنني أُصاب بالجنون». تضحك أختها بلا اهتمام واضح أو حتى محاولة للاستفسار: «أنت بالفعل مجنونة، ولكن لا بأس، كلنا مجانين». تظهر جيسيكا بشخصيتها التي تأثرت بصديقها الشاعر. تقول: «لقد كتبت قصيدة عن سهر الليالي»، على عكس ما قال رامبو. تلعق إصبعها ثم تستطرد: «وراء البتلات وأجنحة المرء الغاضبة، يلهث الهواء، ويجعلني أتلاشى ظلًا». «ثم ماذا؟» تقول أختها، فترد: «لقد انتهت». عند الوقوف على معاني الفقرة قليلًا نستشعر أنها ليست قصيدة، ربما محاولات تجريبية فقط لشخصيتها الفضولية، إذ نلاحظ أنها في المشهد التالي تقول للدكتورة: «أنا لا أنام» ولذا سمّتها «سهر الليالي». مفردة «البتلات» ترمز للطبيعة من حولها و«يجعلني أتلاشى ظلًا» تحاول وصف شعورها بالتلاشي والضياع في هذه الرحلة، فعلى الرغم من أنها تحاول الاتصال مع كل مَن حولها، فإن الإجابات تبدو أبعد بكثير من أن تصلها حول هذا الصوت وذاتها، وهذا ما يجعلها تتلاشى مثل ظلٍ في تلك المرحلة.
من تشخيصها الذاتي، تطلب من الدكتورة العجوز دواء زاناكس. تخبرها الدكتورة أن السبب ليس منها، وإنما المدينة، حيث تتسبب بكثيرٍ من الهلاوس. إن جيسيكا لا تعتقد بأنها هلاوس شيطانية مثلما تشير الدكتورة، لكنها تنشد الراحة فقط. تسألها عما إذا كان هناك في تاريخها أيُ واحدٍ من أهلها مصاب بمرض عقلي -وهذا يعني أنها تشكك في صحة عقلها لوهلة- لكن حين تجيبها بالرفض، تؤكد لها الدكتورة بأنها مجرد هلاوس مع إصرارها على عدم صرف الدواء لجيسيكا: «إنه يُسبب الخدرة، والبلادة. سوف يُفقدك الشعور بجمال العالم. هل لاحظتِ اللوحة التي نضعها عند باب العيادة؟ إنه سيلفادور دالي. إنه الوحيد الذي أدرك جمال هذا العالم!». تستفسر جيسيكا: «ألا تعتقدين أنه كان يتعاطى بعض الأدوية؟». تكفهر الدكتورة: «بالطبع لا! هوهكذا فحسب».
اعتناق الجنون على طريقة النيتشوي-سلفادور دالي
يقول دالي عن نفسه: «أراد أن يعرف كل شيء عن اللامنطق، ليس لكي يجعل منه ذخيرة أدبية وإنسانية، ولكن على العكس، ليحوله ويخضعه ويصنع هزيمته». بمثل مجاراة دالي لجنونه، نرى جيسيكا في الجزء الأخير من الفيلم تعتنق جنونها أخيرًا لتفهمه. الدكتورة العجوز لا تشير إلى سلفادور دالي اعتباطًا، أولًا لأنه المتأثر بنيتشه، وثانيًا لأنه تابع لتيار السيريالية التي تأخذ كثيرًا من ملامح الفيلم: شخصية جيسيكا التي تجالس شبح جنونها وتُقارعه الشراب وتُبادله الذكريات، لا تختلف كثيرًا عن شخصية دالي الذي اعتنق جنونه رغم الصعاب التي تواجهه. يقول دالي: «لقد تكونَتْ لديّ فكرة عن نيتشه أنه شخص ضعيف وخائب لدرجة أنه سلّم نفسه للجنون، بينما أحد الأمور الأساسية في هذا العالم ألا تصبح مجنونًا».
تسير خارجة من العيادة بعقل مشكوك في صحته وحبوب زيلاكس استخرجتها غصبًا من دكتورة أقرب للشعوذة من الطب في نهجها، وتجد نفسها على مصب نهر واسع يتردد عليها صوت الدوي في أذنها بشدة، مختلطًا بهدير الماء، وكأنها اقتربت من الإمساك بأسراره، حيث نراها تنحني بأذنها على الماء، تستمع إليه فيما يناديها رجل عجوز صاحب شعر أشعث: «أأنتِ بخير؟»، وكعادتها الودود مع الغرباء، تتقدم إليه حيث ينظّف السمك أمامها، رجل عجوز يدّعي أنه يتذكر كل شيء، سائلًا إياها عما إذا كانت عالمة أنثروبولوجيا -إشارة إلى كثرة ارتياد العلماء هذه المنطقة- فتنفي ذلك مُعرِّفة نفسها بأنها مجرد عابرة سبيل. لا تجفل جيسيكا من ادعاءاته الغريبة وكأنها بدأت تعتاد على التخاريف أو تألفها.
تحدثه عما يفوته بسبب عزلته المزعومة عن العالم: «الفنون والرياضة والأفلام وكرة القدم وملكات الجمال»، بينما يلمس الحجر ثم يتلو عليها قصة رجل مرتبطة به، حيث إن اهتزازات تلك القصة مرتبطة بهذا الحجر الذي جلس عليه ذلك الرجل. يقول المخرج إنه حاول انتزاع القصص من ذاكرة الأرض والناس، وإن الصدمات تتبلور في الحديث فتسطع مع أقرب فرصة. لذلك، في كل جوانب الفيلم، نرى حكايات مؤلمة وصدمات ليست مرتبطة بجيسيكا فحسب، بل ممتدة لأكثر من 6000 عام.
تُعرّف نفسها بعدما تناولت القدح: «جيسيكا». ينظر إليها هيرنان بدوره قائلًا: «أعلم جيدًا من تكونين». تصمت لبرهة فيما يحدثها عن لغة القرود وماذا تقول، فتسأل على نحو اعتباطي: هل تفهم لغة القرود.. يجيبها بنعم. يحدثها كآخر هلوسة جنون: «أتذكر حين وُلدت بالفضاء» وكأنه فضائي، فتُخرج من حقيبتها حبوب زيلاكس بمفارقة مضحكة: «هذا اختراع بشري جديد. لقد انتزعته من طبيبة صعبة المراس. كم كانت لتعجبك!» نظرًا لأنها لا تؤمن إطلاقًا بالخرافات والهلوسات التي تسببها المدن، وبالوقت نفسه تجالس كائنًا يدّعي بأنه فضائي وهو أحد أشكال هلوساتها. تعتنق جنونها، بل وتصادقه وتتكلم معه وتشكو إليه ثقل مأساتها مع الصوت المتكرر في عقلها. ومن ثم حين تصل معه إلى ذروة الحديث عن معاناتها مع ذلك الصوت، تفصح جيسيكا عن رغبة غريبة: «أشعر أني أريد مزيدًا من ذلك الصوت». وما زال هيرنان مستمرًا في تخاريفه. تسأله: «ماذا ترى حين تنام؟». يقول: «نحن لا نحلم»، وحين تطلب منه أن يريها كيف، يضطجع بجانب النهر ويدخل في مِيتة صغيرة بجوار جيسيكا.. ذلك المشهد كان مقشعرًا بالنسبة لي: وجه هيرنان ميتًا أمامها لثوانٍ بدت عديدة ومرعبة رغم قصرها.
كان يريها كيف أنه لا يحلم -لا ينام- إنما فقط يموت. من جهة، يمكننا تفسير ذلك على موت الشعوب المستعمَرة واستحالة الحلم بالنسبة إليها بتحطم المستقبل أمامها، ومن جهة أخرى فإن كثيرًا من الحضارات لا تعتبر النوم إلا ميتةً صغرى تنتهي وقتما نستيقظ منها.
بعد إفاقة هيرنان، تبدأ سلسلة من الرؤى تؤاتي جيسيكا. تستدعي من مخيلتها لحظة مريرة، حيث كانت تبكي وتشعر بالحرارة في أنفها، بينما كانت مختبئة أسفل السرير، وفجأة ينقلنا المخرج إلى بيت الأحلام، أو بيت الذاكرة، بيت طفولة جيسيكا كما كانت تظن. بيت الأحلام.. حيث كل قطعة تلمسها جيسيكا ينهرها هيرنان بأنها تعتدي على شيء من قصصه المفضلة، وحيث تتجول هي في كوخ جنونها يسقيها الشراب وترتشف معه. لطالما كانت جيسيكا صديقة جيدة لمرضها، مرة تسجل معه الصوت، ومرة تذهب برفقته لشراء ثلاجة، ومرة تشرب برفقته شرابًا يدّعي هو أنه يقربه للأحلام بينما ينزعنا عنها.
تلمس جيسيكا صورة طفلة بجانب السرير تدّعي أنها هي لأنها تتذكر السرير. تشرع جيسيكا في سرد قصة مريرة لطفولتها، وحيث تحاول التذكر بمثل طريقته بلمس الأشياء، تؤكد له أنها كانت هنا وأمها ممسكة بيدها فيما أفلتتها بأنف يحترق.
يصرح هيرنان أخيرًا: «أنت تتكلمين عن ذاكرتي. هذه طفولتي أنا. أنا مثل القرص الصلب وأنت هوائي الاستقبال». تستدرك جيسيكا: «ألم أكن هنا قط؟». بينما يستطيع هيرنان تذكُّر كل قصة بشرط أن يفصل نفسه عنها، نجد أن جيسيكا على الضفة الأخرى لا تبرع في ذلك. إنها لا تستطيع انتزاع نفسها من بين الذكريات. تنهار بكاءً، فيقول بجمود: «لماذا تبكين؟ إنها ليست ذكرياتك»، فتشكو له ثقل هَمّ الصوت، متسائلة «أهو لك؟». تُسمعه له عبر لمس اليد، ذكريات الجسد وصدماتها وفوضى الاحتلال والاستعمار. يقول: «نعم، هذا الصوت لي ولكنه ليس في زماننا، بل قبله». لا يبدو لها الأمر منطقيًا، فيعرض لها الأمر على طريقته.
صوت حفيف الشجر، وخرير الماء، ركض وشجارٌ وعراك على الطعام، ومن ثم أصوات تتداخل. تنصت جيسيكا بملئ جسدها: زقيق عصافير، وضجيج، ومن ثم يدوي الصوت الذي يتردد بعقلها. تُطِلّ من نافذة البيت مثلما كانت تطل في بداية الفيلم حين استمعت إليه أول مرة، وإذا بسفينة فضائية تحلّق مُصدرة هذا الصوت. تستمع بنشوة عارمة وملامح منتشية. تُحلّق السفينة الفضائية مبتعدة عن هذا العالم.
ينتهي المشهد بعودة جيسيكا إلى شقتها. هذه المرة لا تبدو الأجواء حولها موحشة بل ساكنة. يصدح صوت الأخبار الرائعة: المعهد الكولومبي للآثار يتم إبلاغه عن هزات أرضية، والجثة التي يسعى لاكتشافها بالتنقيب تظهر رفاتها كاملة مع بعض المفقودات ولكن يُحسم أمرها. تظهر الإجابات، ويظهر هيرنان يعاني من الصوت الذي فيما يبدو قد عاد إلى رأسه، ولا يبقى إلا لغز تلك السفينة الفضائية، والتي تكون سفينة الحمق الخاصة بجيسيكا أو أنه مجرد مشهد سريالي عبثي لا يمكن القبض على معناه مثل أفلام سلفادور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1 ميشيل فوكو، تاريخ الجنون
2 تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
3 The Stone of Madness, BOSCH, HIERONYMUS
4 ميشيل فوكو، تاريخ الجنون
5 تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا، كلود كيتيل