الجادّة
كل مبدع، بالدرجة الأساس، مُعبّد طُرُق. أو هذا ما يطمح له المبدعون، أن يتركوا أثرًا، وأعظم الأثر ما اتُّبِع. لو نظرنا من بعيد إلى المبدعين فإننا نرى الواحد منهم وقد عبّد طريقًا لمن يأتي من بعده، والآتون، إذا ما أصابتهم لوثة الإبداع، أخذوا بالمحاولة في فتح ثغرة من هذه الطريق لتعبيد طريق أخرى تخصهم، أو شطحوا عنها تمامًا ووضعوا حجر أساس لطريقهم الخاصة. وهنا، نحن نقول عن المبدع بمعناه الأوسع، لا بمعنى الفنان الإبداعي كما صار يُفهم من الاصطلاح في الكلام الحديث، بل بمعنى كل من أبدع جديدًا: سواء أنبيًّا كان أو سياسيًّا أو عالِمًا أو في أي مجال من المجالات. غير أن المثير للاهتمام هنا، أنّا حين ننظر إلى هذه الطرق المبتدَعة فإننا نرى جادات عديدة لها خواص مبدعيها وأساليبهم وما يدل عليهم من رموزهم أو آثار أزمنتهم وأماكنهم وهلم جرا. ثم نلمح، في جنب كل جادة، مسارًا جانبيًّا. هذا ما يكون في أغلب الأحوال وليس بالضرورة دائمًا. وكأن المبدع قد حاد عن جادته الرئيسة، لسبب أو لآخر يختلف باختلاف المبدعين وظروفهم، فمنهم من حاد عن إرادة، لرغبة منه في تجربة مختلفة طلبًا لتحدٍّ جديد، ومنهم من حاد رغمًا عنه، لظروف خارجة عن إرادته، ومنهم من خرج مللًا من تعبيد الطريق الكبيرة بغيةَ مسار يتسع له وحده ليستريح فيه قليلًا والسلام.
المشي والمشاهدة
في نوفيللاهُ «التمشية» أو «مشوار المشي»1 يضع روبرت فالزر بطل قصته في حدث واحد وحسب، بقدر ما يبدو هيّنًا فإنه كبير، ألا وهو المشي. كل ما تتمحور حوله هذه النوفيللا، بالدرجة الأساس، أن البطل يمشي، ومن هذا الفعل البسيط، ذي العمق الفلسفيِّ، يتفرّع فعل آخر لا يقل في بدّوه بساطةً وعمقًا عن الفعل الأول: المشاهدة. إننا نتحدّث عن المشي هنا لا بوصفه النشاط الوظيفي بغيةَ الانتقال من نقطة إلى أخرى، بل المراد هنا أن يكون بلا قصْد وظيفي: مشيًا خالصًا. نستطيع تسمية هذا الفعل بالتنزّه أو بالتسكّع أو بـ«شَمّ الهوا»، إلا أنها تظل معانٍ عديدة تداور التسمية الآصَل: التمشّي، المشي، التمشية ارتباطًا بمفردة المشي. أما المعاني الأخرى فمرتبطة بالتنزه إيجابًا أو التسكع سلبًا أو الخروج من ضِيق المنازل والجدران إلى براح الهواء. وفي لسان العرب حول مفردة «مشى» في علاقتها بالـ«الماشية» من الحيوان قال ابن منظور: «وأصل المَشَاء النماءُ والكثرةُ والتناسُلُ»2. والحق، أننا متى ما رأينا إلى الأمر بشيء من التأمل، فسوف نلحظ أن المعنى الفلسفي للمشي -مجرّدًا عن الوظيفة والقصد- هو أقرب لمعنى مفردة «الماشية»، فأن يمشي المرء بلا ملاحقة لهدف ما ولا هاربًا من أمر ما -اللهم نفسه ربما؟!- هو ذاته فعل الماشية في اعتلافها الرائق ونظرتها المحايدة في محيطها؛ ما قد يمثّل اعتلاف المرء في هذه الحالة هو الرؤية، أن يكون مُشاهِدًا، وما يوازي نظرة الحياد بالنسبة إلى الماشي هو نظرة الآخر صوبه، حياد اللامبالاة. وفي هذا ازدواج من جهتين في تأمل الماشي المنفرد وهو مديحٌ لا هجاء.
نعم، إنه منفرد. ويجب عليه هذا بكل تأكيد ككل فعل تأملي: القراءة، مشاهدة الأفلام، الاستماع إلى الموسيقى في جانب منها. كل هذه أفعال فردانيّة، أو هذا ما يجب أن تكون عليه حالَ أُريد منها معناها الأدبي. ومثل تلك الماشية، والتي بقدر ما تكون في مجموعة أو قطيع فهي منفردة -ويا لها من مفارقة!- في وضعية تشبه بيت الشاعر «أسير مع الجميع/ وخطوتي وحدي»3. أما النهاية فتكون السقوطَ في موت. هذا ما حدث لفالزر نفسه، وبتوسيعه فهو ما يحدث للمشاة جميعًا.
بهذا المعنى تكون السينما والأفلام. جادات، شوارع، منعطفات. قد تكون حدائق في أحيان، وتارةً تكون منزلًا نتمشّى في جوانبه. المُشاهِد هو ماشٍ ولو على طريقته؛ إنه ليس مجرّد متلقٍّ سلبي. ولو أردنا تناول ثنائية الحركة والثبات فتلك الجادات، الشوارع، المنعطفات.. إلخ: هي المتحرّكة والمُشاهِد ثابت، سوى أن هذا لا يغيّر من حقيقة الأمر شيئًا: يظل المُشاهد هو الماشي وذلك لأن الخطوة هنا نظَر.
معبّدو طرق بصرية
كنا، في المقالات السابقة، مع البدايات. نحاول فهم الجذور الأولى والخطوات الصغيرة وما أثّرت به على ما تلاها من خطوات كبيرة أو قفزات في أحيان. ونحن إذا ما أردنا المشي مع مجاز تعبيد الطرق الإبداعية فسوف نكون ماشين على الرصيف الجانبي، بحيث نرى الطريق من بدايتها وحتى وصولنا الآن إلى منتصفها. وفي كل منتصف، أو قريبًا منه، نرى مسارًا قد افتُرع من هذه الجادة أو تلك، فنحن قد حاولنا المشي على رصيف بدايات ستانلي كيوبرك والذي كان طريقًا من الفوتوغرافيا، وإذا ما واصلنا المشي بحذاء جادته البصرية فسوف نُلفي فيلمه «سبارتاكوس» (1960) والذي يمثّل حالةً من مسار جانبي، وهو من ضرب المسارات الإجبارية كما سنبيّن لاحقًا. ثم لدينا جادة داوود عبد السيد البادئة بالأفلام التسجيلية حتى انفلات «الصعاليك» وصولًا إلى فيلمه «أرض الأحلام» (1993) الخارج كمسار جانبي في حالة من تجريب المبدع لطرق أخرى غير ما اعتاد عليه. ومن ثم تناولنا بداية أعمال المخرج السريالي ديفيد لينش المخلص لجادته التي تحاول الارتفاع عن منطق الجادة المنطقية ومساراتها المتوقعة في مجمل أعماله اللهم فيلمًا، أو مسارًا، صغيرًا -ولا نقول قصيرًا- ينتقل فيه من النقيض إلى النقيض: «قصة مباشرة» (1999).
إذن، وبافتراض أن القارئ هو مشّاء سينمائي، كما جادلنا أعلاه، فسوف نأخذ عبر هذه المسارات الثلاثة بالتمشّي على مهل. متطلعين، دونما كبير أمل، إلى ما يمكن أن تهبنا إياه هذه المسارات، حيث إنها لا تعد بما تعد به الجادّات الكِبار، غير أنها تظل تنتمي إلى مخرجين نتشارك محبتهم، وتبقى -بما هي مساراتٍ- متفرعةً من الجادات وتفضي إليها. بالإضافة -وهو الأهم- إلى أننا نحن، المشّائين، سوف نواصل المشي بصرف النظر عن الطريق سواء كانت مسارًا أم جادّة، فما دام في القدمين عافيةٌ وفي العينين بصيرةٌ وفي الدنيا أفلام سنواصل حتى نلاقي -في نهاية المطاف- روبرت فالزر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
مشوار المشي. روبرت فالزر. ترجمة نبيل الحفار. منشورات الجمل. 1.2018.
لسان العرب. ابن منظور. الجزء 15- ص 282- مادة «مشي». دار صادر. 2.2013.
3.سعدي يوسف.