ميكاس يلتقي بازوليني: حوار حول موجة الأندرجراوند

محمد الشيخ راضي
و
جوناس ميكاس
March 6, 2025
في نهاية الخمسينيّات من القرن العشرين ظهرت في أمريكا مجموعة من صنّاع الأفلام التجريبيّة بالضدّ من السينما الهوليووديّة وأفلام الاستوديوهات الكبيرة، سمّيت تلك الموجة من الأفلام بسينما الأندرجراوند وكان من أبرز وأهمّ صنّاعها والمنظّرين لها المخرج الليتوانيّ الأمريكيّ «جوناس ميكاس». في عام 1967 التقى ميكاس في روما بالمخرج الإيطاليّ «بيير باولو بازوليني» رفقة صديقه المخرج «غيديون باكمان» الّذي كان يعمل مع بازوليني، حيث دار بينهما حوار حول موجة سينما الأندرجراوند الأمريكيّة، وجذورها الاجتماعيّة ومستقبلها السياسيّ. فيما يلي ترجمتي للمقتطفات الّتي نشرتها مجلّة بوم من هذا الحوار المهمّ.

بيير باولو بازوليني: أعتقد أنّ الحداثة الكلّيّة لما يمكن أن نطلق عليه بالسينما التجريبيّة الأمريكيّة هي روح اليسار الجديد، وهو ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة حديثة. لا أقول أنّ أفلامك تنتمي بالضرورة إلى اليسار الجديد عن إدراك وطواعية، لكن من ناحية تاريخيّة كلاهما تعبيران مختلفان للروح ذاتها. ما تقدّمه هو شكل جديد من المعارضة للمجتمع الأمريكيّ.

جوناس ميكاس: أنا دائمًا ما أطلب في جولات العروض أن يعلن عن برامجنا الفيلميّة كبرامج أفلام سياسيّة، لكنّ المنظّمين للعروض المحلّيّة غالبًا ما يرفضون فعل ذلك. في الحقيقة أنّ طلبي هذا هو دائمًا ما يثير النقاشات.

غيديون باكمان: ربّما في الوقت الحاليّ من العمليّ أكثر أن يتمّ التوضيح بأيّ طريقة سيكون لهذا النوع من السينما الأناركيّة فاعليّة سياسيّة.

بيير باولو بازوليني: إنّ هذا واضح بالنسبة لي، وهو السبب نفسه الّذي جعل مدير مهرجان بيزارو يرفض التركيز على الجانب السياسيّ لأفلامك، فهو اشتراكيّ تقليديّ نشأة وتعليمًا وأخلاقيًّا. لذا، بالنسبة له لا يمكن أن تكون أفلامك يا جوناس سياسيّة؛ لأنّها قادمة من صلب الطبقة الوسطى وبذلك فهي لا تعبّر عن تجربة ماركسيّة، فمن الصعب عليه أن يتقبّل كونها سياسيّة ما لم تكن ماركسيّة أيضًا.

جوناس ميكاس: أعتقد أنّ أفلامنا ماركسيّة متأثّرة بفرويد، فيلهيلم رايش، جيل البيت وعقاقير الهلوسة.

بيير باولو بازوليني: بالتأكيد. لكن بجانب ذلك فإنّ الفهم الأمريكيّ للماركسيّة يأتي بالتعليم وليس بالتجربة. لم تكن هناك في يوم من الأيّام ثورة أمريكيّة يمكن أن تسمّى ثورة ماركسيّة، لذا لا يملك الأمريكيّون تجربة مباشرة مع الماركسيّة على العكس من الأوروبّيّين. لذا فأنا أعتبر أنّ معركتك سياسيّة لكنّها ليست ماركسيّة وتقع خارج المخطّط الماركسيّ. أنا معجب بالسينما الجديدة الّتي تقدّمها ولا أحبّ السينما الإيطاليّة الجديدة لأنّها كوالنكيستا (كلمة إيطاليّة مشتقّة من اسم حزب سياسيّ إيطاليّ ذي ميول فاشيّة). معظم إنتاجات الأدب الإيطاليّ الطليعيّ هو كوالنكيستا أيضًا بالمناسبة.

غيديون باكمان: هذه الكلمة لا يمكن ترجمتها لذا سأعطي تفسيرًا مقاربًا لها للتوضيح، (جبهة الإنسان البسيط) كان حزبًا سياسيًّا إيطاليًا ظهر بعد الحرب العالميّة الثانية بقليل، وكان يدّعي تمثيل عامّة الناس لكنّه عمليًّا كان يخفي ميولًا فاشيّة جديدة. في الوقت الحاليّ أصبحت كلمة «كوالنكيستا» في القاموس السياسيّ الإيطاليّ صفة مشابهة لما نسمّيهم نحن الرجعيّين لكنّها أيضًا تمثّل رفضًا للمسؤوليّة الاجتماعيّة ولها ميول شموليّة، إنّها أشبه ما تكون بسلوك عصابات (ملائكة الجحيم). إنّها كلمة صعبة الشرح لكنّها تعتبر كلمة مسيئة بين التقدّميّين. لو تتذكّر مجموعة الاتّهامات الّتي قالها أورسون ويلز للصحفيّ الغبيّ الّذي طلب منه مقابلة في فيلم بازوليني «جبنة الريكوتا» كانت كوالنكيستا من ضمنها.

بيير باولو بازوليني: وكلمة (رازيستا) عنصريّ أيضًا.

جوناس ميكاس: بناء على ما ذكرته من تجارب فإنّ معظم الحركات السياسيّة الأوروبّيّة هي حركات واعية جدًّا على عكس ما يحدث في أمريكا حيث نملك خبرة سياسيّة قليلة جدًّا. الحركات الفنّيّة، وحتّى السياسيّة منها مثل الاعتصامات والحركات الطلّابيّة، لم تبدأ كحركات سياسيّة واعية بل كردود أفعال شخصيّة واكتسبت ميولًا ووعيًا سياسيًّا في وقت لاحق. الآن هي تقترب من التفكير الماركسيّ لكنّ بداياتها كانت ردود أفعال شخصيّة، كأنّنا نقول «لا نعلم ماذا ينتظرنا في المستقبل لكنّنا لا نريد أن نبقى حيث نحن الآن». ربّما هذا هو الاختلاف الرئيسيّ بين الأجيال الشابّة في أوروبا وأمريكا، ففي أوروبا دائمًا ما يضعون غاية وهدفًا سياسيًّا قبل بداية الحراك، لذا فالسؤال الّذي دائمًا ما يواجهنا في أوروبا: «ما هي أهدافكم؟» ونردّ بأنّ هدفنا الخروج من الوضع الّذي نحن فيه، لذا غالبًا ما يتمّ تصنيفنا على أنّنا أناركيّين.

بيير باولو بازوليني: في أوروبا أيضًا هنالك تجارب مشابهة، الشعراء البوهيميّون في القرن التاسع عشر على سبيل المثال، أو يمكن أن نطلق عليهم بالرامبويين (نسبة إلى الشاعر الفرنسيّ آرثر رامبو)، عاشوا تلك التجربة.

جوناس ميكاس: وحركة بروفو الهولنديّة. في أمريكا الآن توجد سبعة ملايين كاميرا تصوير في منازل عامّة الناس، نحن نريد أن نأخذ السينما من الصناعة ونسلّمها لعامّة الناس في بيوتهم، هذا هو خلاصة معنى ما نطلق عليه بسينما الأندرجراوند. عن طريق أخذ السينما من الصناعة وعن طريق القول وبصورة عامّة لا تخلو من المبالغة بأنّ الجميع بإمكانهم صناعة الأفلام، نحن سنقوم بتحرير تلك الملايين من الكاميرات. أيّ طفل ينشأ في بيت فيه كاميرا يمكنه عمل شيء ما بواسطتها غير الفيديوهات السياحيّة. اعتقد في النهاية وبتلك الطريقة يمكن لتلك الملايين من الكاميرات أن تصبح قوّة سياسيّة. سيتمّ تغطية جميع جوانب الحياة، ستدخل الكاميرات إلى السجون، المصارف، الجيش وغيرها ويمكن لنا حين ذاك أن نعرف واقعنا وما حولنا وحينها يصبح التغيير ممكنًا. نحن نريد أن نعطي صوتًا لتلك الكاميرات.

بيير باولو بازوليني: لديّ شكوكي حول ذلك. كم عدد الآلات الطابعة في أمريكا؟ لا أريد تسخيف آمالك، على العكس، لكنّني أحاول أن أفهم لماذا تجد في السينما طريقًا للحرّيّة أفضل من الأدب؟

جوناس ميكاس: لأنّ الآلة الطابعة يمكن استخدامها لكتابة خيالاتك الشخصيّة، تشوّهاتك أو أحلامك أو بإمكانك أن تكتب شعرًا من خلالها، لكنّ الكاميرا تصوّر الحقيقة أو قطعًا منها، تصوّر وجوهًا ومواقف، لأنّ السينما الّتي أقصدها تختلف عن ما يصنع في هوليوود أو في السينيسيتا الإيطاليّة والّتي غالبًا ما تكون مزيّفة. لكنّ هذه الملايين من الكاميرات ستستخدم لتصوير الحقيقة كما هي، فلا يمكن لشيء أن يختبئ خلف وجه يمكنك أن تشاهده أمامك.

بيير باولو بازوليني: أفهم الآن أين تكمن المشكلة. حتّى هذه اللحظة، هذا التمرّد الأمريكيّ هو شيء رائع وهو أكثر ما أقدره في العالم الآن، لكنّه بقي حتّى الآن غير عقلانيّ في جوهره ودائمًا ما يجد دافعًا له في داخل أمريكا نفسها، في أكثر شيء حقيقيّ في أمريكا، ألا وهو الديمقراطيّة، فهذا التمرّد لعلّه أكثر مثال حقيقيٍّ على الديمقراطيّة بأنقى أشكالها. لكنّ التوجيه ضروريّ في هذه المرحلة وهذا التوجيه لا يمكن أن يكون بصورة أخرى غير الأيديولوجيا، فأمريكا لا تنتظر التوجيه، بل الأيديولوجيّا. فإذا أمكن للأيديولوجيا أن تتشكّل فالحرب الأهليّة ستحدث حتمًا، وإن حدثت هذه الحرب فالعالم سيكون بعدها بأمان ربّما لـ 300 سنة. لو يتبلور كلّ ذلك إلى تشكيل أيديولوجيّا بطريقة أو بأخرى، فإنّها ستعطي للشعب القوّة اللازمة لبدء حرب أهليّة. قد لا تكون الأيديولوجيّا هي الشيء الوحيد الّذي بإمكانه توحيد الشعوب وتسهيل طريقهم نحو الحرّيّة، هنالك الدين أيضًا وربّما هذا ما تحاولون صنعه في أمريكا، حركة دينيّة روحانيّة؟ ربّما هذا النوع من الحركات بإمكانه أيضًا أن يؤدّي إلى حرب أهليّة.

جوناس ميكاس: تلك الحروب الأهليّة هي الأكثر دمويّة.

بيير باولو بازوليني: على أيّ حال، فمن الواضح أنّه لو لم تحدث الحرب الأهليّة، لورثت أمريكا تركة ألمانيا لتصبح الموطن الجديد للنازيّة في أقصى تطرّفها.

غيديون باكمان: هل هنالك شيء إيجابيّ في الموقف الإيطاليّ بإمكانه أن يفيدنا في أمريكا؟

بيير باولو بازوليني: بكلّ بساطة، لا. لقد عدت للتوّ من المغرب حيث أنهيت تصوير فيلمي الأخير، وشعرت بأنّي أريد ترك كلّ شيء، كلّ أفلامي وحياتي السابقة وأن أعود للعيش في المغرب. وليس ذلك بسبب حبّي لهذا البلد ولكن عند عودتي لإيطاليا كانت الأوضاع سيّئة جدًّا وصادمة ولا تحتمل. لم يكن هناك أيّ شيء يدعو إلى التفاؤل وكان الأمر أشبه بالدخول إلى مستشفى من المجانين الهادئين. لقد مرّت عشرة أيّام من الظلام كما لو أنّني لم أستطع العيش هنا بعد الآن. وأسوأ ما في الأمر هو أنّ الإيطاليّين لا يشعرون بكلّ ذلك. والآن بعد أن أخبرتني بما يحدث في نيويورك، ربّما سأترك كلّ شيء وأذهب للعيش في صحراء في المغرب حيث المشاكل هناك بسيطة ومعروفة أشبه بمشاكل ما قبل عصر الصناعة، كسل، تأخّر ذهنيّ، فقر ومشاكل عرفنا كيفيّة التأقلم معها.

المصدر

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى