تحمل أجسام المنزل معانٍ مشؤومة لـ«كاميل بريكر» (إيمي آدمز) في مسلسل «جون مارك فالي» القصير على HBO: «أجسام حادة»، وهو اقتباس لرواية «غيليان فلِن» الأولى عام 2006 التي تحمل نفس العنوان الذي يحيل إلى كينونة «كاميل»، وفيه تتماثل «كاميل» المثقلة بموتِ أختها الوسطى وصدماتِ الطفولة في مدينة «ويند غاب» بميزوري للشفاء من نزوعها إلى إيذاء النفس. وتعني علاقتُها الوثيقة والخاصة بالأجسام -إذ تُحوِّل أدواتٍ معتادة إلى أدوات غير متوقعة لإيذاء النفس- أنْ يُعاد انتباهنا نحن المشاهدين باستمرار إلى مساحة المنزل وإلى الولع الغريب بالحياة المريحة. إنّ الأجسام التي تتفحصها هذه المقالة هي البلاط الذي يغطي غرفة النوم الرئيسة لوالدة «كاميل»، «أدورا كريلِن» (باترشيا كلاركسن): بلاطٌ من عاجٍ عمره مئات السنين، وبما أنه صُنع من ناب الفيل، فالبلاط أجسام حادة متنكِّرة، وهو مبجّل عند «أدورا» وابنتها الصغرى «آمّا» (إليزا سكانلن) التي تستنسخ متحمسةً بيتَ العائلةِ بدقةٍ عجيبة في بيت دمى. وحسب «نظرية الشيء» فالبلاط -علاوة على ذلك- هو شيء في حد ذاته بمقتضى إظهاره الفاعلية وصياغته للعلاقات. أُبيّن تشييء البلاط في النسق الذي يُتَحدث به عن وإلى العنف والثقافة الكابتة التي تبني وتصقل سلوك النساء اللواتي يقطِنّ في بيت «كريلن». وثقافة العنف التي أشير إليها في هذه الورقة تتعلق بسيادة البِيض، في صقلها النساءَ البيض وفي صقلهن لها. أتفحص خصوصًا كيف يشهد البلاط بكونه شيئًا ويخبر حتى بديناميات سيادة البيض المتسلَّحة من الأنوثة البيضاء.
أعتمد في المقالة على معانٍ للشيء والجسم مردُّها إلى نظرية الشيء وإلى علم وجود الأجسام، لوضع أهمية البلاط -بكونه شيئًا- ضمن هيكل فرعي في فلسفة علم الظواهر. أعتمد كذلك على تعريفات سيادة البيض والتمثّل السينمائي للبياض من باحثين في النظرية النقدية مثل «رتشرد داير» و«روث فرانكنبرغ» و«بِل هوكس»، وأخيرًا على تفسير «إليزابث غروس» للجسد بكونه مقرَّ تحوّل وتوسُّع للعلاقات التي تنظر إلى الجسد على أنه شيء. يعينني بحثُ أولئك الباحثين في تفحُّص اختلاف تجسّم قوام الأشياء، مثل البلاط والنساء. وعلى أنهما جسمان متباينان في القدرة، يرجع تجسيمهما إلى دينامياتٍ سياسية وأيديولوجية تقسمُ السلطة إلى طبقات عند مركزية البشر، تنتهي إلى تفضيل الأجساد والذكورة الأوربية عادةً، بَيد أن هذين النوعين من الأشياء -النساء والبلاط- مُشيَّآن تشييئًا يبقيهما أجسامًا ذوات سلطة، بقدرات تصقل ثم تكشف أنظمة السلطة نفسها، وعندهما قدرةُ كشفِ ديناميات سيادة البيض الواقعة في سياقهما الاجتماعي، وهو أن البلاط والنسوة الثلاث -«أدورا» و«آما» و«كاميل»- مكشوفون أيضًا. وفي هذا السياق عمومًا، يكشفُ عرضُ فاعلية البلاط قدرتَه على مواجهة وفضح صنائع سيادة البيض. وبالتركيز على أنظمة السلطة التي تضع شيئيّة البلاط على الواجهة، نشهد تباعًا كيف لـ«أدورا» و«آمّا» و«كاميل» أن يكنّ راعيات وفاعلات لسيادة البيض ومضطهَدات بها في آن واحد. أناقش أخيرًا هذه الديناميات المؤثرة بالنظر إلى العلاقة بين «أدورا» و«آما» و«كاميل» في تفاعلهن مع الثقل المادي للبلاط وفطْرهن عليه، والذي يؤثر على علاقاتهن الوجودية.
يحرّك «أجسام حادة» جوانبًا من أفنون القوطية مثل العالم المحلي والخاصيّة المقلقة للطبيعة، ويكشف -علاوة على ذلك- ارتباطَ ديناميات السلطة بعالم النساء، خصوصًا النساء البيض فيه. وبناء على الأجساد التي تُكتب عن وبواسطة سيادة البيض، حملتْ النساء البيض ثنائية فريدة: «مضطهِد/مضطهَد». تُضطهَد النسوة «أدورا» و«آما» و«كاميل» تحت سطوة الأبوية الغيروية، يكشف عنها «فالي» في أحيان في «ويند غاب»، إلا أن «فالي» يُظهر اهتمامًا أكبر في صورتهن مضطهِدات. أسعى فيما سيأتي إلى كشف علاقة البلاط بكونه شيئًا برز من سيادة البيض، وأتفحص كيف كشف وفضح مخطوط سيادة البيض المستتر بالأنوثة البيضاء.
ما أتفحصه أساسًا هو البلاط العاجي، مع تكوّنَ حالة الشيء فيه من شيئية جسم الأنثى والسلطة الهيكلية لسيادة البيض. وعليه، يستبعد البلاط العلاقة التجميعية مع السلطة، ويكشف -بكونه شيئًا- سيادةَ البيض ويواجهها بالقدر ذاته. خلال المسلسل، يُعرض البلاط العاجي في غرفة نوم «أدورا» الرئيسة على أنه حضور صوري يصِم ويطارد بطلة المسلسل «كاميل بريكر». تبدأ القصة بإرجاع الصحافية العادية «كاميل» إلى مدينتها الصغيرة المحافظة في ميزوري، «ويند غاب»، لكتابة تقرير عن مقتل طفلتين في المدينة المحافظة والاتحادية في تاريخها. يُعتبر المسلسل أيضًا قوطيًا أمريكيًا حديثًا، فبعودة «كاميل» إلى مدينتها الصغيرة تواجه العنف والصدمات التي أسست طفولتها في «ويند غاب». وبذكر أفنون القوطية، يشغل بيت ولادة «كاميل» -بيت آل كريلن الذي يسكنه أمها «أدورا» وزوج أمها (هنري كزيرني) وأختها غير الشقيقة، والذي توفيت فيه أختها «ماريان» (لولو ولسون) قبل عقود- أشد الأماكن عنفًا ومحاسبة وإدراكًا عندها، وهنا تُضخَّم الديناميات الاجتماعية لـ«ويند غاب» في سلوك نسوة «كريلن» (أدورا وآما). وقبل أن أفصل في هذه العلاقة، أبيّن أولًا سمات الشيئية التي أطبّقها على البلاط العاجي.
ما هو الشيء؟
تصير الأجسامُ أشياءً لأنها «واقعة في الحد بين الدلالة والمادة»، والأشياء هي في البدء أجسام وإن كانت في خط تشيُّئها، إلا أن شيئيتها مضمرة داخل الجسم في علاقة حتمية. وكما أوضح «بِل براون»: «الشيء ليس متجاوزًا للجسم، بل هو في داخله. هو الجسم ولا ريب». أستخدم في سياق هذه المقالة كلا اللفظين بسبب علاقتهما الضمنية. وعمومًا حينما أشير إلى شيءٍ بقولي جسم، فإني أستخدمه لشرح علاقة مضمرة للشيء في المكان، حيث تبقى شيئيته مبطنة مخفية. وعلى وجه الخصوص أناقش الشيئية عند الحديث عن نوع الفاعلية أو الكينونة التي تظهر من الجسم، مثل وقوعه في بيئته وتاريخه. ويجب أن تُقرأ الأجسام -بكونها أشياء- خارج سياقها المجازي والاجتماعي، ولأن الشيء يحمل فاعلية فيمكن تحديد فاعليته بمحيطه الاجتماعي والمادي، وعليه فإن سياق الجسم بكونه شيئًا يظل مهمًا.
تتكون شيئية الأجسام من طبقات غزيرة، وغزارتها عبارة عن دينامية متشعبة، وتأتي غزارتها التي تحوّل الأجسام إلى أشياء من علاقتها بالزمان والمكان والناس، وسيأتي كشفه. والأشياء غزيرة لأنها أجسام تحمل فاعلية خارج العلاقات الإنسانية حسب «أتزمون» و«بوردكار». ومع أنها توجَد خارج الإنسان، فإن لها علاقات معه، وهذه ديناميةٌ تَصنع شيئيةَ الجسم وهي عملية «لا بد أن تُفهم على وجهين: تحليل لخصوصية الجسم وردة فعل معقدة بين الجسم وذات الإنسان في الزمان والمكان» (برايس). تتشكل كل الأجسام -مثل جرة «هايدغر» ومطرقة «هارمان»، وفي مسألتنا بلاط «أدورا» العاجي- في البدء من رغبة الإنسان ولغايته، وتصير لها علاقات مع البيئة خارج سلوك الإنسان عند وجودها في المكان، وقدرتها على بقائها وراء مشهد ديناميات البشر مع تفاعلها في حياتهم تبيّن صورةً من فاعليّتها. زد على ذلك ما هو أوثق صلةً في حجتي هنا: أن البلاط عنده قدرة الرد على الثقافة، بكونه شيئًا موجودًا داخلها وخارجها في آن واحد. وفي حالة البلاط، فهو يشير إلى الديناميات الجزئية والكلية عند سيادة البيض. وعلى افتراض أنه منتَج جيء به من إفريقيا، فهو يمثّل -حقيقةً ومجازًا- استغلال هذه القارة في السعي إلى ثروةِ وسلطةِ وصنعةِ البيض. هذا تاريخ البلاط العاجي الاجتماعي والشخصي في غير مجاز. ينقل البلاط أيضًا دينامية جزئية للسلطة في معاملة الآخرين للبلاط في السرد: لا يُسمح بالأحذية فوقه، لا يَطَؤه إلا الحفاة أو مرتدو الجوارب، وينظَّف كل يوم حتى لا يخفت بريقه. وأخيرًا، أضع بالاعتبار تأثير البلاط على من يتصلون به، على أنه شيء «له فاعلية ويوجد وفق معاييره» (أتزمون وبوردكار). وأشدّ ما يحفزه البلاط العاجي من السلوك غلوًا -بزعمي- هو نزعة القتل عند «أدورا» و«آما».
يعني البلاط أكثر من مجرد مجموعة مصنوعة. مقدّسٌ هو عند «أدورا» -بانحرافه عن أصل الناب- ودالٌ على تاريخ ثراء العائلة، بَيد أن شيئيته لا تنجم عن قدسيّتها ودلالتها بقيمتها الاقتصادية، بل الحقيقة الوحيدة للبلاط بمعزل عن التبجيل، أنه أشياء. وللبلاط ميزتان إضافيتان في شيئيته، وهما تعريفان استعرتُهما من «بِل براون»، وهو يقول بوجود مكونيْن يعرفّان شيئية الجسم: كمونه، إذ هو «لم يُكوَّن قبل هذا أو متعذر تكوُّنه»، وغزارته، وهو ما يعني عند براون «ما يظل غير مختزَل ماديًا ومعنويًا في الأجسام». الجزء الكامن في الشيء يستحضر «السابق»، بينما تدل الغزارة على «اللاحق». «السابق» في البلاط هو شكل الناب الأصلي. يحيل «السابق» في الناب إلى تاريخ البلاط المادي: الاستخراج والشحن والتصنيع والتركيب. أما «اللاحق» -وهو ما يدل على الغزارة- يغدو الصفة الأساسية التي يتصف بها البلاط في المسلسل القصير. وفيما يتعلق بكمونه، فإن هذه الصورة الفريدة من الغزارة المؤقتة -بخلاف تعريف «أتزمون» و«بوردكار»- مرتبطة بالأسلوب الذي يدل على الثروة المحظية بأنظمة العنف الحية والتاريخية المتكررة كلما نُظر إليه -أي البلاط- أو سير فوقه أو نُظِّف (غالبًا من قِبَل الخادمة السوداء التي تؤدي دورها «إميلي يانسي»).
يلحظ «براون» أيضًا أن الشيء يحتل موضعًا فوق كمونه وغزارته، فشيئية الجسم تفضي إلى «التزامن»، إذ «يبدو أن الشيء يُسمي الجسم كما لو أنه فعل مساوٍ لتسميته شيئًا مختلفًا». يسمي البلاط مادته، ناب الفيل، في الوقت نفسه الذي يسمي فيه أنظمة العنف التي تنظم آل كريلن. وتعتمد الشيئية على نوع من الزمانية، حيث تُحوِّل الحاضر إلى «الكل في آن واحد» فيجتمع الماضي والحاضر والمستقبل. وعليه، فإن عودة «كاميل» تُرجِع سلسلة من ذكريات الطفولة، خصوصًا حينما تقضي الوقت في المنزل. وبينما يُقدَّس البلاط من قِبَل «أدورا»، يحدث تفاعله الحقيقي ما بين الكُمون والغزارة ومزيج زمنيته الذي يُظهِر جانبًا من شيئيته. ومصادفةً، حتى «فريد بوتنغ» يُعرِّف القوطية أفنونًا له تنوع في الغزارة، وغالبًا ما يغدو النوع الميتافيزيقيّ مرئيًا في جماليات القوطية. وتُنتج سيادة البيض نوعًا آخر من غزارة البلاط في نظام السلطة وفي الأنوثة خصوصًا، وهذا ما أناقشه تفصيلًا في آخر قسمين من المقالة.
يعيش الشيء على الحدود -مثل قول «براون» في التزامن- ما يضعه في حالة من البينيّة، وهي جزء آخر من الغزارة التي يبرزها الشيء، فالأشياء بكونها أجسامًا مادية وعابرة للزمن أعلى شأنًا من استخدامها، وفي حالة البلاط يصبح استخدامه أشد تعقيدًا، فلم يعد غرضه نفس الغرض المخلوق لأجله بعزله عن توظيفه الأول أداةً للحماية بكونه نابًا، ومع ذلك فعليه -بكونه بلاطًا- الخوض في علاقة دلالية مع أصله النابي. يناقش «جون بولتز» الدينامية في تصوّرِ تمثّلِ الشجرة عند «وولف برونيل» في لوحته «ميثاق شجرة البلوط». رُسمت شجرة البلوط باستخدام خشب الشجرة ذاتها، فتظهر شيئية الرسمة من جهد الفنان في جمع الجسم الثقافي (تمثُّل الشجرة) مع المتمثَّل واقعًا وهو الشجرة نفسها، ولو أنها اقتُلعت وجُعلت الإطار الذي يثبت تمثُّلها. يطبّق «بولتز» المنطق عينه في ظاهرة الصور الفكتورية، حيث يرافق شَعر المصوَّر صورته (خاصة إذا كانت الصورة لميّت)، فالشَعر «هو جوهر الإنسان، إلا أنه مادي تمامًا في الوقت نفسه، منزوع مما يتصف به الإنسان الحقيقي من صفات روحية». وهذه دينامية البلاط: لم يعد نابًا لكننا نذكر دائمًا أنه من ناب؛ فالفجوة خلال نهبه إذن جانب بادٍ من غزارته البراقة.
يُبيِّنُ مكمنُ غزارةٍ آخر -مختلف عن «اللاحق» الزمني الذي شرحه «براون» في تعريفه للشيء- الهالةَ من الجسم كي يقدَّس. يَبرز النوع الآخر من الغزارة عند «براون» حينما «تتجاوز الأجسام ماديتها المجردة أو توظيفها المجرد، قوتها في حضورها الحسي والميتافيزيقي، السحر الذي تغدو من خلاله الأجسام ذوات قيمة ومقدسة ومعبودات وطواطم». الجسم لا يتحوّل إلى شيء بتقديسه من الناس، بل تقديس الجسم يَظهر من سلطته بكونه شيئًا يؤثر على الناس أو واحدهم. نرى هذا واضحًا في ولع «آما» و«أدورا» بالبلاط العاجي، وإنْ كان الشيء غزيرًا فهو من جانب لأن «الأشياء لا حضور لها إلا إذا امتلأت بالناس»، وهذا قول «برونو ليتور»، لكن الناس بالقدر ذاته مِلاءٌ بالأشياء. ومردُّ هذه الصورة من الغزارة جزئيًا هو لعلاقة بين الشيء وبيئته، فدعوته ليقدَّس هي طريقة يؤكد بها الجسم على شيئيته. وعلى قول «براون»: «تبدأ القصة في تأكيد الأجسام نفسها أشياءً، ومن ثم هي قصة علاقة متغيرة مع الإنسان، وعليه، فهي قصة عن مقدرة الشيء بتسمية أقل مما هو جسم فضلًا عن علاقة فريدة بين الفرد والجسم». تخلق الأشياء تفاعلًا يمكّنها من خلق بيئتها ومن ثمّ الناس الموجودين في حيّزها.
الشكل 1: «كاميل» تنظر إلى غرفة والدتها المغطاة بالبلاط العاجي
(صورة)
الكمون والغزارة لا يقرّان شيئية البلاط فحسب، بل هما صفتان تُبرزان قدرة البلاط على التصرف. تقدِّس «أدورا» البلاط، ولا يسعنا إلا النظر في شيئية البلاط التي تحرّض وَلَع «أدورا» به، ومعه ولع «آما» الفريد رغم شبهه بسابقه. ولهذا، فالبلاط يضيء هالة تجعله يجذب اهتمام وولع النساء اللواتي يعشن في المنزل (الشكل 1). زد على ذلك أن البلاط يمثل كمونًا وغزارة مضمورين، لهما علاقة بماديته التي تجسّد السلوك العنيف لـ«أدورا» و«آما» و«كاميل»، وما يمكّن فرض هذا السلوك على الآخرين هو البلاط وهالته وجاذبيته واتصاله بالعنف. أقصى مزاعمي غُلُوًا تقول بمساهمة شيئية البلاط في رغبة «أدورا» و«آما» في القتل، ورغبة «كاميل» في إيذاء نفسها. ويتحدّث البلاط بكونه أجسامًا نشأ حضورها من تاريخ الاستعمار (وهذا بذاته نظام تاريخي لسيادة البيض) عن أنظمة طاغية الحضور لسيادة البيض رغم تكميمها في مدينة «ويند غاب»، خصوصًا داخل بيت آل كريلن.
تجميل البياض
عند «رتشرد داير»، نساء الطبقة العليا من البيض هن «أشد البيض بياضًا». إن تركيز «جون مارك فالي» على الديناميات الاجتماعية للأنثى في «ويند غاب» هو تحقيق في سيادة البيض مدعمّةً من الأنوثة البيضاء في رمزيتها للحلم الأمريكي وكابوسه الظاهر في آن واحد. ويبدو أن اهتمامه مُنصبٌّ على البياض المصوغ من سيادة البيض باعتباره قوة مستشرية، قوة تخفت فور كشفها وتسميتها. وفي أسلوب السرد، فإن القوطية الحديثة وغموض القتل يعرضان ريبة واضطرابًا تضمرهما الديناميات الاجتماعية في «ويند غاب». تُظهر غلاظةُ قيظ الصيف معبَّرةً بالتعزيز المرئي للمراوح المطنطنة الدبقَ والعرقَ على بشرة أهل المدينة، ما يستحضر السقمَ الثقافي والاجتماعي لسيادة البيض بوصلها لعلاقات العنف في «ويند غاب». النوافذ المغلقة، والفوارق الطبقية الفاضحة بين نخبة الأثرياء البيض والفقراء -غالبًا من غير البيض- الذين يعملون في مزرعة الخنازير الصناعية لآل بريكر-كريلن، هي قرائن أخرى على هالة العنف في المدينة. وتتجسد ثقافة العنف جليةً في «ويند غاب» أثناء احتفال المدينة بـ«يوم كالهون»، حيث يعاد تمثيل اغتصابٍ لزوجةِ كونفدراليٍ إبان الحرب الأهلية احتفاءً بتضحيتها للمدينة وتاريخها. وتُبيّن قصةُ «يوم كالهون» ضمن السرد ذاته الوضعَ المعقد للنسوة البيض في سيادة البيض: يختبئ الجنديُ الكونفدرالي في الحرب الأهلية (زوجُ «ميلي كالهون») من رجال جيش الاتحاد الذين يقتفون أثره، تُبقي «ميلي» مكانه سرًا فتُعذَّب في جسدها وعرضها لكنها تؤدي واجبها بالصمت وعدم إفشاء مكانه. وفي تضحيتها لزوجها تضحيةٌ للكونفدرالية أيضًا، والذي أفضى إلى بقاء مؤسسة العبودية ومن ثم الانفصال عن الاتحاد الفدرالي. وعليه، فإن «ميلي» يُحتفى بها لإخلاصها في إبقاء سيادة البيض الأبوية، وبذلك تُبجَّل ويجري تخليدها باحتفالات سنوية في «يوم كالهون».
يوضح نصُّ «داير» المستنكَرُ -«أبيض»- الأسلوبَ الذي يتقوى به البياض في تعذُّر تعيينه وتحديده، خصوصًا في تجنب تسميته. ما يذكره «داير» أيضًا هو قدرة البياض مع هذا في بيان نفسه بالترخيم والمجاز رغم صمته، ويقول في مقدمته إن الملونين مُيّزوا عن البيض فجُعلوا في موضع يفترض توصيفًا دائمًا، لكن البيض هم «أناس مثل غيرهم» عند «داير». علاوة على ما ذُكر، مع أن البياض لا يُفترض تسميته -أي تحديده- فإن المفترض رؤيتُه رؤيةً حسنةً جميلة. ومن خلال الجمال يستمد البياضُ قوّته أصلًا، ونموذجه واضح في تقنيات الإضاءة وما إلى ذلك في السينما الكلاسيكية، وحتى في تمثيل النساء البيض فاضلاتٍ مستحقاتٍ للصون والنظر إليهن (مولفي). ليست صدفة أن أكثر مادة تقدسها «أدورا» في غرفتها هي البلاط العاجي، الذي ينير بياضُه بريقَه السماوي. والبلاط لا بد أن يعامَل بعناية، فَلَه روتينه الخاص في التنظيف، تنظفه الخادمة كل صباح، ولا يُلمس إلا ممن يستحق: أولئك الذين يُدعَون ويتبعون الآداب الحسنة. وبهذه الطرائق يعامَل البلاط من الكاميرا معاملة شبيهة بتمثّلات الأنوثة البيضاء في الأفلام.
ما هي العلاقة بين نظرية الشيء والبياض و/أو سيادة البيض؟ توجد الأشياء -مثل الناس- في الثقافة، وتسعى نظرية الشيء إلى تحديد شيئية الشيء داخل الثقافة وخارجها، لكن لا بد من تعريف المحيط الذي يؤسس الثقافة (الأيديولوجية الغالبة والمعتقدات والسلوك خصوصًا) تعريفًا واضحًا. وفي حالة البلاط في «أجسام حادة»، فوجوده منوطٌ بنظام العبودية الاقتصادي، وطرق التجارة المعبدة من الإمبريالية الأوروبية، والصناعات المحددة تاريخيًا من القوى الأوروبية الاستعمارية.
إن البياض -أي سيادة البيض- في تاريخه قد أنزل أجساد الناس منزلة الأجسام، بالذات إن كانت تحت تصنيفات العِرق والجنس والقدرة والطبقة. وامتلاك العبيد مثالٌ صريح على مسألة التصنيف، فتُحوِّل هذه المؤسسةُ الأجسادَ (بالذات العرقية غير البيضاء) إلى سلعة، وليست إمكانية التسليع فقط هي ما جعلت من الجسد شيئًا، بل حتى نجاة الجسد في وطأة ظروف وحشية من العنف «المشيِّئ» للإنسان (بولتز). وقد صيغتْ المُلكية في مدلولها الذي يحدد العلاقة بين إظهارِ الشيء كسلعة وهيكلِ الثقافة، من سيادة البيض وطبقات السلطة. يحدّث البلاط العاجي عن هذه الأنظمة التي ألهمت نظرية الشيء، من تاريخه المادي وأهميته الثقافية وبكونه أشياءً بذاتها.
إنّ ديناميات السلطة، التي تفرض سيادة البيض جزئيًا، تُحدد بعضَ الأجسام على أنها أشياء، وأشياء لها فاعلية. رأى «أتزمون» و«بوردكار» في بحثهما العلاقة بين الغرض ونظرية الشيء أن «الأشياء ليست مجرد تمثّلات لشيء آخر (دلالات أو رموز)» بل «لديها قوة بذاتها نتيجةً لخصائصها المادية الدقيقة». وعليه، فإن البلاط شيءٌ بطريقته التي يَرُدّ بها على السلطة كونه صُمّم في وطأة سيادة البيض، وهو يردّ حتى على أنظمة الاغتصاب والاستغلال المؤثِّرة في نهج حياة «أدورا». وعند «أرجون أبادوراي»، الأشياء لها حياة اجتماعية لأنها سلع، وفي إمكانية مقايضتها وأخذها قيمة ما (والتي تعلو -مثل البلاط- بحسب العمر والتاريخ)، «السلع -مثل الناس- لها حيوات اجتماعية».
تتفق الحياة الاجتماعية للبلاط بتماثل عنيف مع إحدى خصائص جرائم القتل الواقعة في السرد: خُلعت أسنان كلتا الطفلتين بعد موتهما. وسبب هذا الخلع صار محل نزاع وتشتيت طوال المسلسل، ولفرط ما يفرضه خلع الأسنان من قوة، اعتُقد أن الجاني رجل. وخَلْعُ الأسنان مجهولٌ منطقه حتى نصل إلى آخر المسلسل: نوجَّه في البداية إلى الاعتقاد أن «أدورا» -وهي في تأثير «متلازمة مونخهاوزن»- قتلت الطفلتين، ونعلم أن «أدورا» قتلت ابنتها «ماريان» قبل عقدين بمرضها العقلي، وتحاول تكرار فعلتها مع «آما» و«كاميل» في آخر حلقات المسلسل، ومن ثم تُحقِّق «كاميل» في بيت دمى «آما» المحاكي لبيتهما في «ويند غاب» بعد هربهما من أمهما، وهنا تكتشف أن «آما» هي في الحقيقة مَن قتلت الأطفال، فعند انسجامها بمحاكاة بيتهما تأخذ «آما» أسنان ضحاياها لتضعها مكان البلاط العاجي في غرفة أمها. شابهت «آما» أمها في تقديس بلاط الغرفة، وأعادت بناء أنظمة العنف والاستغلال التي صنعت البلاط العاجي الأصلي. وعليه، فإن البلاط يحدّث -وهو فعل أؤكد عليه بارتباطه بالفم- عن أنظمة العنف التي صقلت حيوات نساء «كريلن».
النسوة البيض: أجساد للسلطة
أبين في هذا القسم أن التركيز على أجساد الإناث في «أجسام حادة» يكشف أن أجساد النسوة البيض مكتوبة بالسلطة، وأنهنّ -في الوقت نفسه- شريكات في جرم صمود أنظمة السلطة. تساعد نظرية الشيء في شرح هذه العلاقة الغريبة، حيث تكون النسوة البيض ضحايا لسيادة البيض وراعيات لها. تأخذ «روث فرانكنبرغ» في كتابها «نسوة بيض، مسائل عرقية: البنية الاجتماعية للبياض» على عاتقها بحثًا في تاريخ حياة ثلاثين امرأة بيضاء في الولايات المتحدة لمعرفة تأسيس حياتهن من خلال بياضهن أو عرقهن في العموم، وتخلص إلى أن البياض مجموعة من المعاملات الثقافية. وتلحظ «فرانكنبرغ» -مثل «داير»- كيف ينشر البياض سلطته ويستمدها من عجز تسميته، وحتى إن من خصائصه كونه «مركزية يرى منها البيض أنفسهم والآخرين والمجتمع». تُصدّر لنا العلاقةُ بين «أدورا» و«آما» و«كاميل» هذه البنى لسيادة البيض مرئيةً في تعيينها لها -البنى- ضمن النسيج الاجتماعي للتكتم والعنف.
يُظهر البلاطُ العاجي العلاقةَ الأوسع بين الإنسان وجسده، خصوصًا جسد الأنثى. يعاد تبيان التاريخ السردي للبلاط -بصفته جسمًا- في تاريخ عائلة «كريلن» من قِبل «أدورا» بقولها: «هذا السطح العاجي -عاجيٌ بالكامل- كان هدية من أم جدة جدتي قبل أن تعرف نفسٌ معنى "مهدد بالانقراض"، على أن تبقى للأبد وهذا ما حصل». وفي تغطية البلاط لسطح الغرفة الرئيسة إعلانٌ لاقترانها بنسل «أدورا»، وكشفٌ صريحٌ لسلوكيّات ورثتْها «أدورا» وأورثتْها. وبارتباط هدية الزواج بالأمومة، يصبح البلاط في صف الجسد الأنثوي، فتأثيل مفردة «زوجي» [Matrimony] -في علاقته بجعل المرأة أمًا- يَنقلُ العملية التي تغدو بها النساء أجسامًا من خلال الزواج، وبهذا تُشيّأ أجساد النساء بكونهن نوعًا من الأجسام المسلَّعة. وفيما وراء طبقات السلطة الأبوية، تعترض «إليزابث غروس» بقولها: «الجسد أعجب "الأشياء"، فلا هو مُنزَل منزلة الشيء المجرّد، ولا هو قادر على العلو فوق منزلة الشيء. وبهذا يغدو شيئًا ولا شيئًا في آن، أي أنه جسم، جسمٌ متمكّن من شمْل طويّة ما أو الحضور معها، متمكّن من حمل نفسه والآخرين بكونهم أفرادًا، نوع فريد لا يتنزّل إلى الأجسام الأخرى». كل النساء في المسلسل لديهن علاقة مميزة مع أجسادهن تحدد تفاعلهن مع العالم، فـ«آما» و«أدورا» تصيّران جسديهما لاعتناق أفكار معينة عن الطبقة، وثقافة الجنوب، والأنوثة. وبرغم سلطتهن الحاصلة بفضل الثروة والمكانة الاجتماعية، فإن أدورا «تُظهر تمسكنًا» -حسب تعبير «فيبس»- تتخذ به قناعَ الأم الآسية الضعيفة الحزينة، مُخفيةً أموميّةً معتلة متحكمة تغمرها رغباتُ القتل. ويُظهر هذا الأداء الديناميةَ السياسية الأوسع في الثقافات الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة، حيث الحاجة إلى حماية النساء البيض «يثبّت صرح العقاب الغاشم والعنف في الحدود الوطنية» (فيبس).
المظهر هو أسلوب آخر لـ«آما» و«أدورا» توحيان به بالمسكنة والخضوع من خلال الأنوثة. تلبس «أدورا» دائمًا بشعرها المصفف فساتينَ طويلة، غالبًا مطرزة بالورود أو لطيفة التصميم، وحتى «آما» تُظهر وعيًا تامًا بجسدها، وتؤدي شخصيتين من خلاله: في منزل «كريلن»، تحاكي «آما» أسلوب أمها الأنثوي بنسخةٍ أرزن رغم طفوليتها، أما خارج المنزل بلباسها المدني، تلهو «آما» بمظهر مقدع في الإغواء تتلاعب فيه بالأولاد في حيها وبصديقاتها اللواتي يطابقنها ويُطعن كل أمر تقوله. والتحكم من «آما» و«أدورا» على جسديهما يمتد إلى تحكّم تريدانه على ضحاياهما، وهن بنات صغار دومًا. وحقيقة أن اعتلال «أدورا» النفسي -متلازمة مونخهاوزن- يعني أنّ تحكمها بأجساد الآخرين مدة من الزمن قبل قتلهن هي مسألة مهمة. ومن العجب أن «أدورا» تتحكم تحكمًا ثابتًا بالأفراد عبر تسميمهم (كما فعلت مع ابنتها الراحلة «ماريان»)، أما «آما» فتستغل مظهرها وشعبيتها لجذب البنات الصغار -وهن بنات يخالطن «أدورا» وهذا تهديد لـ«آما»- وتأخذ أسنانهن لمحاكاة البلاط، والبلاط من صنف أجساد الإناث كونه -في نسخته العاجية- هدية زواج لامرأة من آل كريلن؛ وبكونه في بيت دمى «آما»، فهو يُنزَع من البنات الصغار. وعليه، فإن مظهر البلاط هو طريقة أخرى يعمل الجمالُ بها ختمًا على واقع عنيف لا يُنكر.
تبدو «كاميل» متباينة مع «أدورا» و«آما» في لباسها الأسود الذي يغطي جسدها كله، فاللباس الأسود دليل رغبة مختلفة -ولو ظلت عنيفة- في التحكم بالجسد. تفضي نزوات «آما» و«أدورا» العنيفة إلى إيذاء الغير، في حين تفضي نزوات «كاميل» إلى إيذائها نفسها، وتفعل هذا عن طريق القطع، وإيذاؤها لنفسها «يجعل الجسد نفسه مريبًا» (بول). وتأتي الريبة في الجسد والشيء من ديناميات عدّة داخل بيت آل كريلن، ولأنها قصة قوطية حديثة؛ فموقع البيت نفسه يصبح موقع الريبة، وريبة البيت هذه في «أجسام حادة» تنجم عن ثنائية المكان في كونه معنِّفًا ومربّيًا في آن. ويجسّد منزل آل كريلن ريبة أمريكية مميزة حتى، فعند براون، «الريب الأمريكي [...] قد ينذرنا بدينامية أخرى أيضًا: احتمال أنّ ترددنا في التفكير الجاد بالأشياء قد ينجم عن خوف مكبوت، الخوف أننا مع الأشياء سنكتشف الإنسان حق الكشف لأن تاريخنا واحد، حيث نزل البشر منزلة الأشياء (مع تعثر تمام هذا النزول)». في الحيز الأمريكي، بقيت نظرية الشيء مهمة أهمية خاصة بسبب تاريخ العبودية.
في كثير من الأبحاث التي اعتمدتُها لفهم نظرية الشيء، ذكر معظم المؤلفين تاريخ العبودية مثالًا مغالٍ في الترويع لتحوّل الناس إلى سلع تباع وتُشترى، أجسامٍ لها شيئية عجيبة (أبادوري؛ بولتز؛ براون). والشيئية في هذه الأمثلة كانت النفاخ الغزير لعملية العبودية الوحشية، وما وضّحَته أغلب هذه التفسيرات هو طريقة البياض في استيعاب الجسد الآخر للإنسان الأسود. ينبع تجسيم وتشييء الجسد الأسود من نظرة سيادة البيض السائلة عمّا يمكن التحكم به والكسب منه وتسليعه من أولئك الذين في مرمى أبصارهم. أما من توقف حاله من الناس في طور الجسم، فتقول «بل هوكس»: «أن تكون جسمًا يعني أن تُحرَم السعة في النظر إلى الواقع أو ملاحظته». ومع تشبع الناس بحالة الجسم نتيجة المؤسسات الممنهجة لسيادة البيض، يظل تاريخ العبيد ومعاملتُهم معاملةَ الأجسام جزءًا مستمرًا من الريب الأمريكي ونظرية الشيء.
ما يبينه تصريح «هوكس» هو فعل النظرة عند أنظمة السلطة، فالجسم لا يمكنه رد النظر، أما الشيء فوضعه مختلف. إن كان البلاط العاجي يصوّر ديناميات السلطة أثناء المسلسل، فجسد «كاميل» وعلاقتها بأسماء المكان سلطة معلومة. يلاحظ النبيه من مشاهدي المسلسل القصير في الحلقة الأولى أن الكلمات التي تظهر وهمًا على أجسام يومية مثل لوح الشارع وشاشات الراديو تبدو عشوائية وغير مفهومة. يتبيّن فيما بعد أن هذه الكلمات تطابق التي تنقشها «كاميل» على جسدها عند إيذائها نفسها، ومن هنا نبدأ بترقُّبها مع الأحداث. وتلحظ «ميخايلا هاربر» في مقالتها «لغة جسد الأنثى» كيف «يؤسس تشوُّش الكلمات أسلوبًا يستشكل الديناميات بين الداخلي والخارجي من الأشكال، والأسطح المادية للأجسام بكونها امتدادًا لجلد أحدهم، والجلد في كونه امتدادًا لعمليات ثقافية تسوقها الأيديولوجيا إلى حيث الصراع الشرس بين الماضي والحاضر والمخيال يعطي ترابطًا مناسبًا». عند «هاربر»، العنف الأساسي المعروض في الفيلم هو عنف جنساني، ولذا فتقطيع كاميل «يترجم أنظمة العنف بلغة مفهومة لكاميل وللمُشاهد». وعمومًا، أزعم أن تقطيع «كاميل» ليس عنفًا جنسانيًا في المقام الأول. لو أن إحدى الأدوات المستعملة في صنع سلطة سيادة البيض هي رفضها تسمية نفسها، فإن القدرة على وضع العنف والسلطة في كلمات إذن هو بالضبط ما يقوّض سيطرة سيادة البيض. عوضًا عن هذا، تسمّي السلطةُ المدمرة لإيذاء «كاميل» لنفسها -وهي فريدة في نحتها الكلمات على جسدها- ممتنعَ التسمية، خصوصًا أن الكلمات التي تختارها «كاميل» مرتبطة غالبًا بالتواصل بينها وأمها. كلماتها المندوبة تمنح صوتًا لنظام سيادة البيض، مسمّية ما يُفترض ألّا يقال ويُذكر، ويعمل جسدها عمل البلاط في الشيء، فهي تستعمل جسدها المجسَّم والمشيّأ لتسمية مصادر ألمها، كما أنها قادرة على تصوير النظام حيث يتكاثر هذا الألم. وتكمن الطبيعة المتناقضة في «أجسام حادة» في أن هذه الأجسام -وكما يوحي الاسم، تلك الأجسام موصوفة وعليه فهي أشياء- لا تزال قادرة على القبض على سلطة مؤذية. نرى هذا جليًا عند «أدورا» و«آما»، اللتين تستخدمان أنوثتهما المثالية المفرطة لغرضين: التسلل إلى ضحاياهما والحفاظ على براءتهما. وبكونهما النموذج للأنوثة البيضاء، فإن «أدورا» و«آما» مجسَّمتان. وعلى نفس النهج، فإن علاقة «أدورا» المؤذية مع الطفلات تحوِّلهن إلى دمى تلعب بهن كيفما شاءت. تصف «آما» هذه العلاقة لـ«كاميل» بقولها: «أنا لست سوى دميتها الصغيرة التي تُلبسها». ومع ذلك، بسبب المظهر والقدرة على التنكر في الجسم، امرأتا «كريلن» قادرتان على الاستمرار في المشاركة في جرم العنف المريع طوال هذه المدة، ومثلهن البلاط العاجي، إلا أن عنفه يظل خافيًا في الظاهر، فهو يقدّم نفسه عاديًا منصاعًا، إلا أنه ينقل حدّةً خطيرة في دلالته. وحتى «كاميل» تخفي نفسها بالسواد، وكأنه ظِلٌ تحمي به نفسها وألمها من الآخرين.
على أنهما يبدوان في الحياد لا يملكان ضرًا ولا نفعًا، فإن البلاط و«كاميل» يعبّران عن فاعليتهما بقدرة الملاحظة، فـ«كاميل» تعتمد على مهارتها في الملاحظة لأنها صحافية، بيد أن اعتمادها المحض على هذه الملاحظة هو ما وضَعها ضمن الأشياء في سياق نظرية الشيء. ولأن الأشياء يُفترض فاعليتها وفقًا للنظرية، يقر المنظرّون أن الأشياء أيضًا لديها قدرة الملاحظة. يرى «بل براون» إمكانية «قضاء الأجسام [بكونها شيئًا] وقتها في النظر»، فالنظر إذن يحوّل حضور الجسم. «يمكن للأجسام [بكونها شيئًا] الانسحاب إلى فعلها المخفي المدفون أو أن تصبح أجسامًا جلية الوعي. الحق أنها تقوم بالفعلين معًا: المطرقة بالكاد تُحَس حتى ونحن نستعملها دون أن نراها، ثم ينسحب شيءٌ ما في الجسم حين نحدق إليه صراحةً» (هارمن). إحدى الوسائل الأساسية التي يعمل بها البلاط بعيدًا عن مشي الخلق عليه أنه يُنظر إليه؛ هو مرئيٌ أغلب الوقت، وهو مصوَّرٌ من منظور «كاميل» في مراحل عديدة من حياتها (شاهد الشكل الأول مرة أخرى). ولهذا نقرن حضور البلاط بفترات تلحظ فيها «كاميل» سلوك الآخرين، وتظهر عدة لقطات استذكار لـ«كاميل» وهي واقفة عند باب غرفة أمها تحدق إلى البلاط لا تجرؤ على لمسه؛ يطلب البلاط الاهتمام بكونه جسمًا يُنظر إليه. وثمّة مشهد آخر -استرجاع للذاكرة في كرّة أخرى لطفولة «كاميل»- يرسم زيارةً لمصور رتّب الغرفة كي تظهر في مجلة تصميم جنوبية. يتضمن المشهد سلسلة من النظرات، معظمها نظرات المراهقة «كاميل»: وهي تحدق إلى البلاط، وهي تنظر غزلًا إلى المصوّر الذي رد النظرة، ومرة أخرى وهي تتحكم بكاميرا المصوّر بعدما التقطتها من الأرض لتسجّل أختَها «ماريان» التي كانت حية حينها، فتُنهَر «كاميل» عند استعادة الكاميرا من أمها لأنها وسّخت الأرض بحذائها وهي تأخذ عدة التصوير. كل هذه اللحظات تحصر استيعاب «كاميل» وهي تشهد الديناميات حولها، مثل حرمة البلاط وحتى حرمة شهوة المصور للأطفال، ولو أنه شُجّع من «كاميل». والبلاط شهد اللقاء كله مثل «كاميل» ولو كان تركيز المشهد على نظراتها، وفيه -أي اللقاء- عرض لسلطة الأنثى البيضاء وتمرد قصير من «كاميل» على ضوابط «أدورا» وآدابها.
قدرة «كاميل» والبلاط على الملاحظة تمكين للشهادة والرد على ديناميات السلطة عند سيادة البيض؛ فحين اكتشافنا الهام مع «كاميل» أن «آما» هي مَن قتلت الطفلتين، وصل الإدراك من نظرة. وفي نفس الوقت، نجحت «أدورا» و«آما» في ازدواجيتهما دهرًا بسبب قدرتهما على التخفي في مرأى الناس من خلال التعابير الأنثوية، فـ«أدورا» استغلت توقعات الأمومة في إلانة «ماريان» وإرضاء حاجتها من الاهتمام، ومردّ هذا إلى متلازمة مونخهاوزن. وعلى نفس النهج، ألمحت مناظر متكررة أن «آما» هي القاتلة في كل حلقة: السلطة الفاحصة للنظرة، لو وُظّفت في محلها، أظهرت لنا القاتل في كل حلقة. ويطوّع كل من «آما» و«أدورا» المظهرَ درعًا تحفزان به «النظر إليهما» [to-be-looked-at-ness] حتى تمكنّان وضعيهما في البياض والأنوثة والجمال التقليدي، فسبب عدم اشتباه المحققين بهما هو السلوك المدفوع من المظهر. و«كاميل» -على النقيض- ترفض هذا السلوك، فيغطيها السواد بأقل تكميل أنوثي. لباسها رفضٌ مباشر لأن تُرى أو تُلحظ، وهذا مردّه إلى العار الذي يعتريها من جسدها المندوب. وبطرائق مختلفة يوظِّف البلاطُ و«أدورا» و«آما» و«كاميل» السطحيةَ والمظاهرَ تشتيتًا للعنف الذي يؤسس أسلوب وجودهم في هذا العالم.
بينتُ في هذه المقالة تمثيل البلاط لعدد من ديناميات الأشياء ضمن نظرية الشيء. وتوضّح غزارتُه الكثيفة -التي تشمل كمونَه والتوافقَ الزماني وتاريخَه المادي- قدرته على التأثير والانسجام مع البيئة، وأهم امتداد للبلاط العاجي هو علاقته بسيادة البيض، هذا وأنه جِسمٌ تَحوَّل خلال عملية اقتصادية تباشرها سيادة البيض إلى أشياء يمكنها الرد على هيكل سيادة البيض. وإحدى السبل التي يردّ البلاط بها هي دفع «أدورا» و«آما» إلى تقديسه، فيحتّم ولعُ «أدورا» و«آما» بالبلاط وبالسلطة المكتسبة من التظاهر بالأنوثة المثالية الرغبةَ بالتحكم، وقتْل الفتيات الصغار، ونزواتهما العنيفة تَمثُّلٌ لثقافة عنف أوسع تشحذها سيادة البيض التي تخلق الحيز الاجتماعي في «ويند غاب» خلال المسلسل.
البلاط العاجي حاد، جسم عنيف مرتبط بجسم الأنثى؛ كلاهما يمثّلان ويعلّقان على المكان المحلي، وعلى تحوُّل المرأة في الزواج، وكلاهما مُحاكى في بيت «آما» للدمى، وجسد الأنثى عند هيكل سيادة البيض لا يعدو عن كونه جسمًا، إلا أن «أجسام حادة» يكشف تواطؤ الأنوثة البيضاء في ظل سيادة البيض على أشكال العنف لغاية التحكم بمناصب النساء المحدودة في السلطة. وتسمح مكانة «أدورا» و«آما» -على أنهما امرأتان جميلتان ثريتان- لهما بفعل عنف مريع على أجساد نساء أخريات أضعف منهما. يَقْدِر البلاط بكونه شيئًا -بمعية «كاميل»- على أن يكون شاهدًا للديناميات التي تقر حضوره في محيطه، ويُظهر البلاطُ -في تمكنه من الشهادة على أنواع منوعة من العنف في بيت آل كريلن وبكونه حافزًا لمحاكاة «آما» المشؤومة- دورَ الأشياء في كونها عناصر بفاعلية تصقل الثقافة وتحدّث عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
المصادر:
- Accapadi, M.M. (2007). When white women cry: How white women’s tears oppress women of color. The College Student Affairs Journal, 26(2), 208–215.
- Appadurai, A. (1986). The social life of things. Cambridge University Press.
- Atzmon, L. & Boradkar, P. (2014). Introduction: A design encounter with thing theory. The Journal of the Design Studies Forum, 6(2), 141–152.
- Babich, B. (2016). Heidegger’s Jews: Inclusion/exclusion and Heidegger’s anti-Semitism. Journal of the British Society for Phenomenology, 47(2), 133–156.
- Biemel, W & Emad, P. (1980). The development of heidegger’s concept of the thing. The Southwestern Journal of Philosophy, 11(3), 46–66.
- Botting, F. (1995). Gothic. Routledge.
- Brown, B. (2001). Thing theory. Critical Inquiry, 28(1), 1–22.
- Brown, B. (2006). Reification, reanimation, and the American uncanny. Critical Inquiry 32(2), 175–207.
- Brown, B. (2016). Other things. University of Chicago Press.
- Dyer, R. (1997). White: Essays on race and culture. Routledge.
- Ewegen, S. M. (2012). Being just? Just being: Heidegger’s just thinking. Philosophy Today, 56(3), 285–294.
- Frankenberg, R. (1993). White women, race matters: The social construction of whiteness. University of Minnesota Press.
- Fritsche, J. (2016). National Socialism, anti-Semitism, and philosophy in Heidegger and Scheler. Philosophy Today, 60(2), 583–608.
- Grosz, E. (1994). Volatile bodies: Toward a corporeal feminism. Routledge.
- Harman, G. (2010). Technology, objects and things in Heidegger. Cambridge Journal of Economics, (34), 17–25.
- Harper, M. P. (2020). Female body language: Cutting, scarring, and becoming in HBO’s Sharp Objects. Female agencies and subjectivities in film and television (pp. 145–163). Palgrave Macmillan.
- hooks, b. (1997). Representations of whiteness in the black imagination. In R. Frankenberg (Ed.), Displacing whiteness: essays in social and cultural criticism (pp. 165–179). Duke University Press.
- Love, J & Meng, M. (2018). Heidegger’s radical antisemitism. Philosophy and Social Criticism, 44(1), 3–23.
- Mulvey, L. (1975). Visual pleasure and narrative cinema. Screen, 16(3), 6–18.
- Nancy, J-L. (2017). The banality of Heidegger. Fordham University Press.
- Paul, A. (2020). Haunting the body: An exploration of scars as ghosts. Digital Literature Review, (7), 25–38.
- Phipps, A. (2021). White tears, white rage: Victimhood and (as) violence in mainstream feminism. European Journal of Cultural Studies, 24(1), 81–93.
- Plotz, J. (2005). Can the sofa speak? A look at thing theory. Criticism, 47(1), 109–118.
- Price, A. (2014). Beckett’s bedrooms: On dirty things and thing theory. Journal of Beckett Studies, 23(2), 155–177.
النص المصدر:
https://www.euppublishing.com/doi/full/10.3366/film.2023.0219